فيلسوف التقشف.. “ثورو” ومجاورة الطبيعة لا تملّكها | آراء


|

يظل كتاب أندريا فولف (Andrea Wulf) “ابتكار الطبيعة” (The Invention of Nature) من أبرز الكتب التي تؤرخ لظاهرة الوعي بالطبيعة في سياقنا الحديث، وهو عبارة عن سيرة لحياة ألكساندر فون هومبولت (Alexander Von Humboldt)، الباحث الرحّالة الذي استطاع أن يجسد البطولة العلمية خير تجسيد وهو يجوب العالم طولا وعرضا بحثا عن معنى الحياة كما يتجسد عبر التأمل في علاقة الكائنات الحية ببعضها بعضا، وأجمل ما في الكتاب أنه يوثق لما تركه هومبولت من أثر بالغ في حياة وأعمال كثير من الشعراء والسياسيين والمفكرين على امتداد القرن الـ19.

“والدن”.. تأملات الخلوة

ويأتي في طليعة من وَقَعوا في أَسْر أسلوب هومبولت في التعاطي مع الطبيعة هنري ديفيد ثورو (Henry David Thoreau) كاتب “والدن” (Walden)، هذا الكتاب الذي كان له بدوره تأثير كبير في مسار كثير من رجال الفكر والسياسة على امتداد القرن الـ20، من أمثال غاندي الثائر الذي اتخذ التقشف سلاحا ضد الاستعمار البريطاني.

تروي أندريا فولف أن ثورو بعد عودته من حياة الخلوة على ضفاف بحيرة والدن قرأ كتاب “كوسموس” (Cosmos) الموسوعي لهومبولت فاكتسب ثقة كبيرة بالنفس ساعدته على نسج تأملاته الشعرية وملاحظاته العلمية، فكانت النتيجة كتابه “والدن” الذي سيصبح معلمة من أهم المعالم في تاريخ الأدب والفكر الأميركيين. ولعل القارئ المتأمل في إبداعات الرجلين لا يلبث أن يشعر بوجود الحرص نفسه على إيقاظ النفوس من الغفلة في الوجود وحث الهمم على طلب الوعي الكوني عوض الاكتفاء بالانتساب إلى اللحظة الحضارية، وذلك عبر تجديد الاهتمام بالطبيعة، لا بوصفها موضوع تأمل وملاحظة فحسب، بل بوصفها الموطن الأصلي للحياة وللكائنات الحية.

وإذا جاز القول بتأثر ثورو بهومبولت فهذا لا يفيد القول إن ثورو كان مُقلِّدا؛ فكل سطر مما كتب يرشح بتفرد في العبقرية وبخصوصية التجربة الذاتية. غير أن الربط بين الرجلين يبوح لنا بما تسكت عنه كثير من الكتابات، وهو ارتباط أفكار ثورو بوعي انحدر إليه من بيئة ثقافية أوروبية “رومانسية” موصولة الصلة بإرث حكمي من جنس الإرث الذي نلمسه ونحن نقرأ مقدمة ابن خلدون مثلا.

يَسْخر ثورو من معاصريه، لكونهم خرجوا من طور اقتناء اللباس الذي يقي الجسد من البرد إلى طور السعي من أجل اقتناء آخر “موضة” باريسية، مجليا كيف تقلّب الإنسان من العري في الطبيعة إلى اللباس الذي يهدف إلى حفظ الحياة، ومنه إلى ضرب من الترف يحول اللباس إلى موضة يُبتغى منها عرض شخصية الإنسان.

الضرورات والنوافل

ليس من السهولة أن تجد في تاريخ الأدب الأميركي من هو أنعت للطبيعة من ثورو، وهو بهذا يستحق أن يُنسَب إلى طبقة الأدباء والشعراء، غير أن للرجل أسلوبا يجعله يرقى إلى مصاف طلاب الحكمة. والحكيم عند ثورو هو من لا يجاري معاصريه في رُكوب ما يهوَوْن، فينأى بنفسه عن الإسراف في المأكل والملبس والمسكن والمدفأ، ورأس الحكمة عنده هو التمييز بين الضرورات والنوافل.

ويأتي على رأس الضرورات ضرورة حفظ الحياة؛ يقول ثورو إن الإنسان لا يحتاج من الناحية البيولوجية سوى إلى طعام يَدْخل جوفَه فيتحول إلى حرارة أو طاقة تمكنه من البقاء حيا، أما الملبس والتدفئة من خارج الجسد فليسا ضرورة تمليها البيولوجيا، بقدر ما هما كماليات تحولت مع مرور الزمن إلى عادات ثقافية مستحكمة. ويقوم دليلا على هذا الأمر، أي على أن اللباس والتدفئة ليسا ضروريين من الناحية البيولوجية، أن كثيرا من القبائل غير المتحضرة ما زالت تزهد في اللباس والتدفئة. وبهذا يخلص ثورو إلى القول إن الحياة في جوهرها هي مجرد طاقة أو حرارة تحرك جسم الإنسان من الداخل.

ينبني على هذا التمييز بين الضروري من الناحية البيولوجية والكمالي وعي يستحث صاحبه على “الاقتصاد في السعي” والتريث قبل إنفاق الحياة في ما ليس له معنى. ألا ترى أن الإنسان الذي يفتقر إلى هذا الضرب من الوعي يسقط في ضروب من الغفلة تجعله يستسيغ الترف الذي تضيع معه معاني الوجود الكبرى في الطبيعة؟! يَسْخر ثورو من معاصريه، لكونهم خرجوا من طور السعي من أجل اقتناء اللباس الذي يقي الجسد من البرد مثلا إلى طور السعي من أجل اقتناء آخر موضة تأتي من باريس. ويريد من وراء حديثه عن اللباس والموضة أن يجلي لنا كيف يتقلب الإنسان من العري في الطبيعة إلى اللباس الواقي، الذي من وظائفه الحفاظ على حرارة الجسم، أي على الحياة، من الخارج، في السياق الثقافي؛ إلى ضرب من الترف يتحول معه اللباس إلى موضة يُبتغى منها عرض شخصية الإنسان عوض ستر جسده، في السياق الحضاري.

يقول ثورو إن بساطة الحياة في مراحل البداوة الأولى تمنح الإنسان ميزة واحدة على الأقل، وهي أنها تُبْقي على صلته قائمة مع الطبيعة. ومعنى كلامه هذا هو أن هناك ضروبا معقدة من الحياة تجعل الإنسان يستغلق على الطبيعة ويقطع صلاته بها. حين نضع هذا الكلام في سياق القرن الـ19 الأميركي المفعم بأيديولوجيا التطور والتقدم يتضح لنا أن مقصود ثورو لم يكن هو الدعوة إلى أشكال من الحياة البدائية الطبيعية بقدر ما كان هو التحذير من مغبة السقوط في أشكال من الاغتراب في الطبيعة، أو التقدم على حساب الطبيعة، وكأننا بـه يريد ترشيد الفعل الحضاري وهو يشترط الشعور بالانتساب إلى الطبيعة أساسا لكل تقدم.

وبينما كانت الدهشة تغمر معاصريه وهم يقفون أمام إنجازات أميركا التقنية والحضارية، ظل ثورو حريصا على إيصال ندائه إلى من يريد أن يسمع، يقول بعبثية كل بناء حضاري لا يؤسس على الشعور بالوجود في الطبيعة، أي الوجود المعطى. في نبرة ملؤها التهكم والسخرية، يقول في معرض شجبه لتطاول معاصريه في البنيان: “كان هناك أحمق في هذه المدينة، شَرع في حفر نفق يصل إلى الصين، وقد قطع أشواطًا طويلة، حتى إنه زعم أنه سمع قعقعة الأواني والقدور الصينية، ولا أظنني سأحيد عن طريقي لأذهب فأسجل إعجابي بحفرته. كثير من الناس يعنون بنُصُب الغرب والشرق التذكارية، يريدون أن يعرفوا من شيّدها، أما أنا فيعنيني أكثر معرفة (من)، في تلك الأيام الخالية، (لم) يبن هذه النُصب، مَنْ تَرَفَّع عن مثل هذه الترهات”.

يدعونا ثورو إلى الاعتناء بالفنون التي تستحث الإنسان على تذوق الطبيعة، عوض التي تدعو إلى عوالم ذاتية مبهمة، وبهذا أسس لقطيعة مع منظومة فكرية غربية حداثية وبراغماتية تستبيح الطبيعة لإشباع رغبات الإنسان المترف.

مجاورة الطبيعة لا تملّكها

يعجب ثورو كيف ينفق الإنسان حياته في تشييد بنايات ستشهد على زواله من بعده أكثر من شهادتها على وفائه للوجود في الطبيعة وتنعمه واستقراره فيها. ويمضي في السياق نفسه يحدثنا عما ورد في أحد كتب الملاحم عند الهنود من كلام يفيد بأن “المنزل بلا طيور مثل اللحم بلا توابل”، فيقول: “منزلي ليس كذلك، لأني وجدت نفسي فجأة في جوار الطيور، ليس بسجن طير في قفص، ولكن بوضع نفسي في قفص بجوارها”. هذه لطيفة من اللطائف التي تصب في التذكير بأن الأصل في علاقة الإنسان بالطبيعة أنها علاقة تجاور وليس علاقة تملّك.

لا شك أن من يضع الطير في قفص إنما يطلب جلب الحسن المبثوث في الطبيعة إلى مكان حضوره هو؛ على عكس من يرحل طلبا للتلذّذ بالحسن الطبيعي. ينطوي هذا الكلام على معاني لطيفة يريدها ثورو أن تفكك قناعات معاصريه الفكرية وأذواقهم الفنية، فهو يدعونا إلى التسليم له بأن وضع المجاورة للطبيعة أرقى منزلة من وضع التملك، ومن يسلم له بهذا لا بد أن يسلم له كذلك بأن همة العاقل لا بد أن تنصرف إلى التقرب من الوضع الأول والابتعاد عن الوضع الثاني.

وبهذا ينسف ثورو من الأساس منظومة القيم الفنية والجمالية كما انحدرت إلى المجتمع الأميركي من العالم الأوروبي، يقول: “إن أحسن الأعمال الفنية تأتي تعبيرا عما يعترك داخل الإنسان من أجل تحرير ذاته من هذا الوضع، أي الوضع الذي تكون معه صلة الإنسان بالطبيعة مقطوعة. لكن الفن عندنا ليس له من تأثير آخر سوى أنه يجعلنا نشعر بالراحة ونحن على هذا الوضع، وأن ينسينا الوضع الآخر، أي الوضع الذي يكون فيه الإنسان على صلة بالطبيعة”.

هكذا يدعونا ثورو إلى الاعتناء بالفنون التي تستحث الإنسان على تذوق الطبيعة والوقوف عند محاسنها، عوض الاعتناء بالفنون التي تدعونا إلى عوالم ذاتية مبهمة، عوالم بديلة. وبهذه الدعوة يكون قد أسس لقطيعة مع منظومة فكرية غربية حداثية وبراغماتية تقوم على استباحة الطبيعة لإشباع رغبات الإنسان المترف، هذا الإنسان الذي، كما تذكر كتب التاريخ الأميركي، جعل من قتل الجاموس رياضة يتبارى فيها المتبارون لمعرفة من يقتل أكبر عدد من هذا الحيوان. لقد كان لثورو دور مشهود في لفت عدد كبير من القراء إلى ضرورة العناية بالطبيعة بوصفها موطن الكائن الحي وسكناه.

إن ما قيل عن ثورو في هذا المقام هو غيض من فيض، فالحاصل أن حجم تأثيره أكبر بكثير من أن يحاط به في مقالة أو كتاب، كما أنه يتعذر الإحاطة بأوجه الإبداع التي تميزه أديبا وشاعرا ومفكرا، ويكفيه مجدا أن نجد مفكرين وشعراء وأدباء وعلماء كثرًا يصرحون بأنهم يذهبون مذهبه في طلب مجاورة الطبيعة، ويأتي على رأس هؤلاء الشاعر المفكر كينث وايث.

 

يتبع


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post أسعار السبائك الذهب فى الأسواق اليوم بعد هبوط الجرام 200 جنيه
Next post مصر مع المكسيك ومونتينيجرو وليتوانيا في كأس العالم للسلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading