الدوحة- كانت المجادلات الأولى في عمر البشرية بين الله سبحانه وتعالى وإبليس حين أمره بالسجود لآدم عليه السلام، وبين الله وملائكته حينما أخبرهم بأنه سيجعل في الأرض خليفة، ثم الحوار بين سيدنا إبراهيم عليه السلام والملك الذي حاجّه وجادله وغيرها من النماذج دلائل واضحة للعيان تؤكد أن التناظر والحوار والمجادلة ضاربة في جذور التاريخ البشري.
وقد كان لمثل هذه المجادلات فضل كبير في نشأة علوم الكلام والفقه والنحو وغيرها من العلوم التي أثرت الحياة الفكرية والاجتماعية، كما كان التناظر بين الأدباء والشعراء العرب منذ القدم بمثابة حروب فكرية عمقت الوعي وساهمت في تنمية المهارات لدى أجيال كثيرة.
ومن هذا المنطلق، يشدد مركز مناظرات قطر على قضية التناظر والعمل على تعميق جذورها بين الأجيال الجديدة ونشرها في المجتمعات الدولية، مما يعزز ثقافة الحوار في كافة القضايا.
ونظم المركز على مدار يومي 29 و30 مايو/أيار الجاري النسخة الأولى للمؤتمر الدولي للمناظرة والحوار في الدوحة، والذي يعد بمثابة منصة مفتوحة لمناقشة القضايا الأكاديمية المتخصصة في مجتمع المناظرات العالمي من الباحثين والمهتمين والأكاديميين وتبادل الخبرات التدريبية والتعليمية.
وأكد مشاركون في تصريحات للجزيرة على أن التحاور والتجادل جزء أساسي من التفكير الإسلامي، وأن المناظرات تعزز مفهوم التعاطف والاحترام، وتهدف للوصول إلى الحقيقة بلا تعصب، كما أنها تعزز التعاون والشراكة والتواصل بين الجميع.
وركز المؤتمر على أهمية تطوير الإنتاج المعرفي في مجالات المناظرة والحوار والحجاج والتخصصات المتداخلة معها، وذلك من خلال مناقشة 4 محاور أساسية هي الحجاج: أطر وتطبيقات، والمناظرة والتعليم، والمناظرة في التراث الإسلامي، والحوار: أبعاد ثقافية واجتماعية.
التناظر في التراث الإسلامي
بدوره، قال الدكتور عبد الجبار الشرفي الأستاذ المشارك في اللسانيات ودراسات الترجمة في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بجامعة السلطان قابوس للجزيرة نت إن المناظرة ازدهرت ازدهارا كبيرا في الحضارة الإسلامية، ويمكن أن ننظر إليها على أنها مقياس أو مؤشر للحضارات، فكلما ازدهر الحوار وتبادل الأفكار والآراء والتشابك بالأفكار فإن هذا يدل على أن المجتمع وصل إلى مرتبة عالية من المدنية والحضارة، والعكس بالعكس فقد يحل العنف والحروب محل المناظرات.
ولفت الشرفي إلى أن التراث الإسلامي غني بالجوانب المختلفة للمناظرات، حيث ظهرت بشكل واضح في المداولات الفقهية بين الفقهاء وعلماء أصول الفقه وعلماء قواعده، وكانت المناظرة إحدى وسائل الوصول إلى الحقيقة، كما كان القرآن الكريم مليئا بالمناظرات والحوارات مثلما حدث بين الله سبحانه وتعالى وبين الملائكة في خلق آدم عليه السلام، والمحاورات بين الأنبياء وأقوامهم، وغيرها من النماذج.
وشدد على أهمية الجوانب التراثية والأخلاقية لمفهوم المناظرة، حيث نجد أن التراث العربي -خاصة علم الكلام- يقوم بشكل كبير على أسلوب الحوار والنقاش والمناظرة، كما تدل كتب الكلام على أن المناظرة كانت هي أسلوب الحوار للوصول إلى الحقيقة، كما كانت أسلوبا حضاريا متقدما بين الأدباء، فقد ذكر أبو حيان التوحيدي في بعض كتبه أن المناظرات كانت أساسا متجذرا في الحوار بين الأدباء والشعراء العرب، وغيرها من الأمثلة التي خلفها التراث العربي الإسلامي.
وبشأن الجوانب الأخلاقية لفن التناظر، اعتبر الشرفي أن المناظرات تعزز مفهوم التعاطف والاحترام، فهي تهدف للوصول إلى الحقيقة وليس الفوز وقهر الطرف الآخر، وبالتالي لا يوجد تعصب لفكر أو لمبدأ، مستشهدا بالإمام الشافعي الذي كان عندما يناظر أحدا يدعو الله أن يجري الحق على لسانه أو أن يهديه إلى الحق الذي عند غيره.
وتابع أن من الجوانب الأخلاقية أيضا أن المناظرات تعزز التعاون والشراكة والتواصل بين الناس وتعلم الجميع مهارات التواصل الفعال والتحدث دون خجل أو تردد.
معارف وعلوم العصر
من جانبها، قالت الدكتورة هبة رؤوف عزت أستاذة العلوم السياسية والدراسات الحضارية في جامعة ابن خلدون بإسطنبول إن المناظرات أفادت المعرفة والعلوم في العصر الحديث من خلال الاطلاع على الحجج المختلفة ووجهات النظر المتعددة لنفس القضايا والربط بين القضايا المختلفة بحكم اختلاف التخصص للمتحدثين، وهو ما يفتح الأفق للرؤية ويخلق بعدا تعليميا وثقافيا وتدريبيا وحواريا.
وأشارت الدكتورة هبة في حديث للجزيرة نت إلى أنه خلال العقود الماضية كانت لدينا مشكلة وهي أن الأيديولوجيات تنافرت، ولم يكن الحوار ممكنا بين الكثير من الأفراد لدرجة كبيرة، ولكن آداب الجدل والمناظرة تجعل الجميع يحترمون ويفهمون منطلقات الأطراف الأخرى والوصول إلى النقاط المشتركة والتفاهم عليها، وهو الأمر الذي تحتاجه مجتمعاتنا.
وأكدت أن التراث الإسلامي مليء بالمناظرات المختلفة، ولكن العصر الحديث يتجاهل وجود تراث مختلف ومتنوع عالميا في ما يتعلق بالجدل والمناظرة، ومن ثم فقد كان التركيز خلال المؤتمر على البعد العقلي، موضحة في الوقت نفسه أن نقاشات الفقهاء والفلاسفة محفوظة لمن يريد الاطلاع عليها.
وشددت الدكتورة هبة على أهمية الحرص على الأدب والاحترام خلال التناظر، فالبحث عن الحقيقة هو المقصود للوصول إلى الحكمة، فلا يوجد تنازع مع الأفراد أو تجريح وإنما محاولة للوصول ودحض الحجة بالحجة بشكل رصين.
وتابعت أن مجتمعات كثيرة لا تهتم بالحوار والتناظر نتيجة الحكم الشمولي في الكثير من هذه الدول، ولكن مع تطور الديمقراطيات والتمثيل والانفتاح ظهر اهتمام بالإنصات والحوار، ولكن المعتقدات والثقافات الموروثة مجتمعيا قد تكون هي السبب في عدم انتشار الحوار والتناظر رغم أن العقيدة الإسلامية تؤكد على أهمية المجادلة بالتي هي أحسن حتى مع المخالف للعقيدة، معتبرة أن تغيير هذا الأمر سوف يستغرق بعض الوقت لاستيعاب أن التحاور والتجادل هما جزء أساسي من التفكير الإسلامي.
6 اتفاقيات دولية
وشهد المؤتمر توقيع 6 اتفاقيات دولية لمركز مناظرات قطر مع مؤسسات وجهات دولية في إطار تعزيز التعاون في المستقبل القريب، مما يسهم في توسيع برامج المركز في هذه الدول، بالإضافة إلى الدول التي يعمل فيها المركز بالفعل حاليا.
وأشار مسؤول العلاقات العامة والاتصال في مركز مناظرات قطر خالد الإبراهيم في تصريح للجزيرة نت إلى أن النسخة الأولى من المؤتمر شهدت مشاركة أكثر من 800 شخص من جميع دول العالم.
وقال الإبراهيم إن أعمال المؤتمر ركزت على توجيه البحث العلمي نحو إيجاد حلول من خلال مناقشة القضايا الأكاديمية، والاستفادة من النتائج البحثية لتطوير النتاج المعرفي في مجالات المناظرة والحوار، إضافة إلى التوسع في البرامج البحثية ونشر هذه الثقافة، مما يخدم مجتمع المناظرات حول العالم.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.