انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا مقطع مصوّر يُظهر أفرادا من الشرطة ومسؤولين من هيئة الرعاية الاجتماعية الألمانية وهم ينتزعون طفلا مسلما من أسرته العربية المهاجرة، في مدينة بريمرهافن الواقعة شمال البلاد.
يرصد المقطع أفرادا من الشرطة وعناصر من وكالة حماية الأطفال داخل غرفة معيشة، وهم ينتزعون الطفل الذي يحاول الإفلات من بين أيديهم والتشبث بأهله وأرض منزله، فيما يبكي ويصرخ طالبا المساعدة ويبدو خائفا. كما يُظهر المقطع ذاته امرأتين من أسرة الطفل وهما تُبلغان عناصر الشرطة بأن الطفل يعاني من مشكلات صحية ويحتاج إلى البقاء مع أسرته، فيما يرد أحد أفراد الشرطة قائلا إن القرار صادر عن المحكمة ومكتب رعاية الأطفال والشباب “يوغند آمت”. كما يُظهر المقطع شرطية ألمانية وهي تدفع إحدى قريبات الطفل في غلظة وعنف ملحوظين، قبل أن تفقد المرأة أعصابها مع رحيل الطفل وتدفع هي الأخرى أفراد الوكالة بخشونة.
أثار المقطع تعاطفا كبيرا وتضامنا مع الأسرة العربية، وتصدّرت مواقع التواصل وسوم مثل “أوقفوا خطف أطفالنا” و”أنقذوا أطفال المسلمين”، وعلّق البعض قائلا إن الحكومات الغربية تتعمد خطف أطفال المهاجرين واللاجئين، كي تهبهم لأسر من مواطنيها بسبب تناقص أعداد المواليد في بلادهم. في الوقت ذاته زعم ناشطون في مواقع التواصل أن سحب الطفل من عائلته يأتي إثر استجواب تعرّض له في المدرسة، وأفاد خلاله أن أسرته تؤكد على عدم توافق المثلية الجنسية والشريعة الإسلامية.
لم يتمكن أحد من التأكد من صحة هذه المعلومات بشكل مستقل، والسبب في ذلك نقص المعلومات التي توفرها السلطات الألمانية نفسها، والتي اكتفت ببيان مقتضب صادر عن شرطة برمرهافن أشار إلى أن المقطع المتداول كان لعملية مشتركة بين مكتب رعاية الشباب وشرطة بريمرهافن، مؤكدا “كذب الادعاءات المذكورة”” حول أسباب هذا الإجراء، ومشيرا إلى أن “أخذ الأطفال للرعاية يعد الملاذ الأخير، ولا يحدث إلا لأسباب جادة”، دون تقديم أي توضيحات حول طبيعة هذه الأسباب.
مزمار هاملن
عموما، ليست تلك هي الحالة الأولى التي يُنتزع فيها طفل عربي من أسرته في أوروبا خلال السنوات الأخيرة، صار هذا حدثا معتادا بين حين وآخر، إلا أن وتيرة حدوثه ربما تزداد في دول بعينها، مثل ألمانيا أو السويد، المشهورة هي الأخرى بمكتب رعاية آخر اكتسب سمعة سيئة وهو “السوسيال”. كما تنتشر وكالات ذات مهام مشابهة في بقية الدول الأوروبية تحت مسميات مختلفة، في هولندا مثلا يوجد “مجلس حماية الطفل (Raad voor de Kinderbescherming)”، وفي بريطانيا توجد باسم خدمة الاستشارات والدعم لمحكمة الأسرة والطفل.
نشطاء على منصات التواصل الاجتماعي يتداولون مقاطع فيديو لأطفال يشكون سوء معاملتهم في السويد ويطالبون بالعودة إلى ذويهم pic.twitter.com/yrkicHqj3L
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) February 19, 2022
في ألمانيا، تُظهر الإحصاءات ازديادا ملحوظا في أعداد الأطفال الذين قامت وكالة “يوغند آمت” بسحب حضانتهم من ذويهم خلال السنوات الأخيرة، وعلى سبيل المثال، كان عدد الأطفال الذين يعانون من مشكلات تتطلب حماية الوكالة 23 ألفا في عام 1995، فيما بلغ العدد 77 ألفا في عام 2015. وتُرجع الوكالة تلك الزيادة إلى دخول عدد كبير من الأطفال اللاجئين إلى الأراضي الألمانية بدون وجود مرافق.
لفهم ما يحدث ربما علينا التوقف قليلا مع “يوغنت آمت” نفسها، وهي وكالة محلية موجودة في بلديات المدن الألمانية، تُعنَى بشؤون الأطفال والمراهقين. في بعض المناطق يكون للوكالة اسم مختلف، مثل “قسم الشباب (Fachbereich Jugend)”، أو “مكتب الأسرة المتخصص (Fachbereich Familie)”، أو “مكتب الأطفال والشباب والأسرة (Amt für Kinder Jugend und Familie)”.
يعود تاريخ إنشاء مكاتب الشباب في ألمانيا إلى فترة جمهورية فايمر في عام 1922، ولا يقتصر دورها الرسمي على دعم الأطفال والمراهقين المهمشين أو الذين تعرضوا للإيذاء فحسب، بل تقدم المشورة والدعم لجميع الأسر، وفق ما هو مذكور في الموقع الرسمي للوكالة. وفي حال وجود أي أسئلة بخصوص رعاية الأطفال أو مواجهة أي تحديات تتعلق بتنشئة الأطفال، يمكن دائما التواصل مع موظفي مكتب رعاية الشباب المعني في كل منطقة.
صلاحيات “يوغند آمت” غير محدودة، وهي تحصل على المعلومات اللازمة عن الأسر والأطفال الذين يستحقون الرعاية من خلال عدة طرق، تأتي على رأسها المدارس الألمانية، إذ يجب على المدرسة تبليغ المكتب بأي اختلال أو تغييرات تبدو على الأطفال الدارسين، حتى لو تمثل هذا التغيير في تدني المستوى الدراسي بعض الشيء. وتعدّ الشرطة أيضا قناة للمعلومات، ففي حالة حدوث نزاع عائلي بين زوجين، يجب على الشرطة إعلام المكتب بالتفاصيل، حتى لو لم يكن الأطفال طرفا أو شهودا على النزاع. يتحمل الأطباء كذلك مسؤولية إبلاغ المكتب عند رصد حالة عنف بدني أو نفسي يمارَس ضد طفل، أو حتى ملاحظة أي مظاهر للإهمال من قبل الوالدين.
لا تقف الأمور عند هذا الحد، ففي مقدور أي شخص في محيط الطفل أن يتوجه بالشكوى إلى المكتب، مثل الأقارب والجيران وزملاء الدراسة، في حال رصده أي علامات على الإهمال أو سوء المعاملة، يشمل ذلك ترك الطفل دون غذاء، أو عدم العناية بنظافته الشخصية، أو وجوده في بيئة غير آمنة، كذلك تركه دون رعاية صحية مناسبة عند مرضه.
تشكك وخوف دائمان
المشكلة الحقيقية أن الأمور لا تقف عند هذا الحد، خاصة حين يتعلق بأسر المهاجرين واللاجئين، الموضوعِين دائما في موضع الشك والاتهام من قبل السلطات، ما يجعلهم مهددين بفقدان أطفالهم. وهو ما يجعل البعض يُشبّهون وكالات الرعاية في أوروبا، وفي ألمانيا على وجه الخصوص، بأسطورة “زمار هاملين الشهيرة”، حين قام الزمار بعزف لحن على مزماره ليتبعه أطفال البلدة جميعا إلى كهف قريب، قبل أن تنطبق عليهم المغارة وتنقطع أخبارهم عن ذويهم إلى الأبد.
قمنا في ميدان بالتواصل مع عدد من الأسر العربية المقيمة في أوروبا، وفي دولة ألمانيا على وجه الخصوص، حيث عبّروا لنا عن مخاوفهم بشأن وكالات الرعاية. وتمحورت هذه المخاوف بشكل رئيسي حول تضخم صلاحيات وكالة الرعاية، إذ في مقدورها أن تستقي البيانات من أي مصدر تشاء، بخلاف كونها على دراية تامة بالتشريعات وقوانين المحاكم الألمانية، ما يجعلها خصما لا يمكن مواجهته إذا ما قررت وضع أسرة تحت المراقبة، خاصة أنها مصدَّقة بدرجة كبيرة لدى القضاء الألماني.
البعض الآخر أشار إلى المشكلات الخاصة بغياب الشفافية حول عمل الوكالة، ففي الواقعة الأخيرة على سبيل المثال لم يُعلَن حتى الآن السبب وراء سحب حضانة الطفل، واكتُفي بتعليق من شرطة المدينة ينفي ما تردد على وسائل التواصل الاجتماعي، دون تحديد السبب الحقيقي، رغم أن الملايين شاهدوا ما تعرضت له الأسرة من إهانة وإذلال.
في حديث خاص لميدان، عبّرت “مها.م”، سيدة عربية تقيم في برلين منذ 4 أعوام، عن خوفها الدائم من مكتب الرعاية، لأن بلاغا واحدا من أي شخص ولو كان كيديّا أو نتيجة سوء فهم يمكن أن يقلب كيان الأسرة رأسا على عقب، حسب قولها. وتضيف “مها”، وهي أم لطفلتين في الخامسة والثامنة من العمر: “أخشى أن تصاب إحداهما خلال اللعب أو مزاولة نشاط بدني، أي إصابة أو جرح يمكن أن يدفع أفراد مكتب الرعاية للاشتباه بسلوك الأسرة، خاصة أن المهاجرين يقبعون دائمة في دائرة الشكّ”.
تُشير “مها” إلى حادثة مماثلة جرت في عام 2019 لأسرة سورية، حين قام أحد أقارب الأسرة بتعليق طفلهم البالغ من العمر عاما ونصفا على باب البيت وتصويره على سبيل الدعابة، ثم قدّم الصورة إلى وكالة الرعاية بعد ذلك، حين نشبت بينه وبين ربّ الأسرة خلافات، على أنه دليل على قسوة معاملة الأسرة لأطفالها.
وقد واظب موظفو “يوغند آمت” على زيارة تلك الأسرة للاطمئنان على الأطفال نحو عامين، قبل أن يأخذوا الطفل إلى أحد مراكز الرعاية لمدة 11 شهرا، تعرّض أثناءها للضرب على رأسه من إحدى الموظفات، وفق تصريح الأب، ورغم أن المحكمة قضت بإعادته إلى بيته، تجاهلت الوكالة القرار ونُقِل إلى عدة أماكن، وقد تعرّض الصغير إلى تحرّش جنسي في تلك الأثناء، وفق تصريح والده الذي أعلن حصوله على تقرير طبي يؤيد كلامه.
الخوف من عربة الإسعاف
سيدة أخرى تعيش في برلين طلبت عدم ذكر اسمها، تحكي أنها مرّت خلال العام الماضي بوعكة صحية، ومع ذلك ترددت في طلب سيارة الإسعاف، لأن المنزل لم يكن مرتبا بشكل جيد، وخافت أن يقوم رجال الإسعاف بإبلاغ دائرة “يوغند آمت” عن إهمالها للأطفال. وتقول إن الفكرة راودتها بعد أن حدث الأمر ذاته مع صديقة مهاجرة في برلين منذ فترة، حيث كال لها المسعفون الإهانة على وضع المنزل غير المرتب ثم أبلغوا الدائرة عنها، مثلما تعرضت صديقة أخرى للأمر ذاته من جانب عامل صيانة.
ولتلك المخاوف ما يؤيدها، ويكفي أن نلقي نظرة على التقرير الصادر عن البرلمان الأوروبي في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، والذي يناقش دور وكالة الرعاية الألمانية في النزاعات الأسرية العابرة للحدود، إذ يكشف عن تلقي لجنة الالتماسات في البرلمان العديد من الشكاوى على مدار 10 سنوات، يندد خلالها آباء غير ألمان بالتمييز المنهجي والتدابير التعسفية المتخذة ضدهم من قِبل وكالة “يوغند آمت”، في النزاعات الأسرية التي تشمل حضانة الأطفال.
إحدى النقاط الواردة في التقرير والمثيرة للاهتمام تتمثل في إدانة اللجنة للإجراء الذي اتخذه مسؤولو “يوغند آمت” بحظر الاتصال بين الآباء غير الألمان وأطفالهم، نتيجة عدم امتثال هؤلاء الآباء لاستعمال اللغة الألمانية أثناء المحادثة مع أطفالهم في حالات الاتصال الأبوي تحت الإشراف. كما ينتقد التقرير غياب البيانات الإحصائية المتعلقة بعدد القضايا التي لم تكن فيها أحكام القضاء متماشية مع توصيات الوكالة، ونتائج النزاعات الأسرية التي تشمل أطفال الأزواج مزدوجي الجنسية، على الرغم من الطلبات المتكررة على مدى سنوات عديدة بإتاحة تلك البيانات للجمهور.
في ظل هذه البيئة التشكيكية والعدائية، يتبادل المهاجرون واللاجئون النصائح اللازمة للإفلات من القبضة الباطشة لـ”يوغنت آمت” ووكالات الرعاية. يروي “وائل”، وهو طبيب مصري مقيم أيضا في ألمانيا، كيف أسدى له أصدقاؤه النصائح فور وصول أفراد أسرته، كي يتجنب الصدام مع وكالة الرعاية، وكان أهمها ألا يترك أطفاله بمفردهم في المنزل، وأن يخفض صوته كي لا يسمعه الجيران، إضافة إلى الاهتمام بمظهر الأطفال خاصة في المدرسة، والتواصل مع معلمي الأطفال بين آن وآخر ولو بشكل ظاهري، كي يرى هؤلاء مدى اهتمامه بالأولاد.
يقول “وائل”: “شعرت بسخافة تلك النصائح، لأنها كفيلة بتحويل علاقتي مع أولادي إلى تمثيلية أو مسرحية سمجة، أؤدي فيها دور الأب كما ترسمه سلطة الوكالة، وأفقد التواصل الحقيقي بعائلتي يوما بعد يوم”.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.