باريس- شارك أكثر من 6 آلاف شخص، أمس الخميس، في احتجاج أطلق عليه اسم “المسيرة البيضاء” تكريما لذكرى فتى يبلغ من العمر 17 عاما قُتل الثلاثاء الماضي على يد شرطي في منطقة نانتير بضواحي العاصمة الفرنسية باريس.
وأثارت وفاة الفتى نائل، وهو من أصول جزائرية، اشتباكات مع عناصر الأمن امتدت إلى مدن أخرى في جميع أنحاء البلاد، وأحيت مشاعر الغضب وعدم الثقة في الشرطة، وجاءت بعد أن قُتل 13 شخصا العام الماضي بسبب رفضهم الامتثال لعمليات تدقيق مرورية.
كما أدت هذه الحادثة، التي هزّت الشارع الفرنسي، إلى تسليط الضوء على الأحياء الشعبية في الضواحي والظروف الصعبة التي تواجه ساكنيها، خاصة من الشباب.
إسكان بدون تخطيط
شهدت فرنسا فترتين من الهجرة الجماعية منذ عام 1945، بدأتا بما كانت تسمى “سنوات الازدهار” عندما شُجِّعت العمالة الأجنبية، قبل أن تليها سنوات من الأزمات وإغلاق الحدود.
ويمكن القول إن 3 لحظات تتداخل في تكوين ضواحي الطبقة العاملة، تتمثل في العصر الصناعي وتراجع التصنيع الذي بدأ في الخمسينيات، ثم بناء المجمعات الكبيرة ودخول أزمة تخطيط النماذج من 1970.
على ضوء ذلك، ارتفع عدد المهاجرين من 1.7 مليون شخص عام 1946 إلى ما يزيد قليلا على 3.5 ملايين أوائل التسعينيات، وفق المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية (إنسي).
توضح فيرجني مارتن، أستاذة العلوم السياسية وعلم الاجتماع في كلية “كيدج” للأعمال، أن تدفق السكان كان كبيرا جدا منذ نهاية الحرب الجزائرية، وهو ما أدى إلى بناء أحياء كاملة من دون تخطيط عمراني.
ووفق حديث مارتن للجزيرة نت، فإن هذه الأحياء الممتدة على مساحات شاسعة تحولت إلى أماكن صعبة للغاية ومعزولة يعاني سكانها الفقر اقتصاديا وفكريا.
من جانبه، يستذكر المحلل السياسي كميل ساري خطابا للرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران عن الهجرة، قال فيه إن “المهاجرين لم يأتوا بمفردهم وإنما تم جلبهم بالشاحنات والقوارب، لأن فرنسا كانت في حاجة إلى العمالة في المناجم وصناعة السيارات والأشغال العامة وجميع الصناعات الملوثة التي يرفضها الفرنسيون”.
وأضاف ساري أن “هؤلاء المهاجرين قاموا ببناء فرنسا لكن وجودهم في البلاد شهد عديدا من التطورات”:
- فمن جهة، أسهم السماح للمهاجر بلم شمل الأسرة منذ عام 1974 في زيادة أعدادهم وتسريع أزمة العقارات السكنية الكبيرة.
- ومن جهة أخرى، تخلت صناعة السيارات عن الأيدي العاملة، مستعينة بروبوتات تحتاج إلى فنيين رفيعي المستوى، وهم غالبا فرنسيون، فضلا عن إغلاق عدد كبير من المناجم.
سياسة قديمة للعزلة
من جهتها، ترى أستاذة العلوم السياسية وعلم الاجتماع مارتن أن “بلديات المدن التي تقودها الحكومة اليسارية حاولت تصحيح هذا الوضع بسياسة ترابطية قوية للغاية وضوابط شرطة محلية”.
فعلى سبيل المثال، كان ضباط الشرطة منسجمين مع أفراد المجتمع في تلك المناطق ويلعبون كرة القدم مع أطفال الحي. لكن اليمين، خاصة في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، أنهى كل ذلك بين عامي 2005 و2010 وفُقدت همزة الوصل “لنغرق في هوامش جغرافية واجتماعية واقتصادية وسياسية”، على حد تعبير مارتن.
ولا يزال من الصعب تقييم أعداد السكان الذين يعيشون في الضواحي، لأنها لا تمثل معيارا إحصائيا لمعهد “إنسي” الفرنسي، لكن التقديرات تشير إلى أن نحو 20 مليون شخص يعيشون في ضواح موزعة على أكثر من 3300 بلدية.
وفي حديثه للجزيرة نت، يصف المحلل الاقتصادي كميل ساري الأحياء عام 1977 -عندما وصل لأول مرة إلى فرنسا- بقوله “كانت المباني السكنية متنوعة الثقافات، قبل أن تفرض الحكومة دفع أموال إضافية على الأشخاص ذوي الدخل المرتفع، وهو ما دفع الفرنسيين إلى شراء المنازل أو الانتقال إلى أماكن أخرى”.
وأضاف ساري أن المهاجرين آنذاك شكلوا 30% من سكان الضواحي قبل أن يرتفع هذا الرقم كالصاروخ ليصل اليوم إلى 90%.
تهميش ممنهج
ومن الجدير القول إن الحكومات السابقة استثمرت مليارات اليوروهات لتحسين أوضاع الأحياء الشعبية من خلال تجديد العقارات السكنية وإنشاء الجمعيات.
لكن كل هذه الجهود، برأي المحلل السياسي، “لم تأتِ بنتائج إيجابية، لأن الجانب الإنساني كان مفقودا، ودمج الشباب في مجال العمل والتدريب كان منعدما”، مؤكدا أن “ما يحدث اليوم لا يتعلق بالمال، بل بالاندماج وقبول الآخر”.
وفي هذا الإطار، يقول ساري إن الحكومة تعمدت استقطاب المهاجرين الذين يعيشون في الجبال وليس المتعلمين في المدن، لأنها كانت تخشى أن يصبحوا نشطاء أو أعضاء نقابات أو ينضموا إلى أحزاب سياسية.
وفي السياق ذاته، ترى مارتن أن الضواحي التي كانت تسكنها مجموعات مختلطة على أطراف المدن، أصبحت تعاني التهميش تدريجيا بعد أن قررت الحكومات المتتالية أن الأموال المقدمة للجمعيات فيها عديمة الفائدة وتتضمن أموالا مختلسة وغيرها، واصفة ذلك بـ”التشخيص الاجتماعي الخاطئ”.
وتعتقد أستاذة العلوم السياسية أن شباب هذه المجتمعات يصعب فهمه “لأنه معقد ومختلط”، فحسب قولها “يمكن أن نرى امرأة تعيش في الضواحي وترتدي الحجاب وتؤدي 5 صلوات في اليوم، لكنها تدرس الهندسة وتعزف الموسيقى في المساء، وتذهب في إجازة إلى ستوكهولم”.
وتشير مارتن هنا إلى شريحة واسعة من الفرنسيين لا يزالون ينظرون بطريقة نمطية لهذه الأحياء، لكنها تضيف أن هناك شريحة تعتبر أن سكان الضواحي لن يتطوروا أبدا ويضعونهم في خانة من يتحدثون بسوقية ويتعاطون المخدرات.
قنبلة موقوتة
جاء مقتل الفتى نائل ليُحيي النقاش حول أوضاع الأحياء الشعبية في فرنسا، حيث اندلعت شرارة اشتباكات عنيفة مع قوات الأمن في باريس ومدن أخرى، بما في ذلك مارسيليا التي تضم أكبر جالية جزائرية في البلاد.
وفي ظل هذه الأحداث، تنتقد مارتن الحكومة الحالية بالقول إن “فرنسا تعيش مناخا مليئا بالعنف منذ وصول الرئيس إيمانويل ماكرون، ونرى ذلك جليا في تظاهرات السترات الصفراء وأزمات كوفيدـ19 وقانون إصلاح التقاعد”، مؤكدة أن الحكومة تتخذ موقف اللامبالاة على الرغم من أنه من المحتمل أن يزداد الوضع الحالي سوءا في الفترة المقبلة.
وتضرب مارتن مثلا بأزمة “السترات الصفراء” (حركة احتجاجية بدأت عام 2018 نادت بتخفيض الضرائب ورفع الأجور) التي استمرت لعامين متتاليين حتى قدمت الحكومة شيكا بمبلغ 17 مليار يورو وأغلق الملف نهائيا. وبالتالي، ستكون غير مبالية لحادثة الشاب نائل. لذا، تعتقد أن “حالة التمرد والعنف” ستخمد مع مرور الوقت، على حد تعبيرها.
وتضيف أن “الحكومة تتعامل مع ما يحدث بشكل سخيف لا علاقة له بالسياسة على الرغم من أنه مهم ويمس الحياة السياسية بالفعل”.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.