في الحلقتين السابقتين، تناولنا بؤر ومنابت جيوش المرتزقة الأفارقة في أفريقيا جنوب الصحراء، وظاهرة الشعوب المهاجرة وعوامل وأثر التداخل القبلي والعرقي والثقافات المشتركة والأبعاد السياسية في صناعة هذه المجموعات، فالحروب التي نشبت في المنطقة بعيد الاستقلال، وبقاء كثير من هذه البلدان تحت النفوذ والسيطرة الغربية خاصة الفرنسية بعد خروج الجيوش المستعمرة، جعل من الممكن توظيف وتوجيه المجموعات المقاتلة والحركات السياسية لتحقيق المرادات الدولية، ولا يستثنى في ذلك بلد من حدود السودان الغربية حتى ساحل المحيط الأطلسي غرباً.
لعل أهم دافع تسبب في ظهور هذه المجموعات خلال فترة الستينيات من القرن الماضي هو الاختلال والاضطراب السياسي وعدم التوازن في السلطة ببلدان الغرب الأفريقي، وتركيز المستعمرين التعليم والثروة والسلطة في أيدي نخبة مختارة لا تمثل الأكثرية ولا تعبر عن المجتمعات الناهضة في هذه البلدان، بيد أن مفتتح السبعينيات من القرن الماضي مع مجيء العقيد معمر القذافي إلى السلطة في ليبيا، وولوغه في الصراعات التشادية التشادية ورغبته في توسيع دائرة نفوذه أفريقيًا، تعتبر هي الفترة الأكثر إخصاباً للبويضة التي وُلدت منها جحافل المرتزقة في القارة السمراء.
لعبت عناصر جهاز المخابرات الخارجية الليبية السابق ومسؤولو الملف الأفريقي في عهد القذافي، دورا كبيرا في تنظيم حركة المرتزقة
احتضن القذافي منذ سبعينيات القرن الماضي حركة فرولينا التشادية (جبهة التحرير الوطني) والمجلس الديمقراطي الثوري وقوات التحرير الشعبية وحركة البركان وبقية فصائل المعارضة التشادية، واستقطب قياداتها، ووفر لها دعما سياسيا وعسكريا وماليا يومئذ، ولما كانت هذه الفصائل تبحث عن مورد بشري لقواتها، شرعت في عمليات التجنيد من القبائل المشتركة بين السودان وتشاد والنيجر وليبيا ونيجريا (القرعان، العرب، الزغاوة، البرنو، الهوسا، الطوارق، الوداي) وكانت معسكرات التدريب تتم في الصحراء الليبية، وخلال الحرب التشادية التشادية فترة عقديّ السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كانت الأموال والأسلحة الليبية والفرنسية تتدفق على أطراف النزاع داخل تشاد، بينما تقوم مخابرات القذافي باستقطاب المقاتلين من هذه الدول، ثم سعى القذافي عن طريق ما يسمى بـ”المثابة العالمية، الفيلق الإسلامي، منظمات وهيئات شعبية” بضم قيادات عسكرية وأهلية من دول أفريقية، تدعيما لبناء كتلة عريضة في أفريقيا تنفذ مراد الزعيم الليبي وإستراتيجياته في القارة.
خلال الصراعات التي حدثت في تشاد حتى وصول الرئيس السابق إدريس ديبي إلى السلطة وطوال فترة حكمه، نشأ عديد من الحركات المسلحة التشادية وشاركت في كل مراحل الصراع في دولة تشاد، وحتى اللحظة بعد مقتل الرئيس ديبي في معارك مع “قوات جبهة الوفاق من أجل التغيير-فاكت” وتولي نجله السلطة وتوقيع اتفاق سلام في الدوحة العام الفائت 2022، لم تضع الحرب أوزارها ولا تزال مجموعات من حركات المعارضة التشادية تقاتل، وهو المورد الرئيس الآن للمقاتلين في المنطقة.
إذا كان نظام القذافي حتى سقوطه قد استجلب المرتزقة من دول مالي والنيجر وتشاد والسودان وبوركينا فاسو ونيجيريا وبقية دول الساحل الأفريقي، فإن الجنرال المتقاعد خليفة حفتر سارع إلى استجلاب هذه المجموعات المرتزقة للقتال معه، وينتمي كثير منها لقبائل عربية لها تداخل مع ليبيا والسودان وتشاد والنيجر ومالي (مثل: التبو، الطوارق، عرب أولاد سليمان والمحاميد، الزغاوة)، وتلقى بعضهم تدريبات عالية بواسطة فاغنر الروسية في معسكرات بمناطق الجفرة وشرق ليبيا والكفرة والهلال النفطي. وتمثل هذه المجموعات المرتزقة حركات في المنطقة الأفريقية، وهي:
- مجموعات من عناصر الحركات المسلحة في مالي وجلّهم من الطوارق.
- حركات من شمال النيجر وشرقه (طوارق، عرب، فولان، تبو).
- مجموعة الحركات المسلحة المعارضة التشادية (عرب، تبو، زغاوة، قرعان، كالمبو).
- الحركات المسلحة السودانية (زغاوة، عرب، فور).
- مجموعات متفرقة من بوركينا فاسو وشمال شرق نيجيريا والكاميرون وأفريقيا الوسطى وبنين وتوغو وغامبيا والسنغال وليبيريا وسيراليون وغينيا كوناكري.
دور عناصر حفتر والنظام الليبي السابق
لعبت عناصر جهاز المخابرات الخارجية الليبية السابق ومسؤولو الملف الأفريقي في عهد القذافي دورا كبير في تنظيم حركة المرتزقة، حيث كانت الصلات ممتدة من فترات طويلة مع مناطق جلبهم، وعقب سقوط القذافي التحق عدد من هؤلاء باللواء المتقاعد خليفة حفتر وكانوا الأساس في اتصالات الأخير بالمرتزقة الأفارقة.
التمويل
لم يكن التمويل المقدم من اللواء حفتر وحده كافيا، فقد تولت الإمارات العربية المتحدة الدعم المالي لاستجلاب وتدريب المرتزقة ومدهم بالعتاد الحربي وسيارات الدفع الرباعي والأسلحة، إضافة لتدريب قوات نخبة من هذه المرتزقة في دولة الإمارات بمعسكرات غربي العاصمة أبو ظبي خلال الفترة من 2017 حتى عام 2021، وشمل التدريب المجموعات المشاركة في حرب اليمن من قوات “الدعم السريع”، حيث كان هناك تنسيق كامل بين هذه القوات وقوات حفتر في ليبيا، ولم يكن الهدف محصورا في تأهيل هذه القوات للقتال في اليمن خدمة لمصالح الإمارات هناك، إنما صناعة الجيوش الموازية في دول وسط وغرب أفريقيا (تجربة الدعم السريع في السودان)، والهدف هو التحكم في مصائر دول المنطقة وصراعاتها السياسية وتغيير الأنظمة والتحكم في الموارد.
أبرمت اتفاقيات بواسطة الدعم السريع لتجنيد وتدريب هذه المليشيات والجماعات المرتزقة، شملت التدريب على الطيران الحربي بالتعاون مع حفتر الذي سعى لامتلاك سلاح طيران فعال في المنطقة للعمل معه داخل ليبيا، وجلب طيارين سابقين مرتزقة من عدة بلدان أفريقية وأوروبية، بينما سعى الدعم السريع في السودان إلى تدريب عناصر له في روسيا وإثيوبيا وليبيا تحت إشراف إماراتي كامل، وكانت الملحقية العسكرية الإماراتية وشركة فاغنر تقوم بكل الإجراءات المطلوبة في السودان في الفترة من 2019، والتحق متدربي الدعم السريع على الطيران بمعسكرات جنوب روسيا تملكها وتديرها مجموعة فاغنر، وتم تدريب آخرين في إثيوبيا.
هدفت أبو ظبي من تدريب المليشيات والمرتزقة إلى تجهيز ما بين 20 إلى 40 ألف مقاتل على مراحل تمتد لأربع سنوات، تكون لهذه المجموعات تحت اسم الدعم السريع قوات برية ضاربة من أكثر من 200 ألف مقاتل، بجانب قوات مدرعة وقوات جوية وقوات خاصة، ولعب حفتر دوراً بارزاً في إعداد معسكرات التدريب والتأهيل في مناطق سيطرته واكتسب خبرة في التعامل مع مجموعات المرتزقة الأفارقة.
مناطق تواجد المرتزقة الحالية في جنوب ليبيا والحدود مع تشاد
يتواجد في المنطقة الجنوبية من ليبيا (البطن الرخو)، حيث لا توجد سيطرة فعلية للدولة الليبية، عديد من مجموعات المرتزقة الأفارقة ينتمون لبلدان مثل تشاد والنيجر ومالي والسودان وأفريقيا الوسطى، وكان تمركزهم في المناطق التالية رغم الخروج منها بعد قرار الأمم المتحدة إبعاد المرتزقة عن ليبيا:
- شمال شريط أوزو الذي كان متنازعا عليه بين ليبيا وتشاد، طوله من الشرق للغرب 600 ميل، ويمتد عرضا نحو شمال تشاد 80 ميلاً، وتوجد فيه عمليات تعدينية (يورانيوم، ذهب، منغنيز).
- جبال تبستي.
- جنوب سبها.
- أم الأرانب، القطرون، جنوب مرزق.
- مثلت العوينات بين ليبيا والسودان وتشاد.
- معسكرات حول الكفرة.
- مناطق (تربو، كوري بعدي، تركو).
- القطرون.
كيف يتجه المرتزقة إلى السودان
يقوم سماسرة المرتزقة ومندوبو الدعم السريع في السودان وعناصر من قوات حفتر، بالاتصال بالمرتزقة وتجهيزهم كمجموعات في مراكز تجمعات في المناطق التي أشرنا إليها، وإعطائهم مبالغ مالية، والاتفاق معهم على المدة الزمنية للعمل وشروطه، ويتم توزيعهم حسب القدرات الفنية القتالية، ثم يبعث بهم في شكل مجموعات صغيرة ومتوسطة الحجم بحسب الحاجة بعد تزويدهم بالمعلومات المطلوبة ومكان الالتقاء داخل الحدود السودانية.
يسلك المرتزقة المتواجدون في جنوب ليبيا أو العابرون حدودها عدة مسارات للالتحاق بالمليشيات في السودان. ونسبة لطول الحدود واتساع رقعة الصحراء الكبرى وعدم ضبط هذه الحدود الطويلة المشتركة بين ليبيا والنيجر والسودان وتشاد ومصر، فإن العبور يظل دائما ممكنا وميسورا عبر جنوب ليبيا عن طريق تبستي وإقليم أوزو، وتتجه شرقا نحو المثلث.
هناك مناطق تجمع في مثلث الحدود السودانية الليبية والتشادية في طريق سار وطريق العيونات، كما توجد قاعدة للدعم السريع (شيفروليت) تم تجهيزها لاستقبال القادمين، وهي قاعدة أقيمت من عدة سنوات غرضها مكافحة الهجرة غير الشرعية، لكنها تحولت لنقطة عبور وتسهيل مرور المرتزقة (يقال إن الجيش السوداني سيطر عليها).
تتجمع الطرق القادمة من أم الأرانب والقطرون والهروج وجنوب سبها ومرزق وأوباري والكفرة عند المثلث، وتنطلق إلى الجنوب مباشرة عابرة الصحراء القاحلة إلى حدود وادي هور بشمال دارفور، ويوجد مركز للتوجيه في وادي هور ومنطقة الزُرق يتعامل مع هذه المجموعات لتنسيق توافدها وتوزيعها على معسكرات الإيواء وإعادة التدريب.
كذلك تتواجد في مدينة الكفرة مجموعات تتبع حفتر وقيادات ليبية محلية ربطتها مصالح اقتصادية مع السودان وخاصة الدعم السريع في تجارة البترول والإبل والسلع الغذائية والمصنوعات البلاستيكية، وتعمل هذه المجموعات على تسهيل عبور المرتزقة، وتتعاون مع الدعم السريع في تبادل المعلومات الاستخبارية وتنسيق المساعدات العسكرية.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.