طَفر سؤال ملح مع إعلان القمة العربية لبيانها الختامي، وطَفَقَ يستجدي الإجابة وهو: هل وضع القادة العرب حدًا لمحاولات التعدي على الشرعية بعودة الرئيس بشار الأسد فقطعوا بذلك الطريق أمام قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”؟!
وظاهريا، لا شيء يربط بين الشخصين لكن بعض التأمل يكشف عمقا آخر، فالأول هو رئيس “شرعي” أبعدته عن حضن الجامعة العربية حربه على ثورة شعبية قادتها مليشيات في سوريا، فيما الثاني هو “قائد مليشيا” حاول إجهاض ثورة فتعلق بأهدابه سارقوها من قيادات المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير “قحت”، وشجعوه على الانقلاب على شرعية الدولة في السودان. فما كان من قمة الرياض إلا أن صححت خطأ الحالتين فعاد بشار الأسد بشرعية الأمر الواقع، وارتفع صوت السودان عبر مبعوث رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، مع إصرار القمة على رفض كل الثنائيات والمليشيات المهددة لاستقرار ووحدة وسيادة البلاد العربية.
إذن فإن الحجج التي حفل بها مسرح العبث السياسي في السودان طيلة الأربع سنوات الماضية قد تبدو معقولة أو صحيحة ظاهريا، لكنها في الواقع قد تضطر كل مقبل على الاقتراب منها تجشم عناء استخدام عبارات قاسية نتيجةً لما ترتب عليها من سياسات ظالمة للسواد الأعظم من السودانيين، وما لَحِقَ بهم من عسف إجراءات معيبة أو محاكمات غير نزيهة، وقادت في النهاية إلى حربٍ تُهْلِك الحرث والنسل.
واكتشف الناس أن الحجج التي تدثرت بشعارات “حرية.. سلام.. وعدالة” فبدت منطقية في فورة الغضبة الثورية قد أتت بنتائج عكسية عندما أتيحت الفرصة لأصحابها أن يطبقوا على رقاب المخالفين. فقد صفق الثوريون لبشاعة تكميم الأفواه وقتل السلام وذبح العدالة، ولم يخجلوا في الهرولة بمقادير الجماهير التي خدرها زخم “المليونيات” من سفارة إلى سفارة، معتبرين من يفعل ذلك ذكيا حذقا، وإن بدا مخادعًا في كل أقواله وتصرفاته.
مليشيا التغيير
إن من وُصِفُوا بأنهم “قادة” في فوضى الثورة، فَوَّضوا قائد مليشيا قبلية لينقلهم عُنوة للمدنية ولم يتجنبوا استخدام التهديد والوعيد في حججهم الخاصة والعامة التي ما فتئوا يهرفون بها حتى فجر السقوط. ومن المهم أن يتذكر الناس كم كانوا قادرين على الوقوف صامدين في وجه الكذب وتحدي حجج الآخرين حتى وهم يحاولون خديعتهم بخط التفكير الخاطئ الذي اعتمدوه منهجًا لخطابهم مع الخصوم.
والإشارة هنا ليست لشخص بعينه من رهط الغابرين، ولكن قد تكون صورة لحالة عامة شنّفت آذان الناس بما لا يليق من عبارات التعدي على خاص حقوقهم. وبشكل عام، إن إحدى الطرق المفيدة للتعرف على كل الحجج التي سيقت هي تصنيف بعضها على أن لها صلة بالموضوع وثانية متعلقة بالمكونات وثالثة يكتنفها الغموض، وأخيرة تتعمد الإغفال.
وهذا التصنيف يدفعنا لاستدعاء الأدلة التي تجعلنا نعيد قراءة ما كان يروج له من مواقيت للتوقيع على الاتفاق السياسي “الإطاري” المفروض من الخارج الذي اختاروا له رمزيات تاريخية ارتبطت بشهر أبريل/نيسان تهفو إليها أفئدة بعض الناس، وهي في الحقيقة لا صلة لها بمطبخ صناعة الاتفاق ولا إجماع أطرافه عليه.
ولهذا، عندما مرت الأيام الثلاثة من شهر أبريل/نيسان بلا توقيع ولم يتمكن الحالمون من قادة “قحت” من تأسيس حكومة سفراء الرباعية، لجؤوا لفكرة الاستئناف بالإشارة للقوة أو مغالطة حجة الحوار باستعارة منطق القوة أو التهديد باستخدام هذه القوة، وألحقوها ببعض ردود الفعل غير السارة الأخرى لجعل الجمهور يقبل الاستنتاج بأن “قوات الدعم السريع” على أهبة الاستعداد لحماية التحول المدني الذي يستبطن الديمقراطية، ولكنه يرفض شرطها الانتخابي.
ومع مراوغات حديث الديمقراطية التي كانت تستخدم عادةً كملاذ أخير عندما تفشل الأدلة، أو الحجج العقلانية في إقناع الناس بأن البديل المدني المقترح لن يكون أكثر استبدادية من النظام العسكري، كان الإعداد للانقلاب يجري على قَدَمٍ عسكري في الداخل وساق إعلامي في الخارج.
وقد أحكِمَت خطة التحرك على الأرض باحتلال عملي لكل مواقع السيادة والقيادة في العاصمة الخرطوم، وامتدت زراع الفعل الطويلة حتى مدينة “مروي” في شمال البلاد، واصطفت محطات الدعم الإعلامي في كل الإقليم، وجيشت معها مواقع التواصل الاجتماعي محملة بأجندات العواصم التي تنفث زعاف سمومها منها غير متحرجة من الانكشاف على ملأ الغاضبين من وقع الخيانة عليهم، وغير عابئة بدمار طال ما تبقى من سودان الأمس.
آلية مرفوضة
لقد كان واضحًا؛ عند كل نقاش يدور حول ما إذا كانت الانتخابات هي آلية الديمقراطية المعترف بها عالميًا، أن الممثلين على خشبة مسرح العبث السياسي لا يريدون ذكرها، بل يحذرون منها إن هي ذُكِرَت. وللغرابة أن عواصم الغرب، التي عادة ما تُناور بالديمقراطية والانتخابات، تنازلت عنها طوعًا في حالة السودان.
وجاءت التفسيرات أن تنازلها عنها ما كان ليكون لولا خوفها من شيئين:
- أولهما، أن الانتخابات ستعيد حتمًا تأهيل الإسلاميين للحكم مرة أخرى، وبصورة أقوى مما كانوا عليه في أي وقتٍ مضى خاصة بعد أن أتيحت للناس فرص المقارنة بينهم وبين من ثاروا عليهم.
- وثانيهما، أن داعمي قوى الحرية والتغيير “قحت” الإقليميين، والمرعوبين أكثر من الغرب من فكرة عودة الإسلاميين، لا يخاطرون مطلقًا بديمقراطية تشكك في مشروعية أنظمة حكمهم بعد ما استطاعوا القضاء على كل تجارب التحول الديمقراطي، التي أفرزتها ثورات الربيع العربي، ولن يسمحوا للسودان أن يكون استثناء لذات الأسباب، وغيرها من عُقَد الحكم الخاصة بهم.
لهذا، تلاقت إرادة الطرفين الغربي والعربي في العمل معا على تقرير مستقبل السودان، ولو على ظهر آليات مليشيا الدعم السريع. والحكومة المدنية، إن ظل عليها من هم على شاكلة قادة “قحت” فلا بأس من تحمل تكاليف مواءمتها مع تطلعاتهم، ومن لا يوافق منهم على إنفاذ ما يطلب منه ستنبرئ له الوثائق بحجيتها الدامغة عندئذ.
أوليس معلوما أن الوسائط ووسائل الإعلام قد سبق أن امتلأت بأخبار الهدايا الدولارية “المليونية”، لا سيما لأسماء ورموز لم يتجاسر أحدهم، أو إحداهن على نفيها لإدراكهم أن هذا النفي إن جاء لا يغير من حقيقة الواقعة! كما أن سؤال الناس سيكون: أولم تكن مرتبات حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ومساعديه في عهد ولاية “قحت” دولارية أجنبية؟ وقد ضجت بحقيقتها أيضا أحاديث الناس لأشهر طوال وتغاضت عن الرد عليها أجهزة الدولة كلها حتى غدت من المسلمات بل عُدت من المكرمات التي يتسابق عليها المحظيون والمحظيات!
ولكن تبين لاحقا أن الحجة المستترة حينها لم تكن تقتصر على الإنكار، وإنما استبطنت التهديدات بالعنف لمن يتمادون في الترويج لما هو حقيقة ثابتة. وتضمنت تلك التهديدات باتخاذ إجراءات إدارية، أو أي رد فعل غير سار ماليا أو مهنيًا أو ما إلى ذلك من صنوف الانتقام.
ولسنا هنا بحاجة إلى تذكير القارئ بأن التخويف، الذي أكثرت منه التصريحات، قد أجبر الكثير من الإعلاميين السودانيين على الامتثال مع مجافاة ذلك لصواب الممارسة المهنية. وما فعلته وزارة الإعلام، بقيادة وكيلها الذي حملته أول طائرة إجلاء للأجانب، من أساليب الترغيب والترهيب مع منسوبي الأجهزة الإعلامية المملوكة للدولة وطرد من يخالف من منصبه أو إبعاده إذا لم يرفع عقيرته بالطريقة التي يريدونها أكثر مما يمكن حصره في مقال.
فقد اشتط في الإساءة للسلطة بتسخيرها سلاحا ضد كل المخالفين من الإعلاميين وفتت بها وحدتهم النقابية، وأشغلهم بصراعات لا متناهية حول جدوى القيمة الوطنية بعد أن صارت رئاسات مواقع قيادة الوسائل الإعلامية الرسمية لحملة الجوازات الأجنبية. وحُجبت كل قيم المجتمع وسمات سماحته وتسامحه من على الشاشات والصفحات. وغدا الحديث عن المحرمات و”التفاهات” هو السائد؛ ولم تسلم ليالي رمضان من تعمد الاستفزاز ببذاءات الترويج لانحرافاتها؛ كترويج “المثلية” والحط من أقدار رجال الدين في بلد تخدش الحياء فيه أي قدر طفيف من الغلظة حتى لو كانت العبارات السوية.
خَطَل الحجة والمنطق الفاسد
أكدت حجية هذه الممارسات والتهديدات التي اعتنقتها قيادات “قحت” أن موقفًا معينا صُنّف لديهم بأنه هو الموقف الوطني الصحيح أو هو صحيح لأنه صدر عنهم، وأن الذين يختلفون معهم غير وطنيين. إنه سلوك يتداخل مع منطق الاحتكار والإقصاء ويحمل روح الانتقام ويفتقر لاستقامة الحجة. وأفضل طريقة لاكتشاف هذا السلوك هي تأمل المصطلحات المشحونة عاطفيا التي استخدموها، تلك المفردات الناعمة التي تتخفى تحتها أدوات القمع والانتقام والممارسات الفردية الخشنة وما جرته على الأبرياء من ويلات وانتهاكات طالت وظائفهم ووسائل كسبهم ومصادر معاشهم ومصادرة أملاكهم، وما إلى ذلك مما برعت فيه ما كانت تسمى “لجنة إزالة التمكين”.
ولذلك، فإن هذا النهج ما كان ليليق بثورة شعاراتها “حرية.. سلام وعدالة” ولا يليق بالمواطن الصالح في بلد كالسودان نال أكثر مما يستحق من أنصبة القهر والظلم في ربيع ثورته. وفي كل هذه الأمثلة، لم تقدم “قحت” دليلاً على صحة الحجة الدافعة لها لارتكاب ما ارتكبت ولا حاسبت نفسها على عجزها في إنجاز ما وعدت به؛ بل إنها قامت فقط بتأكيدات على أحقية الأشخاص الذين يوافقون أو على حجة الانتقام ممن لا يوافقون كمدخل لحرية قُمعت وسلام تكفل بسحقه حليفها ولعدالة لم تتحقق.
ولهذا، فإن هذا الخط الفكري الذي جرى اعتماده بواسطة قادة “قحت” يؤكد أن فرضية الانتقام يجب أن تكون صحيحة لمن آمنوا بها خلال 4 سنوات عجاف. فعلى سبيل المثال تعثر لسان وزيرة المالية المكلفة وقتئذ في نطق الفترة “الانتقالية” فذهبت بما هو شائع بين زملائه، وقالت بلا مواربة وأمام أجهزة الإعلام الفترة “الانتقامية”، فصدقت من حيث أخطأت.
وهذا ما كان إلا لسبب بسيط وهو أن مناشدة فكرة الانتقال لم تكن حاضرة في مخيلتها وليست واردة في خاطرها حين أبدلت الانتقالية بالانتقامية. فقد عززت المماطلة في تحديد سقف زمني للفترة الانتقالية فكرة أن المشروعية الثورية مستمرة أبدا، وأن فرضية الانتقام دون غيرها كانت هي التي تعمل دائما بهمة عالية، وفي رهانها ذلك لم تلتفت لخيارات أخرى.
وعليه ظنت “قحت” أنها ستعمل دائما في واقع لم يتح لغيرها امتلاكه أو ربما يكون لهم حظ المشاركة فيه كما تمنوه. ولذلك، كان خطأ الوزيرة ذاك جيدا بما يكفي لكل من أضيروا بسياسات الانتقام الممنهج، فقالوا: لماذا لا تنطق به وزيرة “قحت” إذا كانت حكومتها تمارسه على رؤوس الأشهاد! ومثل هذه الحجة جذابة لأنها تبدو منطقية، لكنها تتجاهل أسئلة مهمة، مثل: هل كان يمكن لسياسة بديلة أن تعمل بشكل أفضل من سياسة الانتقام تلك؟! هل تغيرت الظروف عما كانت عليه قبل 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021؟! هل عيوب هذه السياسة هي ما أوردت البلاد موارد الهلاك الآن؟! وهل ظهرت أدلة جديدة قد تلقي بظلال الشك على مثل تلك السياسة في المستقبل؟!
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.