بعد ساعات قليلة من اندلاع المواجهات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي صور لمجموعة من الجنود المصريين الذين تم احتجازهم من قبل قوات “الدعم السريع” في قاعدة مَرَوي الجوية شمال السودان.
بعد ذلك بساعات قليلة أصدر المتحدث العسكري المصري بيانًا مقتضبًا زعم فيه أن هؤلاء الجنود كانوا يشاركون في تدريبات مشتركة مع نظرائهم السودانيين. وهو ما أشار إليه أيضا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال اجتماعه مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، حيث أكد أن القوات المصرية الموجودة في السودان هي فقط لأغراض التدريب وليس انحيازا لطرف على حساب آخر.
ولكن لم يكد يمرّ يومان على هذه التصريحات، حتى كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن القوات المصرية في السودان لم تكن من أجل القيام بتدريبات مشتركة، وإنما لتقديم الدعم للفريق عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني، في صراعه ضد نائبه محمد حمدان دقلو (المعروف باسم حميدتي) قائد قوات الدعم السريع. ووفقًا للصحيفة، فقد أرسلت مصر طائرات حربية وطيارين لدعم الجيش السوداني، وأن طائرة مصرية على الأقل قد دمّرت مستودعًا للذخيرة تسيطر عليه قوات الدعم السريع.
والحقيقة فإن توّرط مصر في الصراع الدائر حاليا بالسودان ليس مفاجئا، ولا يجب أن يكون كذلك، ولم تكن هناك حاجة لمداراته، خاصة أن مؤشراته أوضح من أن يتم إخفاؤها أو الكذب بشأنها، فالسودان منذ الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير أصبح ساحة مفتوحة لكافة القوى الإقليمية والدولية.
وكل طرف يسعى لتعظيم مكاسبه أو على الأقل تقليل خسائره في ظل حالة النزاع والفراغ السياسي هناك. ولكن المشكلة كانت، ولا تزال، هي في كيفية صياغة إستراتيجية التأثير والنفوذ بحيث لا تكون لها ارتدادات عكسية على المصالح المصرية في السودان.
مراجعة السياسة المصرية تجاه السودان طيلة السنوات الأربع الماضية تكشف عن رؤية قصيرة المدى، وفشل في قراءة التحولات والتطورات السياسية في السودان وخارجه، وبالتالي اتباع إستراتيجية متخبطة وغير ناضجة أسهمت في اندلاع الأزمة الحالية من جهة، وأضعفت النفوذ السياسي للقاهرة في التعاطي مع تداعياتها من جهة أخرى.
فمنذ عزل الرئيس السابق عمر البشير في 2019، تبنت مصر سياسة تجاه السودان تسعى إلى تحقيق هدفين أساسيين: الأول هو ضمان عدم قيام نظام حكم مدني، ناهيك عن أن يكون نظاما ديمقراطيا، وذلك لما قد يكون له من تداعيات كبيرة على مصر والمنطقة.
والثاني: هو ضمان عدم تحوّل السودان إلى دولة فاشلة، تجنبا لأزمات سياسية وإستراتيجية واقتصادية وإنسانية لن تقف عند حدود السودان، وإنما ستصل تداعياتها إلى الحدود الجنوبية لمصر، لذلك رأت القاهرة أن إقامة نظام حكم سلطوي ذي نكهة عسكرية قد يكون الضامن الوحيد للاستقرار في السودان، وذلك رغم المقاومة المدنية الشرسة لذلك، ورغم وجود صراع مرير على السلطة بين شخصيتين عسكريتين هما البرهان وحميدتي.
مراجعة السياسة المصرية تجاه السودان طيلة السنوات الأربع الماضية تكشف عن رؤية قصيرة المدى، وفشل في قراءة التطورات، وبالتالي اتباع إستراتيجية متخبطة أسهمت في اندلاع الأزمة الحالية، وأضعفت نفوذ القاهرة
السياسات الخاطئة
هذه الرؤية القاصرة دفعت القاهرة إلى تبني عدد من السياسات الخاطئة التي أسهمت في وصول الأوضاع بالسودان إلى ما هي عليه الآن:
- فمن جهة أولى، بعد اتفاق تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين الذي وقع في أغسطس/آب 2019، سعت مصر بكل قوة لدعم المكون العسكري في المجلس الانتقالي الذي يقوده البرهان وحميدتي على حساب المكون المدني.
- ومن جهة ثانية، شجّعت مصر عسكر السودان على الانقلاب على السلطة في أكتوبر/تشرين الأول 2021 نتيجة لعدم ارتياحها لمواقف رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك خاصة فيما يتعلق بسد النهضة الذي يمثل قضية إستراتيجية حساسة لمصر. كما عملت على توفير غطاء إقليمي ودولي لدعم انقلاب البرهان وحميدتي على حكومة حمدوك.
- ومن جهة ثالثة، سعت مصر إلى استقطاب بعض القوى المدنية السودانية. ونجحت بالفعل في ذلك بعد انقسام ائتلاف “قوى إعلان الحرية والتغيير” بين كتلتي المجلس المركزي والكتلة الديمقراطية التي أصبحت قريبة من القاهرة.
- ومن جهة رابعة، حاولت مصر إفساد الاتفاق الإطاري الذي تم توقيعه بين المكونيْن العسكري والمدني في الخامس من ديسمبر/كانون الأول 2022 عبر طرح مبادرة سياسية بديلة، ومحاولة استقطاب بعض القوى المدنية لتبنيها في حين رفضتها الكتلة الرئيسية في قوى إعلان الحرية والتغيير وهي كتلة المجلس المركزي.
- وأخيرًا، عندما ظهرت الانقسامات بين البرهان وحميدتي خلال الشهور الماضية، اختارت مصر الانحياز للأول في مقابل الثاني، وذلك لعدة أسباب تبدو منطقية من وجهة نظر النظام المصري:
- أولها أن البرهان يمثل المؤسسة العسكرية السودانية التقليدية، ولذلك فإن التعامل معه يعني وجود علاقة مستقرة نسبيا ويمكن التنبؤ بها عكس التعامل مع أمير حرب وزعيم مليشيا مثل حميدتي.
- وثانيها أن ثمة ارتيابًا في السلوك السياسي لحميدتي الذي انقلب على حلفائه السابقين خاصة عمر البشير الذي لعب دورًا مهمًّا في وصوله إلى ما هو عليه الآن، وهو ما يعني عدم الوثوق به أو في وعوده.
- وثالثها أن شبكة العلاقات الخارجية القوية لحميدتي أثارت مخاوف القاهرة من إمكانية اتباع سياسة خارجية مستقلة قد لا تتماشى مع المصالح المصرية في المنطقة.
كل هذه العوامل أثرت بشكل كبير على حسابات مصر تجاه السودان، وأضعفت قدرتها على التأثير الإيجابي في الأوضاع هناك خلال السنوات الماضية. ولذلك عندما اندلعت المواجهات بين البرهان وحميدتي، وجدت القاهرة نفسها في موقف صعب وعجز عن التحرك.
وقد بدا هذا العجز بوضوح حين قامت القاهرة بالتواصل مع أطراف وقوى إقليمية يبدو أن لديها نفوذًا واسعًا داخل السودان من أجل التوسّط للإفراج عن جنودها المحتجزين لدى حميدتي.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.