“لولاها لما وُجد كوكب الأرض”.. هل ندين حقا للثقوب السوداء؟


مقدمة الترجمة:

لطالما شغلت الثقوب السوداء البشر منذ تعرفنا عليها، تلك الأجرام العجيبة التي تتخفى في غياهب الكون لتمتص نجما شاردا أو ربما سديم سيئ الحظ، لكن رغم أن السينما طالما أعطتنا صورة مرعبة عن هذه الثقوب السوداء، فإنها تظل ضرورية للغاية من أجلنا نحن البشر، في الواقع هي ضرورية لدرجة أنه لولاها لما تمكنت الحياة على كوكبنا الأزرق من الاستمرار، مارينا كورين محررة “ذا أتلانتيك” تشرح السبب في ذلك.

 

نص الترجمة:

قبل عدة سنوات ظهرت أول صورة التقطها العلماء لثقب أسود يقع وسط مجرة أخرى غير مجرتنا، على نحو ضبابي ومجهول الملامح إلى حدٍّ ما، لم يختلف الوضع كثيرا مع حلقة الغاز الساخن المحيطة به، إذ ظهرت هي الأخرى في صورة ضبابية. لم تتطابق ردود فعل الجمهور مع السعادة العارمة التي تلبست علماء الفلك. بالنسبة لأي شخص اعتاد رؤية صور الثقوب السوداء في أفلام الفضاء الشهيرة، فقد بدت الصورة الحقيقية الأولى للثقب الأسود في ذلك الحين أشبه بكعكة دونات مغطاة بالشوكولاتة الساخنة.

 

ورغم ذلك، تُعَدُّ هذه الصورة أحد أكثر الإنجازات استثنائية في العلوم الحديثة، إذ تُظهِر قدرة الإنسان على الوصول إلى أشياء تبعد عنا ملايين السنين الضوئية. فمنذ وقت ليس ببعيد، لم يكن بإمكان العلماء التأكد من وجود ثقوب سوداء في هذا الكون، ولم يعلموا حتى حينها أن ثقبا عملاقا يقع في مركز مجرتنا. وفي أكتوبر/تشرين الأول عام 2020، حصل ثلاثة علماء على جائزة نوبل في الفيزياء تكريما لجهودهم التي استمرت عقودا من الزمن في البحث عن الثقوب السوداء.

تنبأ ألبرت أينشتاين قبل أكثر من قرن، استنادا إلى نظرياته في فك شيفرة طبيعة الجاذبية، بأن مثل هذه الأشياء الغريبة والغامضة قد تكون موجودة بالفعل، لكنه اعتقد أن الفكرة مُبالغ فيها بعض الشيء.
تنبأ ألبرت أينشتاين قبل أكثر من قرن، استنادا إلى نظرياته في فك شيفرة طبيعة الجاذبية، بأن مثل هذه الثقوب الغريبة والغامضة قد تكون موجودة بالفعل، لكنه اعتقد أن الفكرة مُبالغ فيها بعض الشيء. (شترستوك)

حصل روجر بينروز، وهو فيزيائي وعالِم رياضيات بريطاني يعمل أستاذا بجامعة أكسفورد، على نصف الجائزة لقدرته على إثبات وجود الثقوب السوداء، في حين مُنح نصفها الآخر إلى العالِم الألماني رينهارد جينزل من معهد ماكس بلانك للفيزياء الفلكية وجامعة كاليفورنيا في بيركلي مناصفة مع البروفيسورة الأميركية أندريا جيز من جامعة كاليفورنيا عن اكتشافهما ثقبا أسودَ موغلا في الضخامة يقع في مركز مجرتنا درب التبانة (والجدير بالذكر أن البروفيسورة جيز تُعَدُّ رابع امرأة تحصل على هذا الشرف، وذلك بعد مرور ما يقرب من 120 عاما على تأسيس الجائزة).

 

تُعَدُّ الثقوب السوداء إحدى أكثر الظواهر الكونية التي يحفها الغموض من كل جانب، وهي تتكون من أنقاض أو بقايا النجوم الراحلة، وتتميز بشدة كثافتها إلى الحد الذي يجعلها تمنع أي شيء من الهروب من جاذبيتها الشديدة بصورة لا يتطرق إليها التردد، حتى الضوء يعجز عن التملص من قبضتها، وهذا ما يجعلها غير مرئية. ولا سبيل للشك في قدرتها على إطفاء النجوم الساطعة المجاورة لها بمجرد أن تعبر حدود الثقب الأسود وتتجاوز “نقطة اللا عودة”.

 

تنبأ ألبرت أينشتاين قبل أكثر من قرن، استنادا إلى نظرياته في فك شيفرة طبيعة الجاذبية، بأن مثل هذه الثقوب الغريبة والغامضة قد تكون موجودة بالفعل، لكنه اعتقد أن الفكرة مُبالغ فيها بعض الشيء. وبعد وفاة أينشتاين، نشر روجر بينروز، أستاذ الفيزياء بجامعة أكسفورد، بحثا في عام 1965 يوضح فيه رياضيا كيف أن قوى الكون يمكن أن تُنتِج ثقوبا سوداء، وأن داخل أعماقها التي لا يمكن اختراقها يوجد شيء يسمى “المُتفردة” (Singularity)، وهي نقطة غامضة لا يمكن وصفها بأي قوانين أو قواعد فيزيائية معروفة وتتميز بكثافتها وجاذبيتها اللا متناهية، وتنهار عندها جميع قوانين الفيزياء.

 

الكائن الغامض

‏إن معلوماتنا الحالية تجعلنا على أتم وعي بأهمية الثقوب السوداء التي قد يبدو وجودها شيئا لا يصدق وعصيا على الإدراك، في حين أن غيابها يجعل من حركة النجوم البعيدة في مجرتنا غير مفهومة تماما وتفتقر إلى المنطق. لذا، أمضى العالِمان رينهارد جنزل وأندريا جيز العديد من السنوات في التحقق من السحابة الكونية المكونة من الغاز والغبار في الفضاء بين النجوم الموجودة في وسط المجرة باستخدام أكبر التلسكوبات في العالم. وفي النهاية، اكتشف العالِمان نجما يدور بسرعات مذهلة حول مكان فارغ تماما مخلِّفا وراءه بيئة فوضوية.

الثقوب السوداء على ما يبدو موجودة في كل مكان، وتقع في مركز معظم المجرات، وتنتشر في جميع أنحائها، وتتميز بأحجامها المختلفة.
الثقوب السوداء على ما يبدو موجودة في كل مكان، وتقع في مركز معظم المجرات، وتنتشر في جميع أنحائها، وتتميز بأحجامها المختلفة. (شترستوك)

يمكن تفسير هذه الفوضى فقط في ظل وجود ثقب أسود هائل تصل كتلته إلى ضِعْف كتلة شمسنا بأربعة ملايين مرة. يقع هذا الثقب في مجرتنا درب التبانة ويُعرف باسم “الرامي أ*” (*Sagittarius A)، ويحتوي على كمية هائلة من المادة المجتمعة في نقطة صغيرة جدا مضغوطة في مساحة أصغر بكثير من مساحة نظامنا الشمسي (وهذا يجعل الثقب الأسود في مركز مجرتنا أحد أكثر الأجسام الفضائية كثافة في الكون، ويتمخض عن ذلك تشوه في الزمكان في المنطقة المحيطة به).

 

اكتشف علماء الفلك ثقوبا سوداء أخرى أيضا من خلال مراقبة حركة النجوم حولها، التي تبنَّت في نهجها حركات دائرية حول الثقوب السوداء بصورة غير مستقرة ومتقلبة على نحو سريع ومتكرر. ظفر العلماء برؤية الثقوب السوداء من خلال الضوء الناتج عن المادة التي تتدفق نحو الأعماق اللا مرئية للثقب الأسود، وينبعث هذا الضوء عندما تصطدم المادة بشدة مع الثقب الأسود وتتحول إلى طاقة. ولأن هذه العملية شديدة الكثافة والحرارة، فإن الجسيمات تتلألأ على نحو مدهش وبديع (رغم كونها عملية مُدمِّرة). كما تمكَّن علماء الفلك من الكشف عن تلك الثقوب السوداء عن طريق رصدهم لتموجات في نسيج الزمكان، التي تُعرَف باسم موجات الجاذبية وتنتشر في الكون بمجرد أن يصطدم ثقبان أسودان ببعضهما.

 

اتضح أن الثقوب السوداء على ما يبدو موجودة في كل مكان، وتقع في مركز معظم المجرات، وتنتشر في جميع أنحائها، وتتميز بأحجامها المختلفة. (بيدَ أن بعضها يبلغ قدرا من الجسامة يجعل وجودها أقرب إلى المحال من الناحية النظرية، لكنها مع ذلك تظل موجودة). في عام 2020، عثر علماء الفلك على أقرب ثقب أسود معروف إلى الأرض يقع على بُعد 1000 سنة ضوئية، أي تقريبا على بُعد خطوات قليلة منا وفقا للمقاييس الكونية، ورصدوه قابعا في كوكبة يمكن رؤيتها بالعين المجردة. وكما نرى، فالتنوع الموجود في الاكتشافات المتعلِّقة بالثقوب السوداء مذهل بالنسبة لشيء يشتهر بعدم وجوده من الأساس (لطالما عُدَّ الثقب الأسود كائنا فارغا لا يحتوي على أي شيء، ولكن بفضل التطور التكنولوجي الحديث، تمكَّن العلماء من الكشف عن تفاصيل مذهلة عن هذا الكائن الغامض).

 

لولاها لما كنا موجودين

تلعب الثقوب السوداء الهائلة بالأخص دورا مهما في تكوين النجوم داخل المجرات، وذلك بتحديد موعد إبطاء إنتاج النجوم أو توقفه تماما.
تلعب الثقوب السوداء الهائلة بالأخص دورا مهما في تكوين النجوم داخل المجرات، وذلك بتحديد موعد إبطاء إنتاج النجوم أو توقفه تماما. (شترستوك)

ومع ذلك، فإن ‏المخاوف التي تداهمنا بشأن الثقوب السوداء لا أهمية لها، لأن حتى أقرب ثقب أسود للأرض لا يُمثِّل تهديدا حقيقيا لنا، ولا يوجد أي ثقب أسود معروف يُشكِّل تهديدا للأرض، بل على العكس فإننا نستفيد من وجود الثقوب السوداء في هذا الكون. بمعنى أن الانفجارات النجمية التي تُنتِج الثقوب السوداء تقذف أيضا عناصر مثل الكربون والنيتروجين والأكسجين في الفضاء، في حين تساعد التصادمات بين الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية على نشر العناصر الأثقل مثل الذهب والبلاتين في الكون، وهي العناصر التي تُشكِّلنا وتُشكِّل كوكبنا (ما يعني أن الثقوب السوداء في الكون تساعد على تكوين العناصر الضرورية للحياة على الأرض، وبالتالي فإننا نستفيد من وجودها بدلا من أن تُشكِّل تهديدا لنا).

 

قد تلعب الثقوب السوداء الهائلة بالأخص دورا مهما في تكوين النجوم داخل المجرات، وذلك بتحديد موعد إبطاء إنتاج النجوم أو توقفه تماما. ويوضح كاليب شارف، رائد الفضاء الأميركي السابق ومدير مركز كولومبيا لعلم الأحياء الفلكي في نيويورك في كتابه “محركات الجاذبية: كيف تحكم الثقوب السوداء المنتجة لفقاعات من الغاز والغبار، المجرات والنجوم والحياة في الكون” (Gravity’s Engines: How Bubble-Blowing Black Holes Rule Galaxies, Stars, and Life in the Cosmos) ذلك بقوله: “هذه الزاوية الخصبة من الكون (التي تتميز بكثافة عالية للغاية من الغاز والغبار والنجوم والمجرات) يحكمها كل ما يدور حولها، بما في ذلك سلوك الثقب الأسود في مركز مجرتنا. ولو لم يحدث هذا التطور المشترك للمجرات والثقوب السوداء العملاقة والتنظيم الاستثنائي الذي تقوم به، لكان المسار الكامل الذي يؤدي إلينا مختلفا تماما أو حتى غير موجود” (بمعنى آخر، تعتمد حياتنا ووجودنا على التوازن الرقمي الذي يحدث بفضل تفاعل المجرات والثقوب السوداء الهائلة).

 

لطالما كانت الثقوب السوداء مصدر إعجاب وتأمل، وتمكَّنت من الاستحواذ على مخيلة الجمهور منذ عقود، لكنها مع ذلك اكتسبت سمعة معينة جعلتها مثيرة للمخاوف، ووُصِفتْ دائما بكونها وحوشا مدمرة تتملكها رغبة عارمة في التهام أي شيء يجرؤ على الاقتراب منها. تفرض هذه الصورة نفسها على أذهاننا فورا بمجرد أن نسمع عن الثقوب السوداء، لكن ما قد نسهو عنه أن لولا وجودها لكان الكون عموما وكوكبنا على نحو خاص مختلفا تماما ولن يحمل بين طياته هذا القدر من الدهشة والإعجاب. فرغم سمعتها السيئة، فإن الثقوب السوداء تؤدي دورا مهما في تشكيل الكون، كما تساهم في الحفاظ على توازنه وتحديد خصائصه، ولولاها لما تَشكَّل الكون على الهيئة التي نراها اليوم.

——————————————————————-

هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: سمية زاهر.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post طريقة جديدة لموت النجوم
Next post مشهد غريب لقط يخرج حياً.. بعد أسبوع من دفنه تحت الخرسانة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading