يعود الدكتور محمد داود العلي في كتابه الجديد “مخيم تل الزعتر.. وقائع المجزرة المنسية” الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2022، لفتح ملف متروك من أعقد الملفات التي شهدتها الحرب الأهلية اللبنانية في علاقتها بالقضية الفلسطينية وبالوجود الفلسطيني في لبنان والواقع العربي والإقليمي في تلك الفترة.
ويعرض المؤلف لما سماها المعركة السياسية والعسكرية المركبة والتي أفضت إلى محاصرة مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين شرقي بيروت لأشهر، قبل أن يسقط في 12 أغسطس/آب 1976 بعد 52 يوما من الحصار الوحشي الذي نفذته المليشيات المسيحية اللبنانية التابعة للأحزاب المارونية وحلفاؤها مع الرئيس سليمان فرنجية وبدعم من سوريا، ضد الفصائل الفلسطينية وحلفائها في قوى اليسار اللبناني والمدنيين الفلسطينيين واللبنانيين.
وخلال ما درج على تسميته الحرب الأهلية اللبنانية، تم تدمير 3 مخيمات لبنانية بشكل كامل، بعد مخيم النبطية الواقع جنوب لبنان والذي دمرته الطائرات الإسرائيلية في مايو/أيار 1974 وتشتت سكانه بين بقية المخيمات، ومخيم جسر الباشا بالقرب من مخيم تل الزعتر في 30 يونيو/حزيران 1976 إثر مجزرة مروعة، ثم مخيم تل الزعتر نفسه موضوع الكتاب.
تتالت المجازر التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني، منذ النكبة مرورا بمجزرة تل الزعتر نفسها، والتي “ربما تكون أولى المجازر التي ارتكبها عرب ضد فلسطينيين ونموذجا مسبقا لما سيجري عام 1982 في صبرا وشاتيلا”، كما يقول الكاتب البريطاني باتريك سيل (ص 20). وتشترك جميعها في كونها بقيت منسية، أو بالأحرى أريد لها أن تنسى، على المستوى الإجرائي والقانوني، وعلى مستوى المساءلة وتحديد المجرم، المعلوم- المجهول، وخصوصا إفلاته من العقاب، رغم أن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم.
ويشير المؤلف إلى أن تعتيما شديدا -على المستوى اللبناني والفلسطيني الرسمي والعربي والدولي- لف المجزرة البشعة ووقائعها، وغطى حقيقة الجاني الذي كان الجميع يعرفه، سواء بالتواطؤ أو لعبة المصالح أو الأهداف السياسية التكتيكية، ولم يكن هناك أي اتجاه لتحقيق جاد أو ضغط لكشف الحقيقة أو إشارة إلى المجرم أو مساءلته ومحاسبته. لم تحرك الأمم المتحدة آنذاك ساكنا، ولا أي من المنظمات الدولية، وخضعت بقية المواقف لمنطق المكاسب.
الذاكرة المعتمة
يورد المؤلف مقولة شديدة الأهمية على لسان الدكتور حسين أبو النمل، وربما يؤكد مضمونُها أوجهَ أهمية الكتاب حين قال “إن رمزية مأساة فلسطينيي لبنان لا تتجسد أولا في مجزرة صبرا وشاتيلا رغم كل بشاعتها، وحجم ضحاياها، والاحتفالية السنوية التي تتم بمناسبتها، ولو تخطينا التقية الفلسطينية، لانكشفت حقيقة أن “الرمزية” هي باللسان الفلسطيني السياسي المناور مجزرة صبرا وشاتيلا، لكنها بالوجدان الفلسطيني مجزرة تل الزعتر”.
وبلا شك أدى التعتيم على تلك المجزرة وغياب المحاسبة والعقاب إلى ارتكاب الجاني نفسه مجزرة أخرى أكثر بشاعة، وهي مجزرة صبرا وشاتيلا، حين دخلت قوات حزب الكتائب وجيش لبنان الجنوبي العميل لإسرائيل (بقيادة الرائد سعد حداد ولاحقا أنطوان لحد) في 16 سبتمبر/أيلول 1982 المخيم المحاصر من الجيش الإسرائيلي وقتلت بشكل وحشي ولمدة 3 أيام أكثر من 3 آلاف مدني فلسطيني ولبناني أيضا معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ.
كانت سردية اليمين الانعزالي المسيحي وخصوصا حزب الكتائب أن الصراع في لبنان يدور بالأساس حول الوجود الفلسطيني المسلح أو المقاومة الفلسطينية ودورها -وهو يرفض منذ البداية الوجود الفلسطيني برمته-، وأن الحرب الأهلية اللبنانية كانت نتيجة لهذا الوجود الفلسطيني وسلاحه، وتبعا لذلك تعد المخيمات، وبينها تل الزعتر، معسكرات لا مخيمات للاجئين.
في حين أن تلك الحرب الأهلية كانت لها جذور وأبعاد أخرى كثيرة بنيوية تعتمل تحت السطح، تمثلت في طبيعة نظام الحكم ذاته والتقسيم الطائفي والسياسي والاصطفافات الإقليمية والدولية، وتؤكد ذلك الصراعات (والتصفيات والمجازر أحيانا مثل مجزرة مزيارة عام 1957 ومجزرة إهدن سنة 1978) التي دارت بين الأطراف المارونية نفسها، قبل الحرب وأثناءها وبعدها، وكذلك العلاقات المتأرجحة مع سوريا بين التحالف والعداوة الشديدة.
وفي سياق الذاكرة، تكمن أهمية كتاب الدكتور محمد العلي في كونه أشبه بالوصفة ضد النسيان، يجمع فيها ما بين التأريخ للأحداث والتوثيق الدقيق مع مقاربة تحليلية للوقائع والحيثيات التي أدت في 12 أغسطس/آب 1976 وفي ذروة ما يعرف بحرب السنتين (بداية أبريل/نيسان 1975 إلى أواخر سبتمبر/أيلول 1976) إلى مجزرة تل الزعتر إبان فترة الحرب الأهلية اللبنانية.
ملابسات اقتلاع المخيم
تأتي دوافع الكتاب كون “أي رواية متكاملة عن الحرب عموما أو عن حصار تل الزعتر، لم تجد طريقها إلى النشر أو مناهج التعليم، ويهدف هذا البحث إلى عرض ملابسات اقتلاع مخيم تل الزعتر، بوصفه معركة عسكرية وسياسية مركبة وقعت خلال حرب السنتين”، وكانت تلك أقسى مراحل الحرب الأهلية، وعرفت تصدع مؤسّسات الدولة، وانقسام الجيش اللبناني، وهروب رئيس الجمهورية سليمان فرنجية. (ص 25) .
ولا يزعم الكاتب أنه بصدد رواية متكاملة للأحداث، بل تقديم بحث موضوعي لمحاولة لفك طلاسم المجزرة وحيثياتها وسد فراغات الروايات المنقوصة والمتشنجة والمغلوطة، وهو يتجاوز ذلك إلى تقديم وثيقة مهمة عن الحرب الأهلية اللبنانية بتداخلاتها اللبنانية والفلسطينية والإقليمية والدولية، ويتضمن المتن الكثير من التفاصيل السياسية والاجتماعية والتاريخية لمجمل تلك الفترة. وهو كتاب مرجعي عن تلك الأحداث الموجعة بتداعياتها التي ما زالت آثارها جاثمة على لبنان وفلسطين وربما المنطقة.
ويحفل الكتاب بتفاصيل دقيقة ومعلومات في غاية الأهمية عن تلك الحقبة والظروف الموضوعية، التي أفرزت بالضرورة مجزرة تل الزعتر. وكانت ثمرة لجهد بحثي دؤوب استمر 6 سنوات وتوثيق صارم ومنهجي للأحداث، وشهادات قيّمة، بعضها ينشر لأول مرة، لمن عايشوا تلك الأحداث ومن شاهدوها ومن نجوا منها، ما جعله وثيقة مهمة للدارسين وللباحثين حول تلك الفترة.
ولم يكن الدكتور العلي بعيدا عن تلك الأحداث بما فيها مجزرة تل الزعتر، فقد عايش بنفسه جزءا منها كفتى فلسطيني لاجئ في لبنان، حين كانت الأنباء تأتيهم متضاربة عن المجزرة أيامها، وحمل شابا الكثير من آلامها التي وشمت ذاكرة كل فلسطيني، وتحولت لاحقا إلى هم بحثي وأكاديمي وصحفي في كتاباته.
بحث وتوثيق
لا شك أن خلفية الدكتور محمد العلي الصحفية، وخبرته الطويلة في المجال البحثي والإعلامي والأكاديمي ساعدتاه في اتباع منهجية ملائمة في كتابه، ويبدو الطابع الاستقصائي واضحا ويرتكز على التوثيق الدقيق للمعلومة وأقوال الشهود والمقارنة والاستنتاج للوصول إلى أقرب ما يمكن إلى الرواية الصحيحة.
وفي إطار الجهد التوثيقي، يورد المؤلف في الصفحات الأولى من الكتاب مجمل ما كتب عن المجزرة وحتى الأعمال الفنية والموسيقية والأدبية التي عرضت لها، وهي معطيات ومعلومات لا شك مهمة للقارئ الذي لم يعاصر تلك الحقبة، وغاب عنه ما دوّن عن تل الزعتر، سواء كرد انفعالي مباشر (غناء وموسيقى وشعر ورواية)، أو لاحقا بالبحث والتوثيق المتأني.
ويذكرنا أو يعرفنا المؤلف في هذا السياق بأعمال رسّخت في الوجدان الفلسطيني آنذاك كمرثية “أحمد الزعتر” للشاعر محمود درويش، والتي نشرها يوم سقوط المخيم، وغناها الفنان اللبناني خالد الهبر لتصبح أيقونة اشتهرت خلال الحرب، ثم لاحقا الفنان مارسيل خليفة، وقصيدة “تل الزعتر” الغاضبة للشاعر مظفر النواب، وغيرها من الأعمال الأدبية والفنية التي كان اليسار العربي والفلسطيني يجترحها وطبعت ذاكرة جيل كامل، وشمتها أيضا أهوال الحرب.
ولعل كل ذلك يؤكد أهمية الكتاب وموضوعه، فهو بلا شك يعيد وصل خيوط تلك الذاكرة للأجيال الجديدة من الفلسطينيين والعرب، وغيرهم من الذين لا يعرفون حقيقة ما جرى في تل الزعتر بالذات، إضافة إلى حيثيات محاولات اقتلاع الوجود الفلسطيني في لبنان (كهدف لإسرائيل واليمين اللبناني) وتصاريف الحرب الأهلية شديدة التعقيد.
ومن الواضح أن هذا الإلمام الواسع بالمصادر والمراجع العديدة التي تعرضت للموضوع وتفكيك مضامينها وإخضاعها للمقارنة والقياس، والتحري، بالإضافة إلى المقابلات والشهادات الكثيرة التي اعتمد عليها الكتاب (52 مقابلة) ضمت عسكريين وقيادات سياسية فلسطينية ولبنانية وسياسيين من الطرفين ومدنيين كانوا داخل المخيم وناجين من المجزرة، ساعدت على تقديم نظرة شاملة ودقيقة لما حصل، أي تفصيل “وقائع المجزرة المنسية”.
ومع ذلك يقر الكاتب أن البحث افتقر إلى وجود شهادات من الضباط السوريين الذين عملوا في لبنان في تلك الفترة، وقد رفض بعضهم الإدلاء بأي شهادة، في حين لم يصدر أي مؤلَّف يعتد به حول الموضوع من أي مسؤول أو ضابط سوري خصوصا بعد ثورة مارس/آذار 2011 وما تلاها.
الخلفيات والحقائق
ويشير هذا العدد الكبير من الشهود -كثير منهم أدركوا المجزرة ونجوا منها- إلى حرص الكاتب على تدقيق المعطيات والمعلومات واستخلاص ما يتقاطع منها مع الحقيقة. فالشهادات، خصوصا في قضية معاصرة، هي مجرد ذاكرة قد تكون مشوبة بالانفعال، أو الانحياز، وهي قد تكون معرضة للنسيان، أو واقعة تحت سطوة السرديات والسرديات المضادة التي تشوشها، فحتى قادة حزب الكتائب ومسؤولوه أنتجوا سرديتاهم الخاصة، ودافعوا عما لا يمكن الدفاع عنه.
ومع الصفحات الكثيرة للكتاب (444 صفحة) وأسلوب السرد السلس، شكلت الهوامش والحواشي والجداول والإحالات الجانبية الكثيرة التي توثق التواريخ والأماكن والشخصيات والأحداث الفرعية، والملاحق المطعمة بصور للمفقودين والخرائط ونصوص المقابلات، إضافة نوعية للقارئ لمزيد فهم واستيعاب الظروف الموضوعية لمجزرة تل الزعتر.
وبالاستناد إلى كل ذلك يعرض المؤلف طبيعة وجود اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ومخيماته، ووضعهم الاقتصادي والاجتماعي والقانوني، وكيفية تشكل النضال الفلسطيني في لبنان والتحالف مع الحركة الوطنية اللبنانية واليسار اللبناني وزعماء تلك الحقبة، والدور السوري في لبنان والتحالفات المتحولة والمتضاربة أحيانا.
وفي الكتاب يتعرف القارئ على الخلفية السياسية-التاريخية لإنشاء مخيم تل الزعتر في لبنان عام 1949، كواحد من 15 مخيما في لبنان، والجغرافية، ولاحقا خلفيات وتفاصيل معركة تل الزعتر السياسية والميدانية لتفاصيل مدعومة بالشهادات ويعرض الوضع الإنساني داخل المخيم، وقضية المفقودين (مدعمة بالأسماء والصور) وكذلك ملابسات إسكان أهالي تل الزعتر في بلدة الدامور المهجّرة.
ويشير المؤلف أيضا إلى أن إسقاط مخيم تل الزعتر كان أحد عناوين صراع الإرادات بين الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد من جهة، والزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (ص 25) -وقد اتخذ هذا الصراع والنفور أبعادا متعددة لاحقا- وحليفه في الحركة الوطنية اللبنانية الزعيم الدرزي الراحل كمال جنبلاط، الذي اغتيل في 16 مارس/آذار 1977، حيث تتهم دمشق باغتياله، بدون أن يصدر اتهام مباشر أو تحديد واضح للجناة.
الدور السوري
ويؤكد المؤلف -بناء على الشهادات والمصادر- أن النظام السوري انحاز إلى جانب المليشيات المسيحية التي حاصرت المخيم واقترفت الجريمة وقدم لها الدعم، كما يؤكد أنها قصفت مخيمي “عين الحلوة” و”المية مية” شرقي صيدا في يونيو/ حزيران 1976، لكنه يتحفظ إزاء تأكيد المشاركة المباشرة في العمليات العسكرية داخل المخيّم، ويرى أنها “غير قابلة للتصديق”. ويمكن أن نقرأ في الكتاب عن دور الرئيس اللبناني السابق ميشال عون (2016-2022) الذي خطط للعملية العسكرية حين كان ضابطا برتبة مقدم، وأصبح لاحقا قائدا للجيش ومعاديا لسوريا ثم خروجه إلى فرنسا وعودته لاحقا حليفا لسوريا.
ونقرأ شهادة الضابط (م. ن) الذي أرسله أبو جهاد (خليل الوزير) لدعم صمود المخيم (ص 389-397)؛ ما يدل على الكثير من الارتباك في الدفاع عن المخيم والانسحابات بين صفوف المقاتلين الفلسطينيين.
وينقل الضابط عن أبو جهاد قوله له ولغازي الحسيني (ص 389) “كل ما سمعتموه هو عبارة عن رفع معنويات، وضباط جيش التحرير هم جيش نظامي ولا يركن إليهم والأمور تزداد تعقيدا، ونحن نعرف أن حقيقة تل الزعتر الوشيكة هي السقوط، لكننا في الجبل سنعمل على استمرار المعركة لتحقيق المزيد من الوقت لرفع المعنويات، وتقديم نموذج لمعنى الصمود لتخدمنا في السياسة، وهذا رأي وطلب أبو عمار”. أي أن القتال هو عملية تحريك للسياسة.
ويتقاطع هذا الموقف مع ما ذكره الصحفي البريطاني روبرت فيسك في كتابه “ويلات وطن.. صراعات الشرق الأوسط وحرب لبنان” (الطبعة 17 ص 118) حول الحرب الأهلية اللبنانية، حين ذكر نقلا عن ناجين أن الراحل ياسر عرفات أمر سكان المخيم بعدم الاستسلام رغم إدراكه أنه سيسقط، “لأنه كان يريد المزيد من الشهداء لكي يجتذب انتباه العالم، فقدمت له كتائب بشير الجميل ونمور داني شمعون الآلاف منهم وغالبيتهم من المدنيين”.
وفي الكتاب تأتي شهادة بلال الحسن (الرائد بلال حسن دياب شحرور وهو مسؤول فرع تل الزعتر في تنظيم الصاعقة) مثيرة للجدل عن وقائع المجزرة وكيفية تعامل الفصائل الفلسطينية معها عسكريا وسياسيا وتكشف معطيات، قد لا تكون معلومة ومثيرة للشكوك كون الرجل كان من قوات الصاعقة الموالية لسوريا، لكنها تضيء بشكل ما على خلفيات الأحداث وواقع الفصائل المنضوية تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية وطريقة تعاملها مع تلك الأحداث المفصلية وغيرها خلال الحرب.
وفي غياب أي تحقيق رسمي من المنظمات الأممية أو الدولية حول مجزرة تل الزعتر، وفي ظل محاولة التعتيم وتناثر السرديات والشهادات، يضيء كتاب “تل الزعتر.. وقائع المجزرة المنسية” بشكل منهجي على حيثيات ما حصل، ويقدم وثيقة بحثية لا شك أنها مهمة في الاقتراب من الحقيقة.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.