كتاب “صحوة المحكومين”.. رحلة المصريين من رعايا إلى مواطنين | ثقافة


القاهرة- ليصبح المصري مواطنا في بلده، متخلصا من إرث “السيد والرعية”، مر تاريخيا بمنعطفات حاسمة غيرت نظرته للعالم بكل مشتملاته المعنوية والمادية، اختلفت الحقب وظروفها لكن ظل المصري يدفع تضحيات من أجل كيانه بصفته مواطنا.

إشكالية خلخلة وإعادة تموضع العلاقة بين المصري وحاكمه تولدت مع نهايات القرن الـ18، في ظل مجريات الانتقال من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث، تلك الرحلة الممتدة لنحو 200 عام طُرحت ونوقشت في الكتاب الصادر مؤخرًا “صحوة المحكومين في مصر الحديثة.. من رعايا إلى مواطنين 1798-2011”.

يحمل الكتاب -الصادر في نسخته الأولى باللغة الفرنسية- اسم المؤلف “محمود حسين”، غير أنه اسم مستعار اختاره الكاتبان المصريان بهجت النادي وعادل رفعت، ليسجلا من خلاله أثرهما الفكري، منذ ستينيات القرن الماضي.

وعبر 6 أجزاء -تتضمن 23 فصلا/ بابا يتألف منها الكتاب- يعيش القارئ رحلة عمرها قرنان من الزمان ممتلئة بالثورة والخمول وأحيانا الركود واللامبالاة.

السيادة والطاعة

يطرح الجزء الأول من الكتاب، الذي يحمل عنوان “السيادة الإلهية والطاعة البشرية”، نظرة شاملة على طبيعة المجتمع المصري تحت مظلة العثمانيين، ثم عصر عائلة محمد علي، حيث تمثلت طبقة الحكام في والٍ (تركي أو ألباني الأصل) يعاونه طاقم إداري ومجموعات مسلحة من أصول أجنبية، بينما المصريون هم المحكومون، وكانوا ممنوعين من حمل السلاح.

في ذلك التوقيت، حسب رصد مؤلفي الكتاب، كان المصريون يمثلون رعايا السلطان ويخاطبون الحكام بلفظ الأسياد. ويقول الكتاب “كان بين الحكام والمحكومين حد فاصل صارم عرقيًا، وسياسيًا، وعسكريًا، لا يشتركون إلا في سمة واحدة هي الإسلام”.

ولم يستمد نظام السيد والرعية استمراريته فقط من انعدام التماثل أو حتى التقارب في القوة بين الجانبين، بل رجع إلى حد كبير لكون انعدام التماثل كان مقبولا من ضحاياه بوصفه نظاما شرعيا؛ “فهم يدينون بطاعة مطلقة للإرادة الإلهية من خلال تسليمهم بسلطة السلطان الذي يحكم بأمر الله”.

حينئذ، عاش السادة والرعايا في عالمين متباعدين، لكل منهما أسلوب حياته وقوالب سلطته وآليات انضباطه، فكان السادة يحكمون ويحاربون ويحافظون على الأمن ويحصلون الضرائب، بينما يعمل وينتج الرعايا ويقدمون الخدمات.

غير أن ذلك التماهي المصري مع الطبيعة الحاكمة لم يمنع أحيانا الانتفاضات الشعبية، بسبب ارتفاع الضرائب وتدهور الأمور المعيشية التي تنتهي بالمجاعات وانتشار الأوبئة وموت مئات الآلاف، ولكنها انتفاضات في إطار التحرك لإعادة الأمور إلى نصابها أي “السيد الذي يحكم الرعية”.

الحملة الفرنسية

قد يبدو المؤلفان اللذان كتبا أفكارهما بالفرنسية متحيزين في رؤيتهما لتأثير نزول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798 على علاقة المصريين بحاكمهم، إذ يعتبران دخول الفرنسيين البلاد بداية الخروج من مرحلة السيد والرعية، فعلى إثر مخالطة الأوربيين تفتّح أمام المصريين نموذج آخر للعلاقة بين الحاكم والمحكومين.

بالتوازي مع ذلك وعلى وقع احتدام المعارك ضد المحتل الفرنسي، اضطر الحكام لأول مرة لإشراك المصريين في خطط معاركهم والسماح لهم بحمل السلاح، متجاوزين بذلك النظام الذي كان يمنع الرعايا من ذلك.

ويبرز الكتاب دور أهالي القاهرة والإسكندرية والدلتا والصعيد في مجابهة الاحتلال الفرنسي، الأمر الذي سينتهي بخروج الفرنسيين من مصر عام 1801 إلى غير رجعة، لكن ذلك الخروج سيحدث تطورا في علاقة الحاكم بالمحكومين، إذ فقد الحكام أهم المسوغات السياسية لحكمهم، ألا وهو قدسية السلطة المنطلقة من الإرادة الإلهية.

ثورة ضد الأسياد

في الباب السادس، يدلل المؤلفان على أثر الحملة الفرنسية على الشخصية المصرية بواقع ملموس، فالرعايا بفعل عوامل عدة، أبرزها زيادة الضرائب، سينتفضون ليس ضد المحتل هذه المرة، ولكن ضد الوالي “الأسياد” عام 1805، ليس ذلك فحسب، بل سيُطاح بالحاكم، فقد “اندلعت الثورة على وقع ثقة اكتسبها المصريون في أنفسهم في لحظة مد ثوري استثنائي ومؤقت”.

في أعقاب انتفاضة المصريين والشقاق بين الحكام الجدد آنذاك والمماليك الذين كانوا يحكمون بالوكالة، وجد محمد علي -وهو رجل عسكري قادم من ألبانيا- موطئ قدم على طريق الوصول لحكم مصر، وهو ما سيتم له عام 1805.

ثقة المصريين المكتسبة والثائرة على المتوارث سيخمدها تماما محمد علي بنفي وذبح المعارضين تارة وأخرى باستمالتهم، ليقدم مشروعه المتمحور حول إقامة دولة مركزية تستهدف الحداثة من خلال مسار يغلّب سيادة الدولة على استقلالية المجتمع، أي ظل المصريون داخل دائرة الرعية ليطووا بذلك صفحة التمرد إبان الحملة الفرنسية لعقود قادمة.

تحديث الدولة

يمنح كتاب صحوة المحكومين جزءا معتبرا من صفحاته لسنوات حكم محمد علي، مركزا على مشروعه النهضوي على المستوى الاقتصادي والعسكري، وتبعاته على علاقته بالرعية وما سيفعله ورثة الحاكم الألباني من متابعة مشروع جدهم وإخفاقهم في استكمال المسيرة لتنتهي بالاحتلال الإنجليزي عام 1882.

وبالتوازي مع سنوات النهضة التي انتهت بالاحتلال، يشير المؤلفان إلى تشكيل صفوة مدنية وعسكرية تلقت تعليما دينيا وعلمانيا، وشغلت وظائف حكومية وحرة، إلا أن عناصرها ظلوا رعايا الوالي يعاملون بصفتهم ملكيته الشخصية.

لكن ذلك لم يدم طويلا، فتلك الصفوة احتاجت إلى الخروج من الشرنقة الجماعية التقليدية بالتزامن مع رواج الصحافة بوصفها مرآة للرأي العام، وسوف يضطر الحاكم نفسه تدريجيا إلى الاختيار بين التوافق مع الوجدان الوطني وفقدان زمام الأمور السياسية، فاختار التوافق وسمح بوجود مجلس للشورى له الحق في مراقبة ميزانية الدولة.

الاحتلال والثورة مرة أخرى

تمركزت السلطة السياسية، منذ عام 1882 حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، حول قطبين، أولهما هو المتحكم ويمثله القنصل العام البريطاني يحيط به مستشاروه وكبار الموظفين البريطانيين، والقطب التابع يتمثل في الخديوي ومجلس الوزراء ومجلس الشورى.

أما ما يخص علاقة الحاكم بالرعية فقد تأكد خلال تلك الحقبة في المحيط الفكري تياران أساسيان، تيار واصل الالتزام بالخطاب الديني المسلم بالإرادة الإلهية التي جاءت بالحاكم، وآخر تبنى خطابا ليبراليا يعول على بناء دولة علمانية.

وعلى مدار سنوات، جاهدت الحركة الوطنية عبر الصحف والتحركات السلمية لمجابهة الاحتلال، غير أن تزايد ممارسات الاحتلال القمعية بفعل اندلاع الحرب العالمية الأولى أدى بالمصريين في النهاية إلى الثورة عام 1919.

ويقول الكتاب “لم يعد المحكومون عندئذ يسيرون في الشوارع ككميات مهملة، غرباء عن بعضهم البعض مستسلمين للحاكم، أحسوا فجأة أنهم انتقلوا إلى كوكب آخر واندمجوا في كتلة واسعة يتعرفون فيها على بعضهم البعض في تواطؤ تلقائي”.

استمر الاحتجاج -الذي بدأ عام 1919- لسنوات حتى أعلنت بريطانيا إلغاء الحماية على مصر عام 1923، وصدر دستور جديد للبلاد.

ومع السنوات التالية، شهدت مصر تغيرات مجتمعية بفعل مساع داخلية وتغيرات دولية، وفق ما أورده المؤلفان، فأخذ المجتمع المدني يتشكل عبر الأحزاب والنقابات والاتحادات العمالية والجماعات الطلابية والمهنية.

تلك الهيئات المدنية الوسيطة وجد فيها المحكومون جهاز تنفس وأدوات ذاتية للتعبير عن أنفسهم في مواجهة الحكام، فكانت العتبة التي بدأ منها يتكون وعي حديث بالمواطنة.

و”أخد الفرد الناشئ يدرك طبيعة الهوة التي تفصل بينه وبين الحكام، ويعي أن تلك الهوة لا ترجع إلى أسباب سامية مقدسة، بل إلى أسباب زمنية دنيوية قابلة للتطوير يمكن للمحكومين أن يلعبوا دورا في تغييرها”.

المكتسبات تتقهقر

ما حققه المجتمع المدني المصري بين الحربين العالميتين، أي منذ أوائل القرن العشرين وحتى منتصفه، انقضّت عليه حركة الضباط الأحرار بعد نجاحها في إزاحة الملك والاستيلاء على الحكم عام 1952.

يسرد الكتاب تفاصيل هيمنة مجموعة من ضباط الجيش على مقاليد الحكم، ومن ثم احتكار كافة المبادرات السياسية والاقتصادية مع قمع المبادرات الشعبية، بحيث وضع الكيان الاجتماعي المصري برمته تحت وصاية سلطة الدولة.

وبديلا للمجتمع المدني القديم، أقيم هيكل تنظيمي جديد هو هيئة التحرير التي تحولت إلى الاتحاد القومي، الذي تحول بعد ذلك إلى الاتحاد الاشتراكي، والذي بدوره وضع الحياة السياسية والنقابية والاجتماعية كافة تحت إمرة أجهزة الأمن.

أما التقهقر الأكثر إيلاما وصدمة، فتمثل في هزيمة الخامس من يونيو/حزيران 1967 أمام إسرائيل لتحتل أراضي سيناء.

من ناحية أخرى، حققت حركة الضباط الأحرار -بزعامة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر- بعض آمال الطبقات الشعبية في تحسين ظروف معيشتها، فضلا عن تحويل البلاد إلى كيان له ثقله في محيطه الإقليمي، بل وفي الحياة الدولية.

ومع سبعينيات القرن الماضي، انتهجت السلطة العسكرية سياسة الانفتاح، ليس الاقتصادي فحسب، بل والانفتاح السياسي والديني أيضا، بعد سنوات من الهزيمة ثم الانتصار عام 1973.

واتسعت الفجوة بين أقلية المنتفعين من سياسة الانفتاح وغالبية المنبطحين، ليشعر المصريون بانحسار الحماية التي منحتها الدولة لهم في ما قبل، وزادت الهوة بعد إعلان التطبيع مع إسرائيل، فأشاح المحكومون وجوهم عن خطاب حاكمهم وأخذت شرعيته تتراجع.

نهاية عهد الحاكم المقدس

يتناول الجزء الأخير من الكتاب مرحلة تكوّن “الضمير المواطني” وأفول عهد الحكم المطلق المقدس، الذي جسد الصور الثلاث للشرعية المقدسة “الحاكم بأمر الله، الزعيم الوطني، الأب الروحي للمصريين”.

فخلال آخر 10 سنوات من حكم الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، تفاقمت الضغوط الاقتصادية وتأزمت الحياة السياسية، في حين خرجت للسطح العام كتلة من الفاعلين السياسيين الجدد استغلت هامشا من الحرية لتكون نواة الثورة التي اندلعت عام 2011، متخذة شكل اعتصام مفتوح في ميدان التحرير ليكون مركزا لانتفاضة الجماهير لمدة 18 يوما إلى حين رحيل الحاكم.

أخذت الثورة طموح المحكومين إلى أن يكون الحاكم مجرد وكيل للمحكومين ومسؤولا أمامهم.. أن تنتقل السيادة من الحاكم إلى المحكومين، أي أن يصبح أخيرا أفراد الشعب المصري مواطنين، لا رعايا.

“ثم اكتشف الميدان أن هناك مسافة زمنية تفصل بين طموحه الشديد وقدرة الشعب على تحقيقه مباشرة.. أدى ذلك إلى خيبة أمل كبيرة، إلى اضطراب عميق في العقول والقلوب، وصل بعدد من الثوار إلى إنكار جدوى الثورة التي قاموا بها”.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post Transgender former student sues Missouri school for making her use boys’ bathrooms
Next post بالقانون.. القصّر في الصين يُحرمون من الإنترنت ليلاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading