واشنطن- في كتاب صدر حديثا، يُقدم ستيفن سايمون، وهو أحد المساهمين في دائرة صنع القرار الأميركي تجاه الشرق الأوسط على مدار الـ40 عاما الأخيرة، كشْف حساب قاسٍ لتدخل بلاده في المنطقة، وكيف تبدو نهايتها المريرة.
وعرض سايمون في كتابه المعنون “الوهم الكبير: صعود وسقوط الطموح الأميركي في الشرق الأوسط” (Grand Delusion: The Rise and Fall of American Ambition in the Middle East) سردا شاملا ولاذعا للتدخل الأميركي العسكري في هذه المنطقة على مدار 4 عقود.
ويتحدث سايمون عن الوهم الكبير والدوافع والإستراتيجيات وأوجه القصور في كل إدارة رئاسية، ابتداء من الرئيس جيمي كارتر وصولا للرئيس جو بايدن، ويكشف عبر شبكة من الأحداث كيف تُدار عملية صنع سياسة الشرق الأوسط من خلال عملية سياسية في واشنطن غالبا ما تحكمها الأمنيات والحسابات والسياسة الحزبية.
ويُحسب لسايمون إمكانياته في ربط الأحداث، ليس فقط بالإدارة التي حكمت في تلك اللحظة التاريخية واتخذت القرار، بل يعود ويربط ذلك بتمهيد الطريق لهذه السياسة أو تلك ممثلا في قرارات ومواقف الإدارات السابقة، وعلى سبيل المثال، يرى أن غزو العراق جاء نتيجة تراكمية ونتاجا لغطرسة ما بعد الحرب الباردة من جانب واشنطن، إضافة لتمهيد إدارة بيل كلينتون ومن قبله جورج بوش الأب، وهو ما سمح وسهّل ليس فقط لتمهيد الطريق لغزو العراق فحسب، بل ساعد أيضا في تفسير سبب بقاء عشرات الآلاف من القوات الأميركية في المنطقة حتى اليوم.
صنع السياسة الأميركية
ينقل سايمون خبرته كشاهد ومؤرخ بعد أن شارك بشكل مباشر في العديد من السياسات والإستراتيجيات التي كتب عنها في كتابه، حيث عمل في وزارة الخارجية خلال إدارتي ريغان وبوش الأولى، وخدم في مناصب عليا بمجلس الأمن القومي في إدارتي كلينتون وأوباما، كما شغل خلال تلك الفترات مناصب عليا بالعديد من مراكز الأبحاث والجامعات وكتب عدة كتب عن الشرق الأوسط.
وسَخِر سايمون من هؤلاء الذين توقعوا أن نظام بشار الأسد في سوريا سيسقط بسرعة في مواجهة تمرد غير منظم ومجزأ للغاية، والذين كان من بينهم بعض المستعربين الأكثر خبرة في وزارة الخارجية. ويؤكد أنه في بعض الأحيان لا يكون صناع السياسات الأكثر فعالية هم أولئك الذين لديهم أفضل السير الذاتية الأكاديمية أو الخبرات الإقليمية، بل أولئك الذين يتمتعون بميزان وحكم جيدين.
ومع ذلك، لا يجد سايمون سببا وجيها للإشادة بالسياسات التي ساعد في تشكيلها، بل على العكس يعتقد أنه خلال العقود الأربعة الأخيرة نتج عن سياسات بلاده -التي آمنت بضرورة تأمين الاستقرار وادّعت تعزيز الديمقراطية ومحاربة الإرهاب- تعزيز الاستبداد وتفاقم البؤس الاقتصادي وانتشار أعمال العنف.
كما هاجم سايمون بيروقراطية صنع السياسة الأميركية، وخصّ هؤلاء النافذين الذين يشرفون على ملف “عملية السلام” على مدار عقود طويلة، واعتبرهم “محترفي عملية السلام” الذين ركزوا على العملية (اللوجيستية البيروقراطية) أكثر بكثير من تركيزهم على تحقيق السلام، كما يجادل أنه “لم تكن هناك مصلحة إستراتيجية أميركية مقنعة في التوسط للسلام بين إسرائيل وجيرانها، بعدما نجحت في التفاوض على السلام مع مصر”.
ويجادل سايمون أيضا بأنه لم يكن ينبغي على الولايات المتحدة أن تكون سريعة في التخلي عن الدكتاتور الليبي معمر القذافي، الذي يرى أنه كان حليفا مفيدا في مجال مكافحة الإرهاب، حيث يرى أن واشنطن رضخت سريعا للمناشدات البريطانية والفرنسية للتدخل، وهو ما سمح بأن تعيش ليبيا الفوضى حتى اليوم، في حين يوافق على أنه لا ينبغي أن يكون هدف سياسة الولايات المتحدة “إصلاح” أي منطقة، ناهيك عن منطقة معقدة مثل الشرق الأوسط، فلا تملك الولايات المتحدة، ولا غيرها، القدرة على القيام بذلك.
يشير الكتاب إلى أن واشنطن تخسر نفوذها وبسرعة في الشرق الأوسط كما بدا واضحا من نجاح الصين في مارس/آذار الماضي في التوسط لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران، واعتبر سايمون أن تضاؤل النفوذ الأميركي جاء تدريجيا مع تولي الرئيس جو بايدن منصبه، حيث أكملت الولايات المتحدة انسحابها غير الموفق من أفغانستان، وهي الدولة التي أمضت واشنطن 20 عاما في محاولة فاشلة لبناء دولة ونظام جديدين فيها.
ويضيف أن الجهود الدبلوماسية الأميركية لإحياء الاتفاق النووي الإيراني تعثرت، فضلا عن متابعة واشنطن -بلا حول ولا قوة- وصول الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل إلى السلطة، مما يهدد ديمقراطيتها، ويؤجج موجة جديدة من العنف، ويعرض للخطر الاتفاقيات الإبراهيمية المدعومة من واشنطن.
واليوم، على الرغم من التحديات البعيدة المدى التي تواجهها المنطقة -بما في ذلك ويلات الحرب الأهلية في ليبيا وسوريا واليمن والسودان والاضمحلال الاقتصادي في مصر ولبنان وتونس والتهديدات المتزايدة لتغير المناخ وعودة الاستبداد- فإنه لم يتبقَّ سوى القليل جدا من أجندة واشنطن المتفائلة في المنطقة.
مسيرة 8 رؤساء
قسّم سايمون كتابه لـ8 فصول تغطي 8 إدارات رئاسية أميركية متعاقبة، مما يعطي العرض وضوحا زمنيا، ويبدأ الكتاب بمفاوضات الرئيس جيمي كارتر على اتفاقيات كامب ديفيد عام 1979 بين مصر وإسرائيل.
ووفقا لسايمون، كان تدخل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط حتى تلك اللحظة متواضعا نسبيا، إذ ابتعد الرؤساء دوايت أيزنهاور وجون كينيدي وليندون جونسون وريتشارد نيكسون وجيرالد فورد عن المنطقة، وهو ما تغير عقب حرب أكتوبر. ومع اندلاع الثورة الإيرانية، تغيرت رؤية واشنطن بشكل جذري لعلاقتها بالمنطقة، وبدأت في “عسكرة سياستها في الشرق الأوسط”، كما يكتب.
كما اعتبر سايمون أن سياسة كارتر التعيسة تجاه إيران، والتي انتهت بالجهود الكارثية لإنقاذ الرهائن الأميركيين في طهران، أسهمت في فوز رونالد ريغان في السباق الرئاسي عام 1980، إذ تضخم الدور الأميركي في عصر ريغان بشكل كبير، وشهد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وفضيحة إيران كونترا.
وخلال فترة حكم الرئيس جورج بوش الأب، طردت الولايات المتحدة القوات العراقية من الكويت، وبعد ذلك، في مؤتمر مدريد عام 1991، ساعدت في المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ومع ذلك، يرى سايمون أن إدارة بوش الأب لم تنجز الكثير، إذ إن الانتصار في حرب الخليج وإطلاق عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية لم يكونا أكثر من “أوهام مزدوجة” تركها بوش لخليفته الرئيس بيل كلينتون.
وفي ظل إدارة كلينتون، تم التوصل لاتفاقيات أوسلو، وحدث اعتراف متبادل بإسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، إلا أنه لم يتم إحراز أي تقدم حقيقي في بناء دولة فلسطينية، وباءت جهود كلينتون في فترة ولايته الثانية لتأمين اتفاق سلام حقيقي بالفشل، ثم أدت هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 التي شنها تنظيم القاعدة على الولايات المتحدة إلى وصول عسكرة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط لأعلى درجاتها.
ووقع بوش فريسة في يد المحافظين الجدد الذين دفعوه لشن حربين، وغزو أفغانستان والعراق، على الرغم من استنتاج مسؤولي الاستخبارات بأنه ليس للعراق صلات ذات مغزى بالجماعات الإرهابية، وأنه لا يمتلك أسلحة دمار شامل، ويؤكد سايمون أن بلاده “خسرت الحروب في العراق وأفغانستان وقتلت، أو تسببت في وفاة مئات الآلاف من الناس”.
عسكرة الشرق الأوسط
ثم جاءت إدارة أوباما إلى السلطة راغبة في الانسحاب من مستنقعات المنطقة فقط، لتجد نفسها أمام الانتفاضات الديمقراطية العربية غير المتوقعة، والتي تركت ردود الإدارة المراوغة على الثورات الشعبية ضد الأنظمة المتحالفة مع الولايات المتحدة الديمقراطيين والمستبدين على حد سواء يشعرون بالخيانة، ثم ما لبثت هذه الإدارة أن تجد نفسها منجرّة مرة أخرى بسبب صعود تنظيم الدولة، الذي أحبط جهود الرئيس للانسحاب من العراق. ليستنتج أن الإنجاز الإستراتيجي المهم الوحيد لأوباما، وهو الاتفاق النووي لعام 2015 مع إيران، والذي ألغاه الرئيس دونالد ترامب لاحقا.
وفي عهد ترامب تخلت الإدارة الأميركية عن التظاهر بالدعم لعملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية المستمرة منذ عقود، واختارت بدلا من ذلك نقل سفارتها للقدس وهندسة “الاتفاقيات الإبراهيمية”، ويرى الكاتب أن ترامب فعل الكثير لتسريع تآكل النفوذ الأميركي، حيث شارك مع أوباما ما يسميه سايمون “إحساسا متراجعا بفائدة وهدف وفعالية المشاركة الأميركية، وخاصة التدخل العسكري، في الشرق الأوسط”.
وبحلول الوقت الذي وصل فيه الرئيس الحالي جو بايدن إلى منصبه في عام 2021، تراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة، ولم تعد دول المنطقة ذاتها تهتم كثيرا بالولايات المتحدة، ليقول سايمون “إنها قصة سوء فهم جسيم وأخطاء مروعة وموت ودمار على نطاق تاريخي”.
ويبقى هذا الاستنتاج الذي خرج به سايمون غير كاف، حيث لا يجيب الكاتب عن السؤال الأكثر أهمية وإلحاحا، وهو كيف يمكن لواشنطن أن تتعلم من هذه الأخطاء الكارثية لصياغة نهج بنّاء في عصر يتضاءل فيه النفوذ الأميركي.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.