معركة الولجة؛ واحدة من سلسلة معارك جرت عام 12هـ، بين المسلمين والفرس على تخوم العراق، إبان خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، في إطار الفتوح الإسلامية لبلاد فارس.
قادها من جانب المسلمين خالد بن الوليد رضي الله عنه، ومن الفرس الأندرزغر حاكم خراسان لكسرى أردشير، وكان الانتصار فيها ساحقا للمسلمين رغم التفوق العددي للفرس.
خلفية المعركة
لم يكد أبو بكر الصديق يتسلم أمر الخلافة حتى ارتد عدد من القبائل في الجزيرة العربية عن الإسلام، الأمر الذي أوقف سير الفتوح الإسلامية التي ابتدأها النبي صلى الله عليه وسلم، وتعهد أبو بكر بإنفاذها بدءا من بعث جيش أسامة بن زيد.
وما إن أخضع أبو بكر القبائل العربية لسلطته وأطفأ فتنة الردة، حتى كتب إلى الصحابي خالد بن الوليد أن يجمع جنده المتفرقين في اليمامة وما حولها، ويتجه بهم إلى العراق رفقة المثنى بن حارثة الشيباني، الذي سبق خالدا بجند من قبيلته إلى العراق بإذن من الخليفة.
واستغل المثنى الفوضى التي كانت تعم أرجاء الإمبراطورية الفارسية، بعد موت الإمبراطور أنوشروان وتسلم حفيده شيرويه الذي قتل أباه و18 من إخوته للتفرد بالحكم.
وقُتل شيرويه بعد 7 أشهر من حكمه، ما أسفر عن زيادة في وتيرة النزاعات الداخلية التي كانت تنهش في جسد الإمبراطورية الفارسية، وصولا إلى عهد يزجرد، الذي كان آخر ملوك بني ساسان.
وسبقت معركة الولجة سلسلة من المعارك التي انتصر فيها المسلمون على الفرس؛ كمعركة ذات السلاسل في كاظمة (شمال الكويت اليوم)، ومعركة المذار التي سقط فيها نحو من 30 ألفا من مقاتلي الفرس.
وتلتها معارك أخرى استمرت حتى نهاية ذلك العام الهجري، ومهدت للمعركة الكبرى التي وقعت في القادسية، وكان من نتائجها انكسار الفرس وانحسار نفوذهم في العراق، كما فتحت أبواب بلاد فارس للمسلمين.
أحداث المعركة
كان وقع خبر معركة المذار وما سبقها شديدا على إمبراطور الفرس، لانتصار المسلمين فيها وأسرهم آلافا من الفرس الذين سيقوا إلى بلاد المسلمين، فأرسل الإمبراطور إلى بلاده وقادة جنده؛ يحثهم على موافاة القائد الذي عينه على رأس الجيش.
وكان قد عين الأندرزغر (أحد قادته في خراسان وهو فارسي نشأ بين العرب في العراق، وتربطه بهم علاقات قوية) على الجيش المتجه إلى سواد العراق، ويقصد بسواد العراق المناطق الواقعة بين نهري دجلة والفرات جنوبي العراق، ثم أردف به جيشا آخر بقيادة بهمن بن جاذويه.
وقد استطاع الأندرزغر أن يحشد في طريقه إلى ملاقاة خالد بن الوليد، عددا من الأعوان والقادة والجند عربا وفرسا، ولمّا رأى الحشد الكبير الذي جمعه أصابه الزهو فقرر الزحف عندما رأى طلائع الجيش المسلم على مشارف الولجة، بدون أن يعير انتباها للخطة التي رسمها ابن الوليد للانقضاض على جيشه.
وصلت أنباء مقلقة عبر شبكة العيون التي شكلها خالد بن الوليد من السكان العرب المحليين، تفيد بضخامة الجيشين القادمين من الغرب والشمال.
وخشي من مواجهة مكشوفة معهما، كما كان قلقا من أن تلتحق فلول الجيوش التي هزمها في المعركتين السابقتين بالقواعد العسكرية الفارسية، المنتشرة بين النهرين لتعيد تسليحها وتهجم عليه من جديد في هذه الصحراء المفتوحة من كل جانب.
ولما كانت أرض المعركة سهلا شاسعا بين هضبتين ممتدتين، رأى خالد أنها تصلح للمناورة والالتفاف، فقرر أن يهجم من 3 محاور ليشتت الحشد الضخم، كما أصدر أمرا لسويد بن مقرن بلزوم الحفير، لتأمين مؤخرة جيشه وخطوط إمداده الخلفية.
وكان خالد قد عين على جناحي الجيش عاصم بن عمرو وعَدي بن حاتم، وبعث ببُسر بن أبي رُهم وهو أحد الذين شهدوا القادسية، وسعيد بن مرة العجلي على رأس قوتين تتألف كل واحدة منهما من ألفي مقاتل ليتسللوا خلف خطوط العدو ويُطْبِقوا على الجيش من مؤخرته في الوقت المناسب، وليكون لهم دور أساسي في إعطائه إنذارا مبكرا، في حال وفود أية قوات من الجهات التي لا يمكنه تغطيتها بقواته المهاجمة.
وكان من خطته كذلك أن يسارع إلى الهجوم على الجيش الأول، قبل أن يصل الجيش الثاني بإمداده إليهم، وما إن التحم الجيشان ودار بينهما ما دار من قتال شديد حتى “ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ”، وأشار خالد إلى القوتين اللتين زرعهما خلف خطوط العدو لتنقضا عليه فتمنعاه من إعادة تنظيم صفوفه والعودة للقتال.
وجرى القتال بين الجيشين على مراحل، كان للمسلمين في أولها الغلبة، حتى تعبوا وهم أقل الجيشين عددا. وشنّ الأندرزغر هجوما معاكسا جعل جيش المسلمين يتراجع، فبادرت القوتان الكامنتان إلى الانقضاض على الجيش الفارسي، والالتفاف من خلفه بعد أن أعطاهما خالد الإشارة بالبدء، فاضطرب جيش الفرس في كل اتجاه وتفرّق.
وهكذا أخذهم خالد من بين أيديهم، والقوتان الكامنتان وراء التلال البعيدة من خلفهم تحاربان الجهتين، “فلم يرَ رجل منهم مقتل صاحبه” كما قال الطبري في وصف التحام الجيشين، غير أن الأندرزغر استطاع الفرار رفقة جمع من أصحابه، ولم يكن فرارهم باتجاه الفرات، بل باتجاه الصحراء التي هلكوا فيها عطشا.
وذكر المؤرخون أن جيش الأندرزغر أبيد بصورة لافتة، على العكس مما جرى مع الجيشين الفارسيين في المعركتين السابقتين، إذ لحقت بهما هزيمة منكرة من غير أن ينهار قوامهما الذي ظل صامدا، بل إن بعض أفراد هذين الجيشين قد التحقوا بقوات الأندرزغر في معركة الولجة.
والذي دفع خالدا لاستخدام هذا الأسلوب في القتال والانصراف عن فكرة المواجهة المباشرة؛ قلة عدد جيشه في مقابل الحشد الفارسي الذي تجمع في سهل المعركة، فلو كانت المواجهة من الأمام فحسب لاستطاع جيش الأندرزغر تطويق جيش المسلمين والقضاء عليهم.
ويذكر الطبري أن خالدا واجه فارسا فارسيا عملاقا له شهرة واسعة بين قومه في المبارزة الفردية، وقد نعته الطبري وفق رواته بـ”الفارس الذي يعدل ألف رجل”، فانقض عليه خالد فقتله، ثم دعا بغدائه وهو متكئ عليه زيادة في التنكيل وإظهارا للغلبة والنصر.
ما بعد المعركة
قام خالد بن الوليد في الجيش بعد هذا النصر الساحق خطيبا، يُرغّبهم في بلاد العجم ويزهدهم بأرض العرب، ويرفع من هممهم بعد هذه الوقعة الكبيرة التي أسفرت عن خسائر كبيرة في صفوف الفرس.
وقال خالد “ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب (مجتمع التراب)، ووالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعوة إلى دينه، ولم يكن إلا المعاش، لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولّي الجوع والإقلال من تولاه ممن اثّاقل عما أنتم عليه”.
ونتج عن هذه المعركة التي أصاب خالد فيها حلفاء الفرس من نصارى العرب، أن تداعت قبائل هؤلاء للثأر، فوقعت معركة نهر الدم وغيرها من الوقعات، وظل خالد يقضم من أرض العراق حتى أرسل إليه أبو بكر أن يدع ما فيه، ويذهب نصرة لجيش الشام خواتيم سنة 12هـ.
ثم وقعت معركة الجسر، التي استعاد الفرس فيها بعضا من الأرض التي سيطر عليها المسلمون، حتى تولى عمر الخلافة فأرسل إلى سعد بن أبي وقاص ودفع به إلى القادسية، التي فتحت أرض الفرس للمسلمين بعد فترة ليست بالطويلة من وقعة الولجة.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.