كيمياء لا تتصور وجودها.. كيف باتت منازلنا أكثر تلوثا من الشارع؟


مقدمة الترجمة:

هل يمكن أن يكون الهواء داخل منازلنا الدافئة أكثر تلوثا من الهواء الملبد بالعوادم في الخارج؟ ربما يكون ذلك غريبا بعض الشيء لكن هذا ما يعتقده العلماء والباحثون الآن بالفعل. وعلى النقيض من التلوث الخارجي الذي ينال اهتماما وافرا، لم تحظَ ملوثات الهواء المنزلية -التي لا تقل خطورة- بنصيبها من الاهتمام بعد. في مقاله المنشور في “نيو ساينتيست” يسلط محرر العلوم غراهام لاوتون الضوء على ما لا تراه بين ذرات الهواء الذي تستنشقه في منزلك.

 

نص الترجمة:

عندما أشق طريقي معتليا دراجتي وسط زحمة السيارات في لندن، يساورني دائما شعور بالقلق بشأن الهواء الخارجي الملوث الذي نتلقى منه نفحات متواصلة، في حين تغمرني الراحة بمجرد العودة إلى المنزل باعتبار أنني بعدت أخيرا عن الملوثات الخارجية وصرت أستنشق هواء أكثر عذوبة، لكن سرعان ما تبين أن ذلك مجرد إحساس وهمي بالأمان. تقول كورين ماندين من المركز العلمي والتقني للبناء في فرنسا: “لا يطرأ على أذهان الناس احتمالية أن بيوتهم قد تكتسي قدرا من التلوث، يتصورون أنها بيئة آمنة تبعدهم عن الملوثات وتكفل لهم الحماية، لكن ما لا يفطنون إليه أن منازلهم تحوي بين طياتها ملوثات أكثر من تلك التي يتشبع بها الهواء بالخارج”.

 

لا مكان آمن للتنفس

ظهرت احتمالية أن يكون الهواء الداخلي أسوأ من الهواء الخارجي لأول مرة في أوائل الثمانينيات، عندما بدأ يشتكي سكان البنايات الجديدة من مشاكل صحية مستمرة كالصداع والسعال والتهاب الحلق.
جرعة الملوثات التي نتنفسها داخل منازلنا غالبا ما تكون أعلى من المقدار الذي قد نتنفسه في الخارج وليس أقل كما قد يخيِّل إلينا. (شترستوك)

يعود الفضل جزئيا في بناء هذا التصور إلى فيروس “كوفيد-19” الذي جذب انتباهنا إلى أهمية جودة الهواء وضرورة تهوية الأماكن المغلقة، فبفضله تمكّنّا أخيرا من التعامل بجدية مع قضية التلوث الداخلي التي طال إهمالها. اتضح للعلماء أن الملوثات التي تتغلغل في منازلنا وتنتشر في أماكن عملنا ومدارسنا ربما تكون سببا رئيسيا للتعثر بأذيال المرض والوفاة، بينما يزداد الأمر سوءا في الأماكن التي يُستَخدم فيها الوقود الصلب (كالخشب والفحم لاستخراج الطاقة عن طريق الاحتراق) أو المواقد البسيطة التي ما زالت تعمل بالكيروسين (البارافين) للطهي في الداخل، وهذا يوضح لِمَ قد تصل أعداد الوفيات المرتبطة بنوعية الهواء إلى الملايين.

 

في العام الماضي، نشرتْ الأكاديمية الوطنية الأميركية للعلوم (NAS) مجلدا ثقيلا ومهما حول هذا الموضوع كشف الستار عن ثغرات هائلة في معرفتنا بهذه المسألة، ونوّه بأن سد هذه الثغرات يُعَدُّ أولوية وطنية. وعن ذلك تقول كورين ماندين: “إن البلدان الأخرى أدرجت هذه المسألة ضمن خططها، فقد بات تلوث الهواء مسألة شائعة تمادت في التوغل بقوة ولا يمكن التغاضي عنها”.

 

مع تسارع وتيرة هذا البحث، وظهور الحجم الحقيقي للمشكلة، يجدر بنا أن نستنتج في النهاية أنه لا مكان آمن يؤلف بيننا وبين البيئة المحيطة ويمكن من خلاله التنفس بأمان. ومع ذلك، فإن الخبر المطمئن قليلا أن ثمة سبيلا لننأى عن ظل هذا الخطر ونقلل تعرضنا للتلوث الداخلي بإجراء بعض التغييرات البسيطة على نمط حياتنا حتى تنجاب عنا هذه الأزمة. وكما هو الحال مع جميع الأشياء السامة، فإن المخاطر التي تنطوي عليها تعتمد على مدى تعرضنا إليها ومقدار الجرعات التي نتلقاها.

 

على سبيل المثال، يقضي الشخص العادي في الولايات المتحدة نحو 69% من وقته داخل المنزل، في حين يقضي ما يقرب من 18% من وقته في أماكن داخلية أخرى (وكذلك الأمر في معظم أنحاء العالم). وقد نغفل عن حقيقة أن جرعة الملوثات التي نتنفسها داخل المنازل غالبا ما تكون أعلى من المقدار الذي قد نتنفسه في الخارج وليس أقل كما قد يُخيَّل إلينا، وذلك ما تعلمناه من فيروس كورونا الذي أثبت أن من غير المرجح أن تتبدد عزيمة تلك الفيروسات والأجسام الدخيلة في الأماكن المغلقة، ما يزيد من احتمالية استنشاقها.

 

ظهرت احتمالية أن يكون الهواء الداخلي أسوأ من الهواء الخارجي لأول مرة في أوائل الثمانينيات، عندما بدأ سكان البنايات الجديدة يشتكون من مجموعة من المشكلات الصحية المستمرة التي استأثرت بهم كالصداع والسعال والتهاب الحلق. وفي عام 1986، أطلقتْ منظمة الصحة العالمية على هذه الظاهرة اسم “متلازمة المباني غير الصحية” أو “متلازمة المباني المريضة” (sick building syndrome)، وبدأت البحث في أسبابها.

 

نصف دزينة من الملوثات في منزلك

الغبار الذي يتكون غالبا من بقايا خلايا الجلد الميتة والشعر والألياف وحبوب اللقاح والعث، يمكن أن يفضي إلى رد فعل مناعي عند استنشاقه
الغبار الذي يتكون غالبا من بقايا خلايا الجلد الميتة والشعر والألياف وحبوب اللقاح والعث، يمكن أن يفضي إلى رد فعل مناعي عند استنشاقه. (شترستوك)

تبين أن السبب الرئيسي لتلوث الهواء الداخلي يعود غالبا إلى سوء التهوية، والأثاث الذي يُطلِق مواد كيميائية سامة، فضلا عن العنصر الأهم وهو الانكباب على التدخين. تؤدي ستة ملوثات في الحقيقة دور الجاني الرئيسي المسؤول عما حاق بنا: أولها دخان التبغ، يليه أول أكسيد الكربون الذي ينبعث من أجهزة الغاز المعيبة أو سيئة التهوية، وثالثها غاز الرادون الذي يتسرّب من أعماق الأرض إلى المباني (عبر شقوق الأرضيات أو نقاط تلاقي الأرضيات بالجدران، أو من خلال النوافذ، كما أن التعرض له لفترات طويلة يزيد من خطر الإصابة بسرطان الرئة)، وينتج في الأساس من الانحلال الطبيعي لليورانيوم والثوريوم والراديوم.

 

أما الزوج التالي من المواد الكيميائية الصناعية الشائعة التي تغشى منازلنا فهو البنزين وثلاثي كلورو الإيثيلين (الذي يوجد في العديد من المنتجات الاستهلاكية مثل مزيلات بقع الملابس، ومنظفات السجاد، ومناديل التنظيف، والطلاء). تندرج هاتان المادتان تحت قائمة المركبات العضوية المتطايرة، التي يُطلَق عليها هذا الاسم لأنها تتبخر بسهولة في درجة حرارة الغرفة، ومن ثم تتسرب من كل شيء بدءا من الطلاء، مرورا بالأثاث أو الأرضيات، ووصولا إلى الأجهزة الكهربائية. وأخيرا هناك الجاني السادس الذي يتألف من جزيئات متناهية الصغر لا يتجاوز حجمها 2.5 ميكرومتر (وتُعرف باسم PM2.5)، وتنبعث هذه التكتلات الصغيرة المحمولة جوا من المواد الكيميائية العضوية والسخام (الفحم) والمعادن والتربة والغبار.

 

لكن منذ الثمانينيات تقلص حجم مشكلة بعض هذه الملوثات، ولا سيما دخان التبغ على الأقل في الأماكن العامة في بعض البلدان. ومع تطور السبل التي اهتدى إليها المتخصصون في أخذ العينات والتحليل، أصبحنا أكثر وعيا بالأشياء التي يحفل بها الهواء الذي نتنفسه، وازدادت قائمة الملوثات بالتبعية. وتضاف إلى هذه القائمة بعض الأصباغ الاصطناعية -المعروفة باسم أصباغ “آزو” (azo)- التي تُستخدم في كل شيء كالملابس والمراتب، فقد ثبت أنها سامة ومسببة للسرطان، فضلا عن العديد من المركبات العضوية المتطايرة والجزيئات الدقيقة.

 

يبلغ حجم أصغر جزيء من هذه الجزيئات متناهية الصغر نحو 0.1 ميكرومتر، وكما نرى فإن حجم هذه الجزيئات صغير بما يكفي للعبور من الرئتين إلى مجرى الدم والاستقرار في أعضاء الجسم متسببة في التهاب، كما أنها تزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية والأمراض العصبية. وحتى الغبار الذي يتكون غالبا من بقايا خلايا الجلد الميتة والشعر والألياف وحبوب اللقاح والعث يمكن أن يُفضي إلى رد فعل مناعي عند استنشاقه، وقد يعمل ناقلا للمركبات العضوية المتطايرة والمواد الكيميائية الأخرى.

 

كل تلك الأسباب كافية لتؤجج فيك رغبة لفتح النوافذ فورا، ومع ذلك لا بد أن تضع في اعتبارك أن الهواء الخارجي يمكن أن يجلب شحنة من الجسيمات الضارة وأكاسيد النيتروز والمركبات العضوية المتطايرة المنبعثة من عوادم السيارات، وقد يجلب أيضا الأوزون الذي يتشكل عندما تتفاعل أكاسيد النيتروز مع المركبات العضوية المتطايرة في وجود ضوء الشمس. قد يجر الأوزون وراءه كوارث أشد إيلاما لأنه يهاجم المركبات غير الضارة مثل جزيئات العطور ويحولها إلى مواد سامة.

 

لتأكيد ذلك، تقول نيكولا كارسلاو من جامعة يورك بالمملكة المتحدة: “نعلم أن الأوزون الداخلي يحفز على إنتاج الكثير من المواد الكيماوية، وأن الكيماويات تتسبب في خلق بيئة داخلية مكتظة بالملوثات التي يكون بعضها ضارا بالصحة على غرار الفورمالديهايد (الذي غالبا ما يكون مصدره منتجات الخشب المضغوط، ويمكن أن يؤدي استخدام مواقد الغاز ومواقد حرق الأخشاب والسخانات إلى رفع مستويات الفورمالدهيد داخل المنازل).

 

استجابة للوعي المتزايد بخطر التلوث الداخلي، وضعت منظمة الصحة العالمية إرشادات للحد من التعرض لأشهر خمسة مركبات عضوية متطايرة موجودة في المباني، إلى جانب الملوثات الشائعة الأخرى بما فيها أول أكسيد الكربون (الذي يؤدي إلى تلف خطير بالأنسجة عند التعرض إليه بكميات كبيرة)، وغاز الرادون الذي تحدثنا عنه سابقا (وعلمنا أنه يتسرب من التربة إلى الهواء، حيث يضمحل وينتج مزيدا من الجزيئات المُشعة التي قد تسبب سرطان الرئة). تعليقا على ذلك، يقول ديفيد دورمان من جامعة ولاية كارولينا الشمالية: “تزخر البيئات الداخلية بالفعل بآلاف المواد الكيميائية، ولا نملك سوى القليل جدا من المعلومات المتعلِّقة بدرجة سُمّيتها”.

 

صداع نصفي غير مبرر وأعراض أخرى

الملوثات الداخلية قد تكون جزءا من تفسير الصداع النصفي غير المبرر
الملوثات الداخلية قد تكون جزءا من تفسير الصداع النصفي غير المبرر. (شترستوك)

ثمة سبب وجيه لاعتبار أن تلك الملوثات التي نعرفها تدق ناقوس الخطر. فمثلا أحد المركبات العضوية المتطايرة التي تثير القلق بصفة خاصة هو المذيب الصناعي ثلاثي كلورو الإيثيلين (TCE) الموجود في الغراء والورنيش وسوائل التنظيف. يُعَدُّ ثلاثي كلورو الإيثيلين مادة مسرطنة مرتبطة بتلف الدماغ والكبد والكلى عند التعرض لها لفترات طويلة، وأُجريت معظم الدراسات المتعلِّقة بهذا الموضوع على العمال الصناعيين المُعرَّضين لتركيزات عالية من هذا المذيب جرّاء عملهم.

 

لكن فيما يخص التأثيرات الناجمة عن التعرض المنخفض لهذه المادة السامة، فما زلنا نجهل الكثير، غير أن إرشادات منظمة الصحة العالمية تنصح بضرورة توخي الحذر نظرا لوجود أدلة كافية على أن ثلاثي كلورو الإيثيلين مادة مسرطنة تفضي إلى تسمم الجينات، لذا فاحتمالية إصابة جميع الحالات التي تتعرض لهذه المادة المسرطنة في بيئة داخلية ما زال قائما، ولا يمكننا وضع حد لما ستؤول إليه الأمور.

 

ينطبق الأمر ذاته على مادة الأكرولين، وهي جزيء ينبعث من مواقد الغاز، ومواقد الحطب، والأواني العميقة للقلي (المغمورة حتى آخرها بالزيت)، كما ينبعث أيضا من السجائر العادية والإلكترونية. تشير الدراسات إلى أن التعرض المستمر للأكرولين يسبب أمراضا في الجهاز التنفسي والقلب والأوعية الدموية. وعندما يتعلق الأمر بالانبعاثات الناتجة من تسخين الزيت أثناء الطهي في مطابخ عديمة التهوية، فإننا نكون دائما في مواجهة خطر الإصابة بسرطان الرئة عند التعرض إلى هذه الانبعاثات، فيما توصل تحليل آخر معتمدا على نتائج العديد من الدراسات إلى أن التعرض للبنزين في بيئة مغلقة بسبب الانبعاثات الناتجة من عوادم السيارات، يزيد من خطر الإصابة بسرطان الدم والربو وانخفاض وزن الأطفال عند الولادة، فكلما زاد تركيز هذه المادة السامة، ازداد مستوى الخطر.

 

بصورة عامة، ما زال وعينا حيال مخاطر الأمراض الناتجة عن الملوثات الداخلية ناقصا، ولسنا متأكدين إلا من القليل منها، لكن أثبتت الدراسات أن ارتفاع حالات الربو لها علاقة بالتلوث الخارجي، لذا من المنطقي أن تُعزى بعض الحالات إلى التلوث الداخلي أيضا. في السياق ذاته، ترى كورين ماندين من المركز العلمي والتقني للبناء في فرنسا أن الملوثات الداخلية قد تكون جزءا من تفسير الصداع النصفي غير المبرر، وربما يكون لها علاقة ببعض المشكلات الإنجابية. لكن ما زال التأكد من هذه الفكرة محجوبا بغمامة قاتمة، فالفجوة المعرفية حول نِسَب المرض الناجمة عن كل هذه الملوثات واسعة للغاية بدرجة محبطة، حتى إن مجلة “إن دور آير” (Indoor Air) الرائدة في هذا المجال وجهت مؤخرا دعوة عاجلة للبحث في هذا الموضوع.

 

أثبتت الأبحاث الوبائية حتى الآن صعوبة تتبع الأمر، ولتأكيد ذلك تقول ماندين: “يغدو الأمر أسهل عند تتبع جودة الهواء الخارجي لتوافر محطة مراقبة ترصد ما يتعرض إليه آلاف الأشخاص وتقتفي أثر الملوثات، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في تتبع جودة الهواء الداخلي، إذ تختلف كل مدرسة وكل فصل دراسي وكل مسكن وكل مكتب عن الآخر”. ولأن الأمر يعتمد على المكان الذي تعيش فيه ومدى نقاء الهواء بالخارج، فإن تقدير المخاطر المحتملة للهواء الداخلي يختلف للغاية من مكان إلى آخر.

 

إلى أن تتضح لنا الصورة كاملة، لا بد من تقليل تعرُّضنا قدر الإمكان لهذه المواد السامة. ولحُسن الحظ، ثمة بعض السبل اليسيرة التي يمكن أن ترشدنا نحو طريقة أفضل للحياة على الأقل في منازلنا، تلك المساحة التي نتمتع بأكبر قدر من التحكم فيها، فمثلا عملية الطبخ من أهم العناصر التي لا بد أن نوليها اهتماما كبيرا، فقد وصفتها الأكاديمية الوطنية الأميركية للعلوم (NAS) بأنها “أحد أهم مصادر انبعاث المواد الكيميائية في الأماكن المغلقة”. ربما يغيب عن بالنا أن مواقد الغاز أكثر مصادر الحرارة تلويثا للهواء الداخلي لأنها مصدر لانبعاث أول وثاني أكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين (المسببة لالتهاب العيون وحساسية الرئة)، التي يمكن أن تتراكم في حالة عدم وجود تهوية كافية.

 

احذر القلي

يعتقد الناس أن معطرات الجو والبخور والزيوت العطرية جيدة لتنقية الهواء الداخلي والتخلص من الملوثات، لكن ما لا يفطنون إليه أنها مصدرا أساسيا لنفحات متواصلة من التلوث.
يعتقد الناس أن معطرات الجو والبخور والزيوت العطرية جيدة لتنقية الهواء الداخلي والتخلص من الملوثات، لكن ما لا يفطنون إليه أنها مصدرا أساسيا لنفحات متواصلة من التلوث. (شترستوك)

كقاعدة عامة، تُعَدُّ عملية القلي أكثر تلويثا للهواء من غلي الطعام أو تبخيره، لأنها تُحرر الألدهيدات والهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات (PAHs) من زيت الطهي. تعليقا على ذلك، تقول نيكولا كارسلاو: “يمكن للحوم بالأخص أن تكون مصدرا غنيا لتحرير الجسيمات في الجو”. وبالفعل توجد بعض الدلائل على أن الأبخرة الناتجة عن طهي اللحوم يمكن أن تفعل أكثر من مجرد أن تُأزم الجو بحالة من الدوار أو صعوبة التنفس التي نرزح تحت وطأتها.

 

في إحدى الدراسات بجامعة نزارباييف في كازاخستان، تعرض بعض المتطوعين لأبخرة ناتجة عن قلي سيقان دجاج على موقد غاز، وبقياس نشاط أدمغتهم بأجهزة التخطيط الكهربائي، اتضح أن الوقت الذي وصلوا فيه إلى ذروة التعرض لهذه الأبخرة باتوا أشبه بمَن يعانون من “التنكس العصبي” (Neurodegeneration) (حالة فقدان تدريجي متفاقم لبنية أو وظيفة الخلايا العصبية). لكن بعد نحو 30 دقيقة من التجربة، عاد نشاط دماغ المتطوعين إلى طبيعته، ومع ذلك حذَّر الباحثون من أن التعرض المزمن لمثل هذه الأبخرة ربما يتسبب في أضرار بالغة على المدى الطويل.

 

ما قد يدعو إلى الاطمئنان قليلا هو وجود بعض الطرق اليسيرة التي يمكن أن تقلل من التعرض لمثل هذه الأنواع من الملوثات، منها محاولة الحد من عمليات القلي أو الشواء، واللجوء بدلا من ذلك إلى الطهي بالغليان أو البخار، وضرورة استخدام مراوح الشفط في المطابخ. تقول فيكي غراسيان من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو بالولايات المتحدة، والمتحدثة باسم المؤلفين المشاركين للتقرير السابق الذي نشرته الأكاديمية الوطنية الأميركية للعلوم: “أعتقد أن الكثير منا لن يطهو مرة أخرى أبدا دون تشغيل مراوح الشفط”.

 

أما خارج المطبخ، فسيكون جيدا لو أطفأت المواقد الخشبية، وتجنبت الشموع المعطرة ومعطرات الجو والروائح الأخرى التي لا لزوم لها، وعن ذلك تقول ماندين: “يعتقد الناس أن معطرات الجو والبخور والزيوت العطرية جيدة لتنقية الهواء الداخلي والتخلص من الملوثات، لكن ما لا يفطنون إليه أنها مصدر أساسي لنفحات متواصلة من التلوث”.

 

افتح نافذتك

التهوية الجيدة هي الحل الأمثل للتقليل من تركيز الملوثات المتولدة في الداخل.
التهوية الجيدة هي الحل الأمثل للتقليل من تركيز الملوثات المتولدة في الداخل. (شترستوك)

تشتهر النباتات المنزلية بقدرتها على تنقية الهواء، لكن تشير الأبحاث إلى أن معظم المنازل ستحتاج إلى الآلاف منها حتى تكفل لك بيئة آمنة وتتمكن من إحداث فرق في جودة الهواء، لهذا فالتهوية الجيدة هي الحل الأمثل للتقليل من تركيز الملوثات المتولدة في الداخل. صحيح أن فتح النافذة يستدعي دخول الأوزون، لكن ما لم تكن تقطن منزلا يطل على طريق مزدحم، فسيكون للهواء النقي تأثير إيجابي، خاصة عندما لا تكون الشمس ساطعة للغاية ويكون إنتاج الأوزون منخفضا. يمكن لأجهزة تنقية الهواء والمكيفات أن تساعد أيضا في ذلك، ولكنها باهظة الثمن، لذا فالحل الأرخص هو شراء جهاز لقياس جودة الهواء، إذ لا يكلِّف الكثير ويمكن استخدامه في الأماكن سيئة التهوية.

 

عليك أيضا ألا تبالغ في التنظيف، إذ يُعيد “التنفيض” و”الكنس” تعليق الغبار مرة أخرى في الهواء ما يزيد من خطر استنشاقه. تنصح ماندين باستخدام قطعة قماش مبللة بدلا من منفضة الغبار أو المكنسة الكهربائية. وعند التنظيف، من المستحسن اختيار المنظفات الكريمية، واستخدام مزيلات العرق ذات الكرة الدوارة بدلا من البخاخ. سيكون جيدا أيضا لو تركت أي أثاث ومفروشات جديدة في مكان جيد التهوية لبضعة أيام قبل استعمالها، وعن ذلك تقول ماندين: “إن الأثاث الجديد ينبعث منه الكثير من المركبات العضوية المتطايرة”.

 

من جانبه يقول ديفيد دورمان: “إن وجود مستوى معين من تلوث الهواء الداخلي أمر لا مفر منه”. صحيح أن معرفتنا بهذا الموضوع تتخللها ثغرات علمية وتحتاج إلى أبحاث أخرى، لكن لحُسن الحظ تُسَد هذه الثغرات دائما بالطرق الجديدة التي تسمح للعلماء أخذ عينات من البيئة والتعرف على جميع المواد الكيميائية، فتجعلنا على أتم وعي بما يحمله الهواء بالضبط.

 

باستخدام هذا النهج، اكتشفت إحدى الدراسات الحديثة فئة من المركبات السامة المتطايرة في الجو تسمى “الكلورالديمينات” (N-chloraldimines) موجودة في صالة للألعاب الرياضية، التي تشكلت من تفاعل بين الأحماض الأمينية في العرق ومبيض يستخدم لتنظيف معدات التمرين، فيما توصلت تقنية مماثلة إلى أن التريكلوسان المضاد للبكتيريا موجود في كل مكان في الهواء الداخلي (إذ يعمل مثبطا للبكتيريا في مستحضرات التجميل والمعقمات والمنظفات المنزلية، والاستخدام الشائع له يمكن أن يساهم في تكون أنواع من البكتيريا المستعصية على المضادات الحيوية). وعن هذا تقول ماندين: “عندما لم نتمكن من قياسه، اعتقدنا أنه موجود فقط في معجون الأسنان”.

 

تتمثل التحديات البحثية الأخرى في معرفة كيفية اختلاط المواد الكيميائية المختلفة وتفاعلها مع بعضها بعضا. تقول دورمان: “المشكلة أننا نتعرض لمختلف المواد الكيميائية في بيئتنا الداخلية، لكن هناك بعض التفاعلات الكيميائية التي ما زالت عصية على إدراكنا”. ربما ما زال هناك الكثير لنتعلمه، ولكن مثلما أثارت متلازمة المباني المريضة موجة من الاكتشافات، حفَّز فيروس “كوفيد-19” أيضا الأبحاث لتصب جام تركيزها على جودة الهواء الداخلي. ومن جانبها، تقول دورمان: “أعتقد أن ما توصلنا إليه هو بداية فجر جديد”. وفي غضون 10 سنوات فقط، ستغدو حصيلة معرفتنا بهذه الأشياء أكبر مما هي عليه الآن، لكن إلى أن يحين ذلك الوقت وكنت بحاجة إلى قاعدة عامة تستند إليها، فعليك بالتهوية ثم التهوية.

 

لا يوجد شيء كفيل بأن يجعلك قلقا بشأن ما إذا كان منزلك يعج بالمواد السامة أكثر مما يفعله البحث عن مقال عن التلوث الداخلي. لذا قررت شراء جهاز مراقبة جودة الهواء الداخلي لمعرفة ما يحدث. غالبا ما تصل جودة الهواء في منزلي إلى مستويات آمنة، لكن قد تقفز بسرعة إلى المستويات الخطر من خلال بعض الأنشطة غير الضارة نسبيا، فمثلا عندما وضعته في الحمام أثناء رش مزيل العرق، أوضح جهاز مراقبة جودة الهواء إجمالي نسبة المركبات العضوية المتطايرة (TVOC) من مزيل العرق، ودفع أيضا جميع الفئات الثلاث من الجسيمات (PM10 وPM2.5 وPM0.1) السامة التي سبق وتحدثنا عنها إلى مستويات غير آمنة.

 

وعندما قليتُ بعض القريدس (الجمبري) بدون تشغيل مروحة الشفط، أظهر الجهاز أن نسبة جسيمات الـ”PM” وصلت إلى الحد الأقصى في القراءة، ومع ذلك انخفضت مرة أخرى إلى المستويات الآمنة عند تشغيل مروحة الشفط. لكن بعدما أطفأت مروحة الشفط، ارتفعت النسبة من جديد واستمر الوضع هكذا لمدة تقارب 15 دقيقة حتى مع وجود نافذة مفتوحة.

 

في نهاية المطاف، تختتم كورين ماندين حديثها بقولها: “إن أجهزة مراقبة جودة الهواء الداخلي بحاجة إلى التعامل معها بحذر. صحيح أنها مفيدة، لكن مع ذلك لم تُختَبر جميعها بعد، وما هو موجود في السوق حاليا من الصعب اعتباره وسيلة دقيقة يُعوَّل عليها. لذا في النهاية لا يوجد حاليا معيار يمكن من خلاله تقييم مدى موثوقية بعض أجهزة الاستشعار، فعندما اختبرنا بعضها في معاملنا، اكتشفنا أن البعض منها لا يقيس أي شيء”.

———————————————————————————————————-

هذا المقال مترجم عن New Scientist ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: سمية زاهر.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post امرأة حامل أصيبت برصاصة قاتلة في سيارة عند تقاطع سياتل
Next post عدسات الهواتف الذكية تفسد أعراس الجزائريين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading