توفي عن 94 عاما الكاتب التشيكي الفرنسي الشهير ميلان كونديرا بعد معاناة طويلة من المرض، وفق ما أعلنت اليوم الأربعاء الناطقة باسم “مكتبة ميلان كونديرا” في مدينة برنو التشيكية، حيث وُلد مؤلف “وجود لا تُحتمل خفّته”.
وعبّر كونديرا في مؤلفاته بسخرية عن حال الإنسان، وكان بين الكتّاب النادرين الذين أُدرجت مؤلفاتهم وهم بعد على قيد الحياة في مجموعة “لابلياد” (La Pleiade) المرموقة في عام 2011، وتُرجمت أغلب أعماله إلى العربية.
وجُرّد كونديرا الذي ولد تشيكيا من جنسيته الأساسية، ثم استعادها بعد 40 عاما، لكنه يحمل الجنسية الفرنسية منذ عام 1981، وكان من أشد الروائيين باللغة الفرنسية تأثيرا في العالم.
وصدرت لكونديرا عندما كان لا يزال تشيكيا روايتان هما “الدعابة” التي أشاد بها الشاعر الفرنسي أراغون و”غراميات مرحة” (Smesne lasky) عام 1968، تضمنتا تقويما مريرا للأوهام السياسية لجيل انقلاب براغ الذي مكّن الشيوعيين عام 1948 من الوصول إلى السلطة.وأصبح كونديرا من المغضوب عليهم في بلده بعد ربيع براغ، فغادره إلى فرنسا عام 1975 مع زوجته فيرا التي كانت نجمة في مجال تقديم البرامج على التلفزيون التشيكي.
وقبل 3 أشهر فقط باتت نحو 3 آلاف نسخة من كتب كونديرا متوفرة في مكتبة جديدة بمدينة برنو بعد أن كانت محفوظة في شقة “منفاه الباريسي”.
فتحت المكتبة الجديدة أبوابها في الأول من أبريل/نيسان الماضي، وأصبحت المجموعة بتصرف “الطلاب والباحثين وجميع أولئك الذين يرغبون في التأمل في نتاج كونديرا”، وفق مدير المكتبة توماس كوبيتشيك.
وقال كوبيتشيك في تصريحات سابقة لوكالة الصحافة الفرنسية “في الوقت الراهن تضم المجموعة نحو 3 آلاف نسخة من كتبه، أي نحو ثلثي أعمال كونديرا المنشورة في مختلف أنحاء العالم والبالغ عددها 4 آلاف نسخة من كتبه في 51 لغة”.
من الشيوعية إلى نقيضها
وكان كونديرا في السابق شيوعيا، لكنه كان صاحب فكر حر، فاتسعت شقة الخلاف تدريجيا بينه وبين السلطات التشيكوسلوفاكية، واتخذ قرارا بالانتقال للعيش خارج بلده بعد سحق حركة “ربيع براغ” الإصلاحية عام 1968 بتدخل من الاتحاد السوفياتي.
وروت زوجته فيرا كونديروفا للإذاعة التشيكية مؤخرا أن فكرة فتح مكتبة راودتها قبل 5 سنوات، ورأت في المبادرة “خطوة تنطوي على دلالات رمزية، إذ إن ميلان ولد في برنو ويعود إليها”.
وأضافت “يمكنه أن يرحل (ذات يوم)، لكنه سيبقى حيا في برنو، سيأتي الناس للقائه، المنزل الذي ولد فيه يقع على بعد 10 دقائق من المكتبة”.
ونادرا ما يدلي ميلان كونديرا شخصيا بأحاديث صحفية.
وبعد تأخير عائد إلى الظروف الناجمة عن جائحة كورونا نقل كوبيتشيك الكتب العام الماضي من شقة كونديرا إلى برنو، وقالت كونديروفا “لقد أعددت كل شيء، ولم يكن على توماس كوبيتشيك سوى توضيب الكتب الموضوعة على الرفوف ونقلها”.
وتحوي المكتبة رسوما تمثل الكاتب ومقالات صحفية عن مؤلفاته، إضافة إلى النسخة الأصلية لمقال من القرن الـ16 يحمل توقيع الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين ومغطى بجلد العجل حصل عليها كونديرا كجائزة.
ولاحظ كوبيتشيك أن مكتبة كونديرا “تحوي الكثير ولكن لا يمكن عرض كل شيء، لقد حصل على عدد كبير من الجوائز التي تشكل أيضا جزءا من المكتبة، وسنحتاج إلى قاعة كبيرة لذلك”.
وستستضيف المكتبة محاضرات وحلقات نقاشية تضم خبراء يساعد في تنظيمها فريق استشاري يضم الكاتبة المسرحية الفرنسية ياسمينة رضا ومدير معرض فرانكفورت للكتاب يورغن بوس.
ويأخذ منتقدو كونديرا عليه منذ انتقاله إلى فرنسا ابتعاده عن مواطنيه (التشيكيين) وعن معارضي النظام الشيوعي، واتهمته مجلة تشيكية عام 2008 بأنه كان مخبرا للشرطة خلال النظام الشيوعي، وهو ما وصفه بأنه “محض أكاذيب”.
ورفض كونديرا -الذي انتظر حتى عام 2019 ليستعيد جنسيته التشيكية- ترجمة كتبه الصادرة بالفرنسية إلى لغته الأم.
لكن كوبيتشيك شدد على أن انفصال كونديرا المزعوم عن وطنه لم يكن سوى “أسطورة تشيكية كبيرة، ليس إلا”، وقال “عندما ينتقد الفرنسيون كونديرا يتحدثون عن رواياته، فيما كل النقد (في التشيك) لا يعدو كونه ثرثرة، الناس هنا لا يتحدثون عن نصوصه أو أفكاره، سيكون رائعا أن تؤدي المكتبة إلى تغيير” هذا الوضع.
وأعلن كونديرا قبل أعوام قليلة توقفه عن الكتابة، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت لأسباب قد تتعلق بالشيخوخة أو لعله فضّل أن يخلد إلى الصمت مثلما يفعل الحكماء عند اقتراب أجلهم.
فن الرواية الأوروبية
وضمن سلسلة فكرية أطلقها الكاتب والصحفي الثقافي حسونة المصباحي صدر في تونس قبل عامين كتاب “ميلان كونديرا وفن الرواية وأوروبا الوسطى”، ويحاول مؤلفه ومترجم مواده أن يقدم فيه الروائي والناقد التشيكي الشهير ميلان كونديرا.
يرى المصباحي في بداية الكتاب أن ميلان كونديرا لم يكن يقدم جديدا مثيرا حتى عندما كان يصدر روايات في منفاه الفرنسي، ويعد أن تجربته الإبداعية ارتبطت بفضح الشيوعية، وعندما انهار الاتحاد السوفياتي لم يعد “يملك ما يثير الاهتمام، وحتى الروايات التي كتبها بلغة موليير (الفرنسية) لم تتخلص من تبعات الحقبة الستالينية”.
واعتبر المصباحي أن النقاد الفرنسيين الكبار كانوا يتجاهلون رواياته الأخيرة، واستشهد بالروائي الفرنسي بيار أسولين الذي ذهب إلى أن الروايات الأخيرة لكونديرا دليل على أنه أصبح “يفكر بشكل سيئ”.
لكن المصباحي يقر بأن كونديرا رغم ذلك نبغ في سنواته الأخيرة في فرنسا كناقد من خلال مؤلفاته “فن الرواية”، و”الوصايا المغدورة”، و”الستارة”، تلك الكتب التي خصصها للرواية الأوروبية من رابليه وسارفنتس إلى فرانز كافكا وهرمان بروخ، وقد أبانت عن موسوعية ثقافته بالرواية والموسيقى والفلسفة والتاريخ، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت كتبه كمال الرياحي.
وفي سياق نقده للحالة الروائية الغربية ينقل لنا الكاتب قسما من مقال كتبه كونديرا لصحيفة “لوموند” (Le Monde) الفرنسية بعد أن ظهر كتابه “الوصايا المغدورة”، ورفض أن يجري حوارا مع الصحيفة بهذه المناسبة، ويقول في مقاله سنة 1993 “لقد أفلست أوروبا في أنها لم تعرف أبدا كيف تفكر في الرواية (الفن الأكثر أوروبية) كوحدة تاريخية”.
ويرجع ذلك إلى سقوط الآداب الأوروبية في ما سماه “زمن الآداب القومية” بعد أن سما بها كبار الروائيين إلى “زمن الآداب العالمية” مع رابليه وديدرو وبشتارن.
ويتهم كونديرا النقد بالفشل في التخلص من الجغرافيا، فـ”تحليل رواية ما في سياقها الوطني هو بالتأكيد شيء جيد ومفيد لكي نفهم الدور الذي لعبته في تاريخ شعب من الشعوب، لكن هذا لن يكون كافيا إذا ما نحن تناولنا هذه الرواية كعمل فني” حسب كونديرا.
ويأخذنا هذا الكلام مباشرة نحو وظيفة الرواية كفن عند كونديرا “ماذا ننتظر فعلا من الرواية؟”، وينطلق كونديرا دائما من السياق الأوروبي، فـ”هذا السياق هو الذي يقول لنا لا ما قدمته الرواية للشعب، وإنما ما قدمته للفن الروائي بصفة عامة، وما المظاهر غير المستكشفة للوجود التي تمكنت من أن تضيئها، وما الأشكال الجديدة التي ابتكرتها”.
فالرواية -حسب رأيه- بحث عن وجود جزر وجودية جديدة وأشكال قول جديدة وطرح أسئلة جديدة، وتعليم “القارئ أن العالم سؤال”، ويبني نظريته على حكمة خروج دون كيخوته لمواجهة العالم، لم يكن الفارس دي لامنشيا سوى حزمة من الأسئلة خرجت في وجه العالم تحرج “يقينياته ومسلماته المقدسة”، ففي ظل هذه اليقينيات والحقيقة المقدسة -حسب كونديرا- “تموت الرواية”، أي أن الرواية لا يمكن أن تعيش إلا في الشك وفي عالم النسبية المطلق كما سبق أن أكد ذلك في كتبه الأخرى.
ويرى كونديرا عالم اليوم عالما غير روائي، لانحسار السؤال فيه، فالكل يجيب ولا أحد يسأل.
“الحُب إن لم يُجردك من كل ثِقل، فهو ثِقلٌ إضافي في حياتك لا يعول عليه”#ميلان_كونديرا#مكتبة_تكوين pic.twitter.com/jQapbhjJ0a
— تكوين (@takweenKw) July 8, 2023
نقيض الأدب الروسي
في فصل بعنوان “الغرب مختطفا أو تراجيديا أوروبا الوسطى” يورد كونديرا موقفا غريبا من الأدب الروسي، إذ يقرنه بالسوداوية والجنون، وفي مقابل ولعه بالأديب الفرنسي دنيس ديدرو يصرح بموقف مفاجئ من دوستويفسكي، فيقول أنا لست كاتبا من الشرق، وبراغ هي قلب أوروبا.
ويضيف “بالنسبة لدوستويفسكي أنا لا أنكر عظمته، وإنما أرغب فقط في التعبير عن نفوري الشخصي منه، وهذا النفور فاجأني أنا نفسي، وقد انتبهت إلى أن العالم الروسي الهستيري ونزوعه إلى الجنون وإلى الرغبة في التألم وإلى النزول إلى ظلمات الأعماق غريب عني، لذلك أحسست أني أمرض عندما أقرأ مثل هذا الأدب، وقد بحثت عن دواء ولم أجد هذا الدواء إلا عند ديدرو، كانت السنوات التي قرأت فيها الأدب الروسي من أشد سنوات حياتي تعاسة وشقاء”، ويرى كونديرا أن الأدب الفرنسي هو من أنقذه من ذلك المرض الذي عذبه كثيرا.
ويربط كونديرا في مقاله “الغرب مختطفا” بين الإحساس بالخطر وحيوية الثقافة، فنحن نحرك كل ما هو ثقافي فينا كميكانيزمات دفاع أمام خطر المحو والشطب، وهذا ما يحدث للجماعات والأقليات والشعوب المهددة والحضارات المتدهورة أو الساقطة تحت الهيمنة.
يقول كونديرا إن هوية شعب وحضارته تنعكسان وتتلخصان في مجموع الابتكارات الروحية التي نسميها عادة “ثقافة”، فإذا كانت هذه الهوية مهددة بشكل خطير فإن الحياة الثقافية تزداد حيوية ونشاطا وقوة لتتحول الثقافة إلى قيمة حية من حولها يتجمع الشعب.
ويمضي كونديرا في تفسير ذلك عبر ربط الفكرة بقصة ربيع براغ الذي رآه نتاج حركة ثقافية أساسها المسرح والسينما والفلسفة والأدب، فهذه التعابير الثقافية هي التي مهدت لحدوث هذا الربيع، فـ”كان منع مسرحية لميكيوفيتش -وهو شاعر بولندي رومنسي- سببا في اندلاع انتفاضة الطلبة”، وهذا الذي قاد انتفاضات أوروبا الوسطى وأضفى عليها الجمالية الفاتنة.
لكن كونديرا لا ينكر أن هذه الانتفاضات ذات الأصول الثقافية لا تعترف شعوب أخرى بأنها ثورات “أصيلة وشعبية” ويرتاب فيها الفرنسي والألماني باعتبارها انتفاضات مصطنعة أو مسقطة، فـ”الثقافة والشعب لا يتعايشان ولا ينسجمان”، لكن ذلك أيضا مرتبط بصورة عن المثقفين باعتبارهم “نخبة من أصحاب الامتيازات”، وهذا ما يرفضه كونديرا، ويرى أن ربيع براغ مثلا كان الوحدة الأكثر اكتمالا والأشد تنظيما بين الشعب وتراثه الثقافي المهمش والمقموع والمهمل والمضطهد في البلاد.
أوروبا البديلة
يعود كونديرا في مقاله إلى تفكيك مفهوم أوروبا، وكيف تربض بين أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية أوروبا أخرى تجاهد من أجل هوية مختلفة، ويسهب في وصف فظاعة روسيا باعتبارها حضارة أخرى في وجه العالم وفي وجه أوروبا الأخرى.
إن “روسيا الإمبريالية” كانت تسعى لأن تصبح “مملكة كونية”، وكما وصفها المؤرخ التشيكي فرانتيشك بلكاي بأنها ستكون “كارثة هائلة يعجز عن وصفها، ولا حدود لها”، فالروس “يبدون برابرة” في عيون البولنديين، ويروي قصة ذلك الكاتب البولندي الذي التقى بالشاعرة الروسية الشهيرة أنا أخماتوفيا، واشتكى لها من مصادرة كتبه فسألته “هل سجنت؟” فأجاب: لا، وسألته “هل طُردت من اتحاد الكتاب؟”، فلما أجاب لا، ردت عليه “إذن، ممَ تشتكي؟”، وذلك الحوار القصير عكس البعد الحضاري بين الكاتبين.
رحل عن عالمنا اليوم الروائي التشيكي #ميلان_كونديرا الذي عرف عنه اعتراضه المستمر على المترجمين، وقد رفض نشر ترجمتين لروايته المعروفة The Joke، وكان اعتراضه على أحدهما في 1982 نابعاً من “الطابع المحلي الذي اضافه المترجم لمواءمة ذوق الزمن والبلاد الموجه لها” على حد وصفه. pic.twitter.com/9XHLqQLDwX
— Translation Police ? شرطة الترجمة (@TranslationPol1) July 12, 2023
ويربط كونديرا بين هذه القصة وكراهيته للأدب الروسي ونفوره منه، فقد كانت قصص غوغول وستايكوف-شتشيدرين تروّعه، إلى أن يقول “أفضّل ألا أعرف عالمهم ولا أن أعلم بوجوده أصلا”، ويكتب ذلك رغم اعترافه بفن غوغول، لكن أثره النفسي أكبر من تحمله، ولا يمكن أن يكون أثره على القارئ البعيد كما أثره على الجار القريب لتلك العوالم التي تصبح كابوسية.
أبان كونديرا في هذا المقال قدرة كبيرة على تفكيك ما سميت “أيديولوجيا العالم السلافي” والعقل السوفياتي الأدبي والسياسي، واستطاع عبر تحليل خطابه أن يقترح تصورا آخر لأوروبا المتشظية، ومع ذلك فهو في قراءته التفكيكية يبني ليهدم من جديد حين يرى أن العقلين الشيوعي والرأسمالي وجهان لعملة واحدة في علاقتهما بالإنسان.
يقول “هناك تشابه يدهشنا بين العالمين، عندما رأيت في تشيكوسلوفاكيا العمارات السكنية الشعبية المتشابهة اعتقدت أني أشاهد السمة التي يتميز بها الرعب الشيوعي، وفي بربرية الأبواق التي تطلق عاليا في كل الأمكنة موسيقى رديئة، كنت أتحسس الرغبة الجامحة في تحويل الأفراد إلى مجموعة من الحمقى والمغفلين الذين يوحد بينهم الصخب المفروض عليهم، في ما بعد فهمت أن الشيوعية تكشف لي بطريقة كاريكاتيرية مبالغ فيها الملامح المشتركة للعالم الحديث، والبيروقراطية نفسها للسلطة وكلية الوجود، وفيها يعوض صراع الطبقات بغطرسة المؤسسات تجاه المستعمل لها، وانحطاط المهارة المهنية، وتفاهة شباب الخطاب الرسمي، والعطل التي تنظم للقطعان البشرية، وبين كل هذه القواسم المشتركة هناك الأسوأ المتمثل في عدم احترام الحياة الشخصية للفرد”.
في هذه النصوص التي انتقاها المصباحي يظهر كونديرا ككاتب مركّب بين المبدع والمنظر والمفكر والسياسي مذكرا بجيل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز الذي يرى أن خطاب الكاتب الأقلي لا يمكن أن يكون إلا سياسيا، وكذلك يمكن أن نسحب القول على المنفي.
ظل كونديرا يتخبط في براغ وهو خارجها، يقرأ العالم كله عبرها، بل يقرأ نفسه والآخر الفرنسي الذي احتضنه عبرها، وظل يحمل ذلك التمايز بين التشيك البلد الذي ينهار في ذهنه، لأن المجلات الأدبية منعت فيه، وبين فرنسا التي تجلس أمام التلفزيون مساء غير مهتمة باختفاء المجلات فيها.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.