نظرية “بيغ فارما”.. هل حقا تتآمر شركات الأدوية للتربح من آلام الناس؟


“في العام الماضي، كان 16 مليون شخص يحصلون على العلاج الكيماوي يوميا، متوسط ثمن الجرعة هو ألف دولار، ما يعني 16 مليار دولار يوميا، لا يوجد اقتصاد في العالم يكسب مثل هذا المبلغ، نتحدث هنا عن قوة خفية وتجارة عالمية هائلة”، كان هذا تصريحا حديثا للممثل المصري ولاعب التايكوندو الذي لاقى شهرة واسعة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي “يوسف منصور” في أحد اللقاءات التلفزيونية، التي قال خلالها إن علاج السرطان بسيط لكن لا أحد يسمح لك بالوصول إليه.

هذا النمط من الادعاءات متكرر في العالم العربي وعالميا، وما يتحدث عنه منصور (ومئات الآلاف غيره) هو جانب مما بات يُعرف حاليا باسم “نظريات المؤامرة الخاصة بشركات الأدوية الكبرى” أو اختصارا “بيغ فارما” (Big Pharma)، وهي تلك الادعاءات التي تشير مجتمعة إلى أن شركات الأدوية الكبرى تسعى لتحقيق الربحية بوسائل شريرة وسرية، مثل إخفاء العلاجات الفعالة حقا لعلاج مرض ما مثل السرطان أو الضغط أو السكري، تلك التي يمكن أن توقفه تماما، وفي المقابل إنتاج وترويج عقاقير تُبقي الحالة في وضع مستقر فقط حال استُخدمت طوال العمر. وبهذه الطريقة، فإن شركات الأدوية تتصرف مثل تجار المخدرات الذين يستغلون عملاءهم بعد أن أصبحوا مدمنين، لتوليد تدفق لا نهاية له من الأرباح.

 

بل وهناك صورة أكثر تشاؤما من النظرية تروج أن الأمراض ذاتها هي منتج شركات الدواء الرئيسي، ثم بعد أن ينتشر المرض بطريقة أفلام هوليوود، تظهر الشركة بالعقار لتحقق أرباحا هائلة، إلى جانب المكاسب السياسية، يجري كلٌّ من الصورتين على كل مرض أو علاج تعرفه تقريبا، بداية من أحدث الأدوية لعلاج سرطانات الدم ووصولا إلى الباراسيتامول الذي تستخدمه مع الصداع.

 

هل هذا صحيح حقا؟

بعض نظريات المؤامرة تروج بشكل مباشر لخرافات لا يوجد دليل عليها، أو تتعمد التلاعب بالأدلة، أو تعتمد على أدلة ضعيفة، أو تستند إلى قصص مختلقة من بابها.
بعض نظريات المؤامرة تروج بشكل مباشر لخرافات لا يوجد دليل عليها، أو تتعمد التلاعب بالأدلة، أو تعتمد على أدلة ضعيفة، أو تستند إلى قصص مختلقة من بابها. (شترستوك)

دعنا في البداية نقل إنه يمكن أن تكون هناك نظريات مؤامرة حقيقية ومقبولة، مثلا الادعاءات بأن وكالات الخدمة السرية أيًّا كانت تنتهك بشكل روتيني قوانين الخصوصية يمكن أن تقع ضمن نظريات المؤامرة المقبولة، تآمر دولة كبرى ما للاستفادة من موارد دولة أخرى كالبترول مثلا أو الذهب ومن ثم التدخل المباشر في سياسات تلك الدولة أو إدخالها في حالة من الاضطراب السياسي هو كذلك نظرية مؤامرة ممكنة.

 

الأمر إذن أننا لا ننكر بالإطلاق فكرة وجود المؤامرات، لكن المشكلة هي أن بعض تلك النظريات تروج بشكل مباشر لخرافات لا يوجد دليل عليها، أو تتعمد التلاعب بالأدلة، أو تعتمد على أدلة ضعيفة، أو تستند إلى قصص مختلقة من بابها.

 

لنأخذ إحدى أشهر الحالات المتعلقة بنظرية “بيغ فارما” وهي مرتبطة باللقاحات. في عام 1998 نشر أندرو ويكفيلد، وهو طبيب بريطاني، دراسة في دورية “ذا لانسيت” ترصد وجود علاقة بين حالة اثني عشر طفلا يعاني معظمهم من اضطرابات طيف التوحد وبين حصولهم على لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية، اقترح ويكفيلد أن إعطاء الأطفال اللقاحات في ثلاث جرعات منفصلة سيكون أكثر أمانا من لقاح بجرعة واحدة.

 

لاحقا، حاولت فرق بحثية أخرى -بسبب هول النتيجة التي توصل إليها ويكفيلد- إعادة إنتاج تجربته وفحص دقة النتائج مع عدد أكبر من الأشخاص، خاصة أن دراسة واكفيلد كانت صغيرة حقا، لكن نتائج تلك الدراسات لم تُسفر عن أي علاقة بين التوحد واللقاحات. الأخطر من ذلك ما كشفه مقال نُشر في “بريتش ميديكال جورنال” أوضح تزوير البيانات الواردة في دراسة واكفيلد بهدف الوصول إلى نتيجة محددة مسبقا، وهو ما دفع دورية “ذا لانسيت” إلى سحب الورقة بالكامل. في النهاية، شُطب ويكفيلد من السجل الطبي في المملكة المتحدة ومُنع من ممارسة المهنة، لكنه لم يسكت، بل أصر على رأيه، وخرج للإعلام مصرحا بأن اللقاحات ضارة، وطالب الناس بمنع أطفالهم من الحصول عليها.

 

كان ما سبق هو الجذر الرئيسي لأحد جوانب نظرية “بيغ فارما”، انتشرت الادعاءات القائلة إن اللقاحات (كلها) ليست إلا مؤامرة من شركات الدواء لجمع الأرباح، وبالفعل انخفض تلقي اللقاحات في المملكة المتحدة إلى 80% من النسبة المطلوبة، قامت حملات إعلامية ضخمة بمحاولة توضيح الأمر للناس لكن النظرية لم تتوقف، وخلال أزمة “كوفيد-19” نما جمهور منظري “بيغ فارما”، الذين قالوا إن لقاحات كورونا ليست إلا محاولة من شركات الدواء للتربح من مرضنا، أو إنها الحل لمرض اختلقته شركات الأدوية في المعمل، هذا بجانب فريق ثالث زعم أن اللقاحات ليست إلا روبوتات صغيرة جدا تتحكم في أدمغتنا.

 

كل ما سبق حدث رغم الدليل العلمي على فعالية حملات التلقيح واسعة النطاق، في الواقع لقد أثبتت الدراسات أن التطعيم يمنع ما بين مليونين وثلاثة ملايين حالة وفاة كل عام في جميع أنحاء العالم، ويمكن منع حدوث 1.5 مليون حالة وفاة إضافية كل عام إذا استُخدمت جميع اللقاحات الموصى بها. وقد ساعدت حملات التطعيم في القضاء على مرض الجدري، وقضت على شلل الأطفال تقريبا، وهو مرض لم تعد تسمع عنه إلا نادرا، لكن يمكن أن تسأل أبويك أو جديك عن آثاره على المجتمع في الماضي.

 

مغالطة الدراسة المنفردة

الإجماع العلمي، الذي لا يعني إجماع كل العلماء، ولكنه يشير إلى أن غالبية العلماء يميلون إلى دعم توجه ما بسبب أن النشاط البحثي يميل لتأييده بعد فترة طويلة من البحث والتقصي
الإجماع العلمي لا يعني إجماع كل العلماء، ولكنه يشير إلى أن غالبية العلماء يميلون إلى دعم توجه ما بسبب أن النشاط البحثي يميل لتأييده بعد فترة طويلة من البحث والتقصي. (شترستوك)

كان السبب الأكبر في انتشار قصة واكفيلد غير متعلق فقط بالطبيب نفسه، ولكن بورقة بحثية نُشرت في دورية مرموقة، وفي هذا السياق هناك خطأ يقع فيه الكثيرون وهو ما يسمى “مغالطة الدراسة المنفردة”، افترض مثلا أن ورقة ويكفيلد المفبركة كانت صحيحة، هل يمكن أن تكون ورقة بحثية واحدة هي إشارة إلى حقيقة علمية؟

 

في الواقع، لا تصدر آلاف الأوراق البحثية شهريا، بعضها مهم ويُمثل نقلة في نطاقه، لكن الغالبية ليست كذلك، ويتضح ذلك في الدراسات التي عادة ما تنتشر أخبارها على وسائل التواصل الاجتماعي. على مدى خمس سنوات مثلا يمكن أن تقرأ مجموعة من الأخبار المتنوعة التي قد تكون متضاربة عن فوائد الشاي أو القهوة أو الشوكولاتة، بل قد تجد خبرا يقول إن هناك ورقة بحثية تقول إن الشاي يضر بالقلب وأخرى تقول إنه يحمي القلب.

 

في النطاقات الطبية تحديدا ستجد دراسات تشير إلى وجود فوائد للشاي والثوم وخل التفاح والبصل وكل ما يمكن أن يخطر ببالك من نباتات، ولكن ما يؤكد أو ينفي صحة تلك النتائج لا يمكن أبدا أن يكون دراسة واحدة، بل هو الإجماع العلمي، الذي لا يعني إجماع كل العلماء، ولكنه يشير إلى أن غالبية العلماء يميلون إلى دعم توجه ما بسبب أن النشاط البحثي يميل لتأييده بعد فترة طويلة من البحث والتقصي أنتجت مجموعة ضخمة وقوية ومتسقة من الملاحظات والقياسات والتجارب العلمية والنتائج التي تتبعها.

 

يمكن أن يوجد علماء لا يتفقون مع هذا التوجه، ولا يُمثل هذا مشكلة، لكن المشكلة تظهر حينما يتم الاستشهاد برأي منفرد أو توجه أقلية على أنه “الحقيقة العلمية”، يظهر ذلك بوضوح في القضايا الجدلية، كالتطور واللقاحات والتغير المناخي، وهي كما ستلاحظ دائما مناطق عادة ما تكون لافتة لانتباه منظري المؤامرة، لأن تلك هي علامة أساسية لنظريات المؤامرة الخرافية، وهي جمع قصاصات من حكايات حقيقية وليس الحكاية كلها.

 

نصف حقيقة

بعض تلك النظريات تروج بشكل مباشر لخرافات لا يوجد دليل عليها، أو تتعمد التلاعب بالأدلة، أو تعتمد على أدلة ضعيفة، أو تستند إلى قصص مختلقة من بابها.
رغم أن بعض الأخطاء الطبية قد تكون غير مبررة، ففي غالب الأمر تكون الموجة الإعلامية القائمة متعلقة بعدم إدراك الناس لفكرة أن الخطأ الطبي ممكن، وهناك دائما احتمالية لحدوثه. (شترستوك)

في الواقع، في العديد من نظريات المؤامرة تكون هناك حقائق جزئية ملموسة تدعم النظرية، على سبيل المثال فالأدوية لها آثار جانبية، والعديد من هذه الأعراض يكون عادة مزعجا وبعضها يمكن أن يكون خطيرا، لكن في المقابل يكون الناتج الكلي أقل خطورة مقارنة بعدم أخذ المريض للعلاج أصلا. بالإضافة إلى ذلك، ليست كل التدخلات الطبية ناجحة، وفي الثقافة الطبية السائدة يبدو أن الناس غالبا لا يفهمون أن النتائج السلبية تحدث أحيانا حتى عندما يتم كل شيء بشكل صحيح.

 

يظهر ذلك بوضوح في كل مرة تُثار فيها موجة من المؤامرات مع كل خطأ طبي يحدث في حق ممثل أو سياسي ما، ورغم أن بعض الأخطاء قد تكون غير مبررة، ففي غالب الأمر تكون الموجة الإعلامية القائمة متعلقة بعدم إدراك الناس لفكرة أن الخطأ الطبي ممكن، وهناك دائما احتمالية لحدوثه.

 

بل تأمل مثلا ما يسمى بجراحة الموقع الخطأ (wrong site surgery)، وتعني الجراحات التي تُجرى على الجزء أو الجانب الخاطئ من الجسم أو المريض الخطأ أو على مستوى تشريحي غير صحيح (على سبيل المثال بتر القدم الخطأ)، قد تتصور أن ذلك نادر جدا أو غير ممكن الحدوث، لكن تُنبئنا إحدى الدراسات الحديثة نسبيا عن وقوع من 25 إلى 52 عملية جراحية في الموقع الخطأ أسبوعيا في الولايات المتحدة فقط، وأن بعض المتخصصين أكثر عرضة للوقوع فيها، مثل جراحي العمود الفقري. وفي دراسة أخرى نُشرت في مجلة طب وجراحة الأعصاب والعمود الفقري، أفاد 25% من جراحي العظام بإجراء عملية جراحية واحدة على الأقل في موقع خطأ خلال حياتهم المهنية.

 

السرطان وبيغ فارما

الأرقام التي أظهرتها منظمة الصحة العالمية حول حالات السرطان بالعالم، تدعو إلى ضرورة النظر إلى مرض السرطان باعتباره وباء عالميًا مُستَجدا
يظهر منظرو “بيغ فارما” ليقولوا إن التحسن البطيء جدا في علاجات السرطان مستهدف لجعل الناس مثل مدمني المخدرات، يطلبون جرعات الكيماوي يوما بعد يوم. (غيتي)

ولا يوجد مكان تنتشر فيه هذه الأفكار المتعلقة بالآثار الجانبية المحتملة أكثر من نظريات المؤامرة التي تتضمن علاجات السرطان، لأن علاجات السرطان غالبا ما تكون خطيرة، وفي حين أن أنها تنجح بالفعل في تحسين النتائج للمرضى، فإنها لا تزال مزعجة بصور شتى، وقد يصل الأمر إلى أن يعاني المريض من جميع الآثار الجانبية للعلاج من دون الحصول على أيٍّ من الفوائد المرجوة.

 

تُستغل تلك المشكلات من جانب المروجين لنظرية “بيغ فارما” بكثافة، لكنهم عادة ما يتناسون عمدا شيئا مهما في علاج السرطان، وهو أنه -بسبب صعوبة المرض- فإن المريض لا يتلقى علاجا واحدا، بل تتكامل مجموعة من العلاجات معا لإعطاء نسبة تعافٍ عالية، مثل التدخل الجراحي والعلاج الإشعاعي والعلاج المناعي، ولذلك قد تكون نسبة نجاح أحد هذه العلاجات منفردا قليلة، لكنها تُجمع مع نسب نجاح العلاجات الأخرى لتعطي قيمة إجمالية أكبر، والواقع أنه إذا كنا نود التحدث عن نجاح علاج السرطان فيجب أن نعرف معدلات التعافي بالنسبة لكل نوع من أنواع السرطان (معدل البقاء لمدة خمس أو عشر سنوات)، لا نسبة نجاح علاج بعينه، لأنه عادة لا يوجد علاج واحد مستخدم.

 

في الواقع، لقد تحسَّنت معدلات التعافي من السرطان بشكل ملحوظ خلال العقود القليلة الماضية حول العالم باستخدام هذه البروتوكلات العلاجية المتداخلة، مجمل أنواع السرطان قد حصلت على معدل نجاة وصل إلى 67% من المشخَّصين بالمرض في كثير من الدول، وفي سرطانات مثل “الثدي” و”البروستاتا” و”الغدة الدرقية” تخطَّت نِسَب التعافي حاجز 90% في بعض الدول المتقدِّمة.

 

وبالطبع لا تزال هناك الكثير من المشكلات المتعلقة بالسرطان، فبعض أنواع السرطان لا تتخطى نسبة التعافي منها 20%، وفي المجمل فإن هجرة السرطان من عضو لآخر في الجسم (الانبثاث) يعني أن الحالة تطورت بشكل يجعل كل طرق العلاج أقل فاعلية، لكن في المجمل فإن نسب علاج السرطان في تحسن خلال عدة عقود مضت.

 

في تلك النقطة يظهر منظرو “بيغ فارما” ليقولوا إن التحسن البطيء جدا في علاجات السرطان مستهدف لجعل الناس مثل مدمني المخدرات، يطلبون جرعات الكيماوي يوما بعد يوم، لكن فقط يمكن أن تتأمل نجاح عقار “سوفالدي” (Sovaldi) الذي يعالج التهاب الكبد الوبائي سي، بدلا من مجرد قمع المرض كما فعلت العلاجات السابقة مثل الإنترفيرون والريبافيرين. كان إطلاق “سوفالدي” في السوق هو أكبر عملية مربحة لأي عقار في التاريخ. فأي شركة يمكن أن تفوت كل هذا الربح؟

 

سيقول لك أحدهم: هل تتصور ذلك؟ قرون من محاولات إيجاد علاج نهائي للسرطان ولم يفلحوا، هل تصدقهم؟ والواقع أن السرطان أعقد من كونه مجرد مرض، فهو متلازمة تضم عدة أنواع من الأمراض تصل في مجملها إلى 200 حالة مختلفة، كل منها يتنوع بشكل يجعل سرطان كل مريض مختلفا بشكل كبير عن المريض الذي يجلس بجانبه في المستشفى، لكن دعنا نتجاوز تلك النقطة الآن، فقد أجبنا عنها باستفاضة في تقرير سابق بعنوان: “معضلة الطب المعاصر.. لِمَ لم يجد العلماء علاجا للسرطان إلى الآن؟”.

 

مثل كل المؤامرات

إحدى سمات نظريات المؤامرة الخرافية، الحديث عن أن 1% من الناس هم جماعة سرية، ولكن هذا الرقم يُمثل ملايين الأشخاص، وإحصائيا لا يظل السر سرا بين هذا الكم من الناس
إحدى سمات نظريات المؤامرة الخرافية، الحديث عن أن 1% من الناس هم جماعة سرية، ولكن هذا الرقم يُمثل ملايين الأشخاص، وإحصائيا لا يظل السر سرا بين هذا الكم من الناس. (شترستوك)

اللقاحات وعلاجات السرطان هي فقط فروع رئيسية لشجرة ضخمة من الادعاءات تغذي مؤامرة “بيغ فارما”، لكنها في النهاية مثل أي نظرية مؤامرة خرافية تمتلك عددا من السمات الواضحة: فمثلا تمتلك النظرية حبكة أساسية تقول إن عددا قليلا نسبيا من الأشخاص يعملون في الخفاء ضد الصالح العام. إلى جانب ذلك يعتقد منظرو هذه المؤامرة أن معظم الناس يجهلون الحقيقة، وأن عددا قليلا فقط من الأشخاص يعرفون النتيجة الحقيقية (منظرو المؤامرة).

 

أضف إلى ذلك اعتقادات غير منطقية مثل أن عدم وجود دليل على المؤامرة هو دليل على المؤامرة، فكل شيء مخفي كما أسلفنا، وكذلك مغالطة “مَن المستفيد؟” (cui bono)، وتعني أن المستفيد من سوء الحظ يجب أن يكون سببا للمحنة، فمن سوء حظنا مثلا أن السرطان مرض غاية في التعقيد، لكن لأن شركات الأدوية تكسب من وراء إنتاج علاجات للسرطان فلا بد أنها المتسبب في السرطان أو على الأقل في تأخر علاجه.

 

كل هذا ولم نتحدث بعد عن السمة الأساسية لنظريات المؤامرة الخرافية وهي جمع النقاط التي لا علاقة لبعضها ببعض معا لبناء قصة، قد تصدق مثلا أن هناك مؤامرة لتمرير علاج ما رغم أنه لم يحصل على الموافقات الكاملة، عادة ما يكون المشتركون في هذه المؤامرة هم مثلا كبار موظفي الشركة وعضو برلماني وسياسي ما ورجل أمن، لكن في حالة المؤامرات الخرافية فإن الأمر يمتد ليشمل أشياء لا علاقة واضحة لها ببعضها بعضا: تمثال في أحد متاحف نيودلهي، محطة مترو في نيويورك، مارك زوكربيرغ، بيل غيتس، جملة مكتوبة على جدار معبد فرعوني، ثلاثة مبانٍ تصنع شكل نجمة الشيطان في بيروت، إلخ.

 

نظرية المؤامرة الخرافية عادة ما تظهر في كل شيء، حتى “بيغ فارما” نفسها تخطت شركات الأدوية لتتحدث عن منظومة كبيرة تتكون من شركات الدواء إلى جانب المنظمات غير الحكومية والحكومات نفسها والأطباء ونقاباتهم وكل مَن يمكن أن تكون له يد في صناعة الدواء في العموم، نتحدث هنا عن عدد من الناس أكبر بكثير من أن يتمكن من كتم السر، وهذه أيضا إحدى سمات نظريات المؤامرة الخرافية، الحديث عن أن 1% من الناس هم جماعة سرية، ولكن هذا الرقم يُمثل ملايين الأشخاص، وإحصائيا لا يظل السر سرا بين هذا الكم من الناس.

 

إلى جانب ما سبق فإن من عادة المؤمنين بنظريات المؤامرة الخرافية أن يجمعوا بين أفكار متناقضة تماما، منها مثلا أن شركات الدواء تقتل الناس وأنها كذلك تحاول أن تبقيهم عبيدا للأدوية، ومنها أن السحالي تحكم العالم وفي الوقت نفسه فإن هناك حكومة سرية بشرية تحكم العالم، ومنها أن كوكب نيبرو قادم لينهي العالم وفي الوقت نفسه فإن أحد الأشخاص (كان دونالد ترامب بالنسبة لنظرية كيو آنون) هو أشبه ما يكون بالنبي المخلص الذي سيقف بمواجهة الشر ليعيد العالم إلى عصر الصحوة حيث نعيش في سلام، وماذا عن المذنب إذن؟

 

أضرار جسيمة

شركات الأدوية ليست ملاكا من السماء، بل هي مثل كل تاجر يهدف إلى الربح، ولذلك ستجد مثلا أن شركات الدواء لا تستثمر في البحث والتطوير لمعالجة الأمراض التي تكون أسواقها صغيرة جدا أو تصيب سكان دول فقيرة جدا
شركات الأدوية ليست ملاكا من السماء، بل هي مثل كل تاجر يهدف إلى الربح، ولذلك ستجد مثلا أن شركات الدواء لا تستثمر في البحث والتطوير لمعالجة الأمراض التي تكون أسواقها صغيرة جدا أو تصيب سكان دول فقيرة جدا. (شترستوك)

المشكلة الأكبر أنه في خضم ذلك كله لا نتحصل إلا على الخسائر، أظهرت دراسة صادرة عن المركز الأميركي لمكافحة الأمراض والوقاية منها انخفاض معدلات التطعيم ضد الحصبة وشلل الأطفال والدفتيريا وأمراض أخرى بين أطفال الولايات المتحدة من 95% إلى نحو 94% خلال العام الدراسي 2020-2021، وانخفضت أكثر إلى 93% في العام الدراسي 2021-2022. هناك أسباب متنوعة لذلك، لكنَّ واحدا منها هو التردد الذي أصاب الآباء تجاه اللقاحات مع صعود منظري “بيغ فارما”. بالطبع تظل تلك النسب ضمن النطاق الآمن لانتشار الأوبئة مثل الحصبة والدفتيريا مرة أخرى، لكن هذا الانخفاض مهما كان يسيرا فإنه مؤشر خطير على المدى الطويل.

 

وفي حالة السرطان فإن المشكلة أكبر، فبعد إحباط شديد من طول العمليات العلاجية يتوجه الناس في بعض الأحيان إلى علاجات بديلة تعتمد على علوم زائفة (من الأعشاب إلى الطاقة) ويتركون بروتوكولات العلاج الكيميائي أو الإشعاعي مثلا، في بعض الحالات تكون هذه العلاجات البديلة ضارة، خذ مثلا خرافة انتشرت قبل عدة سنوات في الوطن العربي تقول هناك فيتامين يُدعى “B17” يمكنه أن يعالج السرطان. 

 

يقول مُروِّجو تلك الخرافة إن السرطان وهم صنعته شركات الأدوية لكي تدفع المرضى اليائسين إلى شراء الأدوية منهم، بينما السرطان الحقيقي هو مرض بسيط يمكن لمادة الأميجدالين (ب17) علاجه، ويوجد هذا الفيتامين في عدد من البذور الشهيرة مثل الخوخ. ما إن انتشرت تلك الأسطورة حتى سارع العديد من مرضى السرطان إلى ترك أدويتهم وبرامجهم العلاجية والبدء في ابتلاع أكبر قدر ممكن من البذور التي تحتوي على تلك المادة، لكن لم يتذكر أحد أن يخبرهم أن أحد منتجات هضم الأميجدالين في المعدة هو المانديلونايترايت، الذي بدوره يتحوَّل بعد الهضم إلى عدة مواد كيميائية منها سيانيد الهيدروجين السام حينما يؤخذ بكميات كبيرة.

 

في النهاية، فإن شركات الأدوية ليست ملاكا من السماء، بل هي مثل كل تاجر يهدف إلى الربح، ولذلك ستجد مثلا أن شركات الدواء لا تستثمر في البحث والتطوير لمعالجة الأمراض التي تكون أسواقها صغيرة جدا أو تصيب سكان دول فقيرة جدا لتوليد عائد إيجابي على هذا الاستثمار، وبالطبع يمكن أن تتآمر شركة أدوية ما لمنع نزول دواء جديد من منافس لها عبر رفع القضايا أو حتى قد يصل الأمر إلى دفع رشى وعمولات، والمحاكم مليئة بهذا النوع من القضايا.

 

أضف إلى ذلك أن هناك انتقادات مشروعة للطرق التي يتم من خلالها تطوير الأدوية وتسويقها من قِبل أباطرة الصناعة، وهناك حالات مرصودة لحجب النتائج السلبية واستخدام الممثلين للمبالغة في فوائد الأدوية الجديدة حين تقديم الدواء للأطباء، هذا ولم نتحدث عن جيوش مندوبي المبيعات الذين ينتشرون في عيادات الأطباء كل ليلة.

 

الفكرة إذن أن نظريات المؤامرة ممكنة، لكن لها جانب خرافي قد يكون ضارا جدا لك ولأطفالك في وقت كان الأولى فيه أن تشغل بالك بأشياء أهم، فقط تخيل حياة مريض ضغط أو سكري يعتقد أن شركات الدواء تتآمر لسحب الأموال من جيبه، وأن العلاج ليس في الأدوية، بل في النعناع وخل التفاح والتمر والعسل وممارسة التأمل!


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post هالة السعيد: الانتهاء من 160مشروعاً تنموياً بالقليوبية بتكلفة كلية 2.5مليار جنيه
Next post مشهد مرعب.. شاهد ماذا حل بجمجمة شاب بسبب سماعات الرأس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading