في خضم الحياة، وأسفل عجلات سرعتها، ننسى أنفسنا. معظمنا لديه حياة منهِكة ومزدحمة، بين العمل أو الدراسة -أو كليهما معا!- والأطفال والوجبات الاجتماعية ومتطلبات الحياة، ننسى أنفسنا وتأتي دوما رعايتها والاطمئنان عليها في ذيل القادمة. قد تشعر أنك تهتم بنفسك، لكنك تأكل وتشرب من باب الاستمرارية لا أكثر، من باب أنه لا خيار آخر لسد تلك الاحتياجات، ممارسة رعاية الذات ليست سهلة، تتطلب وعيا ووقتا، بل أحيانا تأتي مصحوبة بشعور بالذنب لأننا استقطعنا وقتا قد نفعل فيه شيئا “ذا أهمية حقيقية”.
لكن ما نغفل عنه كثيرا أن الراحة في حد ذاتها فعل وليست رفاهية، الراحة ليست وقتا فارغا علينا أن نملأه بنشاط آخر نرى أنه مربح أو منتج. رعاية الذات مفهوم مهمل وحساس في ثقافتنا المشجعة على الإنتاج، والتي تستنكر تقديم الفرد لاحتياجاته وأولوياته، بل يُنظر لها أحيانا بشكل سلبي، بوصفها أنانية أو رفضا للانخراط في الجماعة الكبرى التي تكرس مفهوم أن يستمد المرء قيمته وشأنه من تضحيته لمن حوله، سواء لعمله أو لأسرته. ورغم نُبل هذه الطريقة، لكنها قد تدفع الإنسان لنسيان الاعتناء بنفسه أو رعاية ذاته.
ما يجب أن تعرفه عن الرعاية الذاتية
إنها حلقة ستدور فيها، شئت أم أبيت، الضغوط لن تخفف من نفسها، بل على العكس ستتزايد في حال لم تتعامل معها بحكمة. لن تساعدك سلوكيات تخفيف التوتر إن كنت لا تعتني بنفسك عناية مدروسة ومنظمة، قد تُغيّر من نظرتك لها في حال حسبتها جزءا جوهريا في حياتك، له أهميته القصوى مثل عملك ودراستك وعائلتك، لأن بقية الأعمدة دونها قد تنهار. رعاية الذات عملية متعددة الأوجه والأبعاد، تتكون من الإستراتيجيات التي تعزز عيش حياة صحية على الأصعدة كافة، وليست حالة مؤقتة، وهي أساسية لتكوين مرونة وصلابة تجاه تقلبات الحياة بشكل عام، ليست رفاهية أبدا، ليست مخرجا سريعا تلجأ إليه حين يهاجمك الإرهاق والقلق.
عليك أخذ الراحة والاعتناء بذاتك على محمل الجد حتى تمنحك أقصى ما فيها، أن تفكر فيها باعتبارها أولوية، وقراءة هذا الدليل خطوة إيجابية. لا يتسامح العالم مع التوقف، دائما هناك شيء مؤجل، شيء مستعجل، شيء أفضل تقوم به، لكن لتجني فوائد الراحة عليك حمايتها وتخصيص وقت لها. انظر إلى جدولك، هل هو مليء بالاجتماعات أو مواعيد التسليم أو الامتحانات أو المسؤوليات المنزلية؟ إن كانت الإجابة “نعم”، فقد حان الوقت لتفكر جديا في: متى ستستريح؟ وأي شيء ستتخلص منه أو تؤجله لتعتني بذاتك؟
لماذا من المهم أن نمارس الرعاية الذاتية؟
لا تدور الرعاية الذاتية حول الراحة والاسترخاء فحسب، بل فكّر فيها مثل برنامج شامل يتناول جوانب حياتك نفسيا وجسمانيا وعاطفيا واجتماعيا وروحانيا أيضا. لتعتني بنفسك كما ينبغي، يجب أن تغذي كل هذه الفروع التي في النهاية ستنتج التوازن المطلوب، لكن أحيانا سيأخذ منك أحد الجوانب مجهودا ووقتا مضاعفا في حال كان أساسه ضعيفا من البداية، إن كنت تواجه مشكلات مع عائلتك أو في عملك مثلا، فسيأخذ تذليل تلك الصعاب مساحة إضافية قبل تحقيق النتيجة المرجوة، ألا وهي حياة مستقرة وعقل هادئ وجسد صحي.
يرتكز الاعتناء الكامل بالذات على 5 ركائز: جسماني، واجتماعي، ونفسي، وروحاني، وعاطفي.
- أولا: الجسماني
العقل السليم في الجسم السليم، نعم “كليشيه”، لكنه لم ينل منصبه من فراغ. عليك الاعتناء بجسدك عناية جادة لأنه معبدك الذي تحمله في كل خطوة، صديقك الذي إن أوليته الرعاية المطلوبة فلن يخذلك أبدا، بل سينعكس تحسّنه على جودة حياتك ونشاطك وشعورك بالخفة. تشمل الرعاية الجسمانية الطعام الذي تستهلكه وعدد ساعات نومك والتمارين، أيا كان نوعها، التي تمارسها، ومدى التزامك بأدويتك إن وُجدت أو المكملات الغذائية التي يحتاج إليها جسدك.
اسأل نفسك الأسئلة التالية لتحدد أي زاوية بالضبط تحتاج للتركيز عليها: هل تحصل على قسط كاف من النوم؟ هل تمارس ما يكفي من الأنشطة البدنية؟ هل نظامك الغذائي متوازن؟ هل تمارس عادات مضرة بصحتك كالتدخين مثلا؟ ستضعك إجابات هذه الأسئلة على أول الطريق.
- ثانيا: الاجتماعي
سواء أكنتَ شخصا اجتماعيا أم انطوائيا فحياتك الاجتماعية تسهم بشكل كبير في عنايتك بذاتك وتكوين روابط وثيقة وشبكة آمنة تلجأ إليها في أوقات سعادتك وحزنك، لكن مع التقدم في السن وتغيّر خارطة الأولويات يصعب تخصيص وقت للأصدقاء والعائلة ويسهل إهمال هذا الجزء مع انهماك كل واحد في مسابقة حياته. ليس ثمة طريق آخر للحفاظ على حياتك الاجتماعية سوى بتخصيص الوقت في جدولك لها، وإدراك أنها تحتاج لمجهود وطاقة لتقوية أواصرها، المفتاح هو معرفة مكاسبك من هذا الجانب الذي نغفل عنه عادة، وترتيب الأشخاص ذوي الأهمية في حياتك حتى لا تهدر طاقتك.
عقلك إسفنجة تمتص كل ما تمنحه لها، تتأثر صحتك النفسية بما تقرأ وما تسمع وما تتصفحه على وسائل التواصل الاجتماعي، تتغير طريقة تفكيرك حسب معطيات كثيرة، لذا يشمل الاعتناء بسلامك النفسي فعل أنشطة تحدّ من ذهنك وتثير اهتمامك وحماسك، أيضا تتضمن أفعالا تُحسّن من صوتك الداخلي، مثل تقبّل الذات والتعاطف معها، أيضا ممارسة الامتنان وضبط انفعالات النفس، وأخذ خطوات استباقية مثل التحدث مع مختص أو استشارة الآخرين محل الثقة فيما تمر به، كلها تقع أسفل العناية بالصحة النفسية.
- رابعا: الروحاني
تشير دراسة أجريت عام 2017 تحت إشراف عالم النفس البرازيلي، ماريو فرناندو برييتو بيريس، أن الفرد الذي يعيش حياة تشمل الدين، أو الروحانية بكل ما تتضمنه من معانٍ، يتمتع بحياة أكثر ثراء وصحة. تغذية الروح لا تنطوي على الممارسات الدينية فحسب، بل كل فكرة وسلوك يعمّق إحساسك بمعنى حياتك وفهمها واستشعار مكانتك في الكون والدور الذي تلعبه فيه، إنه بوصلتك التي تتحرك بها سواء من خلال أداء الشعائر الدينية أو التطوع أو حتى التأمل.
- خامسا: العاطفي
ما أهمية الاعتناء بالذات؟ كما ذكرنا فالاعتناء بالذات وملاحظة احتياجاتها ليست مرحلة نمر بها، بل أسلوب ننتهجه في أيامنا العادية، سواء أكانت هادئة أم مزدحمة. رعاية الذات ستسهم بشكل مباشر وفعّال في تقليل القلق والاكتئاب غير المزمنين، ورفع مستوى السعادة وخفض التوتر والضغط وزيادة حيوية الجسم وطاقته، أيضا ستقلل من إرهاقك وتقوّي علاقاتك الشخصية، رعاية الذات عدسة من خلالها سترتب أولوياتك.
أفادت منظمة الصحة العالمية أن العناية بالذات فائقة الأهمية في مقاومة الأمراض، لأنها تعزز الصحة العامة، وتساعد المرضى على التحلي بعقلية إيجابية للتعامل مع أمراضهم. أيضا ترتبط التمارين الرياضية وانتظام النوم وعدد ساعاته وإيجاد أهداف ومعانٍ صلبة للحياة بعيش عمر أطول وأثرى.
كيف أعتني بنفسي؟
ابدأ بخطوات صغيرة من خطة اليوم، إنها مساحتك لتستكشف فيها الناقص من حياتك وتجرب تحسينه على مستوى بسيط، وأيضا ستنال مردودا مباشرا. تختلف أساليب حياتنا بناء على وظائفنا ومتطلباتها وأنواع شخصياتنا (انطوائي أم اجتماعي؟) وتفضيلاتنا (هل أنت كائن نهاري أم ليلي؟)، رغم ذلك، ثمة خطوتان أساسيتان في رسم خطة ما قبل الراحة.
جدوِل عملك في فترات طويلة تتراوح بين ساعة ونصف إلى ساعتين، الفترات التي تعرف أن تركيزك ونشاطك يكون في أوجه، تليها فترات من الراحة من ثلث ساعة إلى نصفها. تواجه أغلبية الناس مشكلة في التركيز وقتا أطول، وحتى إن عملتَ وقتا أطول فلن تنال الإنتاجية المرجوة مع زيادة إرهاقك. جدوِل العمل نفسه في فترة الذروة لنشاطك وتركيزك، بمعنى إن كنت في أنشط حالاتك صباحا فضع العمل نفسه في تلك الفترة، وأجّل الاجتماعات أو الرد على الرسائل أو أعمال المنزل لفترة ما بعد الظهر.
بغض النظر عن تفاصيل خطتك، وضعها كل يوم سيريك متى يحين وقت راحتك بالضبط، فتتمكن من العمل -والاستراحة- بشكل أكثر فعالية. هذه خطة العمل، فما خطة الراحة؟ كلٌّ واحتياجاته. بعد إجابتك عن الأسئلة المذكورة في القسم السابق، ستلاحظ أوجه القصور في رعايتك لذاتك، جسمانية أم اجتماعية، وشيئا فشيئا، أضف خطوة لجدولك اليومي. إهمال في الجزء النفسي؟ سأتمشى تمشية لتصفية ذهني. في الجانب الاجتماعي؟ سأتصل بوالدَيَّ وأحدد موعدا لزيارتهما. ضع إستراتيجيات ومواعيد وخططا، عنايتك بذاتك هي وظيفتك الثانية، لكنها الأهم.
- ثانيا: تتبع ما يضغطك ذهنيا
ستدور في حلقة مفرغة إن لم تحل الأمور إلى أصلها. بعض إستراتيجيات العناية بالذات ستعمل عمل المسكنات المؤقتة في حياتك إن لم تفكك المشكلات الأساسية أو محفزات قلقك. قد تطبق كل خطوات الراحة، لكنك تواجه عقبة في عملك أو دراستك -مثلا- تفسد عليك كل شيء، قد تكون في الأساس تواجه مشكلة مالية، لذا لا تتوقع من نفسك المقدرة على تجاهل تلك الصعاب لأنها هي العائق بينك وبين الراحة الفعلية، التوقعات الواقعية جزء من الاعتناء بنفسك.
حاول تتبع حتى المنغصات الصغيرة التي قد لا تلاحظ أثرها لكنها تعكر صفو مزاجك، مثل شاحن هاتفك الذي يتوقف عن العمل من حين لآخر، أو حذائك غير المريح، أو سماعاتك منخفضة الصوت، أو ستائر غرفتك الشفافة التي تنفذ الشمس منها صباحا وتُوقظك، أو الباب الذي يُصدر صريرا مزعجا، راقب محيطك الصغير وحسّنه قدر المستطاع.
- ثالثا: خصص وقتا مقدسا لنفسك
أيا كان المسمى الذي يحدد أغلب جوانب حياتك، ربة منزل أو أم أو أب أو طالب، فعليك استقطاع وقت لنفسك تقرر وحدك ما تفعله فيه بعيدا عن أي مسؤوليات أخرى. ربما تقرر تعلم لغة جديدة، أو ممارسة هواية أهملتها، أو أن تجلس هكذا في سكون. في هذا الوقت تتحرر من كل شيء إلزامي، تصنع هوية جديدة لنفسك أو تحيي هوية قديمة. الإنسان كائن اجتماعي بفطرته، ويشمل الاعتناء بذات الآخرين في بعض الأحيان، لكن قضاء وقت حر مع نفسك سيساعدك على استكشاف ذاتك من جديد. لا ينبغي أن يكون وقتا طويلا، حتى لو ساعة أو ساعتين في الأسبوع، لكن الأهم أن تكون فترة حرة ومثمرة حسب تعريفك أنت.
- رابعا: النوم أولوية الأولويات
يؤثر النوم على كل شيء؛ مزاجك، طعامك، عملك، صحتك. رعاية الذات تبدأ من هناك. قد يظن البعض أن النوم حين يتمكن الإرهاق من جسدك هو “الراحة” التي يحتاج إليها، لكننا لا نتحدث عن النوم باعتباره فعلا فسيولوجيا سيؤديه ذهنك مهما حاولت مقاومته، بل عن عدد ساعته، الاستعداد له، مكانه، جودة النوم نفسها.
كيف تجعل من النوم خطوة في برنامج العناية بذاتك؟ ضع روتينا ليليا بسيطا، مثل أن توقف استهلاك الطعام والسكر والكافيين والنيكوتين قبل النوم بـ3 ساعات، أن تُخرج كل الأجهزة الإلكترونية من غرفة نومك، أن تقرأ قبل النوم 5 صفحات من كتاب خفيف، أن تشرب مشروبا دافئا أو تأخذ حماما باردا. اصنع الطقوس الأنسب لك أيا كانت، لكن الأهم أن تصبّ في مصلحة نومك.
- خامسا: ارسم حدودا واضحة مع من حولك
مَن يعمل في وظيفة تحتوي على قدر عالٍ من التوتر لكن لديه خط فاصل واضح بين حياته الشخصية وعمله، ويستريح في عطلة نهاية الأسبوع دون أن يعتبرها متسعا من الوقت لإنجاز مهمة أخرى، ويأخذ إجازة سنوية منتظمة؛ أقل عرضة للإرهاق والاحتراق النفسي من شخص لا يشغل وظيفة موتّرة لأعصابه، لكنه لا يفصل بين هذا وذاك.
من الصعب تطبيق هذا الفصل نظرا لأننا بتنا نحمل مكاتبنا في جيوبنا، لكن تجنّب أن تعمل وترتاح في الوقت نفسه، لأن النتيجة ستكون عملا سيئا أديته بذهن مشتت وإجازة غير سعيدة. الحدود الواضحة بين العالمين ستحسن من جودة كليهما، وأيضا ستعلّمك مهارة رفض أعمال فوق طاقتك خلال العطلة، لأنك بالفعل ستنهمك في أمرٍ آخر؛ أن تستريح. قلل التحقق من هاتفك وبريدك الإلكتروني مساءً، وقاوم المشتتات خلال أوقات العمل، أيضا لزيادة فرص التزامك بالخطط، جَدوِل مواعيد الراحة مسبقا مع أصدقائك أو عائلتك.
- سادسا: مارِس الامتنان
للوهلة الأولى قد تبدو فكرة مستوردة من العالم الأول، لكن على العكس، الحمد وتعداد النعم متأصل في جميع الأديان. الامتنان هو أن تلاحظ الخير في كل حال، أن تلاحظ العادي المتكرر وتدرك أنه ليس بعادي. كيف يساعدك الامتنان على الاعتناء بذاتك؟ بأن يصنع رابطة عميقة بينك وبين عالمك، لا يمنحك معنى لحياتك بل يساعدك على أن تراه، سيُزيح عنك شعورك بالظلم حين تمر بتجربة ثقيلة لأنه دائما ثمة شيء جميل في الصورة الكبيرة. اكتب في ملاحظات هاتفك أو على حسابك الشخصي في حال أردت المشاركة مع أصدقائك يوميا أو أسبوعيا ما أنت ممتن له، أو حتى كرره لنفسك قبل النوم. حاول تكرار هذه العادة لأكثر من 6 أسابيع وسترى الفارق في نظرتك للأمور وصورتك عن نفسك.
أدوات ستساعدك
كتاب: في مديح البطء: حراك عالمي يتحدى عبادة السرعة
يُعلّمك هذا الكتاب طرقا لإعادة تنظيم حياتك انطلاقا من عقارب الساعة وعلاقتك بها، حين تتغير نظرتك إلى الوقت، وما تعنيه الدقيقة ومن أين أتى مفهومها؛ تتعلم الإبطاء في كل شيء، وعيش لحظة بلحظة حتى إن كانت اللحظة هي صعود السلم أو تناول طعامك.
________________________________________
المصادر
- 5 Self-Care Practices for Every Area of Your Life, Elizabeth Scott, PhD, Verywell Mind, 2023.
- Self-Care: 12 Ways to Take Better Care of Yourself, Tchiki Davis, Ph.D., Psychology Today, 2018.
- How to rest well? Alex Soojung-Kim Pangis, Psyche, 2021.
- Self-Care and Gratitude: How They Go Hand in Hand, Najma Khorrami, Psychology Today, 2020.
- How Spirituality Can Benefit Your Health and Well-Being? Elizabeth Scott, Verywell Mind, 2022
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.