فاطمة الفهرية.. “أم البنين” التي احتضنت العلم والعلماء وأسست أول جامعة في العالم | الموسوعة


فاطمة الفهرية، ولدت حوالي عام 800م وتوفيت 878م. وهي مؤسسة “جامعة القرويين” في مدينة فاس بالمغرب، التي تعد أول مؤسسة جامعية في العالم، وتأسست عام 859م.

تعد فاطمة الفهرية سليلة التابعي الجليل عقبة بن نافع الفهري القرشي، فاتح تونس ومؤسس مدينة القيروان، نزحت مع أهلها من مدينة القيروان عاصمة أفريقية (اسم تونس تاريخيا) إلى مدينة فاس عاصمة الدولة الإدريسية (المملكة المغربية حاليا)، واستقروا بها بعد أن طاب لهم المقام هناك.

المولد والنشأة

تذكر المصادر التاريخية أن فاطمة بنت محمد الفهرية القرشية ولدت حوالي سنة 800م بمدينة القيروان عاصمة تونس آنذاك، حينما كانت تسمى “أفريقية”، والدها هو محمد ابن عبد الله الفهري، وكان تاجرا ثريا، انتقل إلى مدينة فاس بالمغرب الأقصى مع عائلته في عهد السلطان إدريس الثاني، واستقروا هناك.

بعد ذلك تزوجت فاطمة الفهرية من رجل ثري، لكن لم تمض سوى سنوات قليلة حتى توفي الأب والزوج معا، فورثت فاطمة زوجها، وأباها مع أختها الوحيدة مريم، lما جعلها تجمع ثروة كبيرة حينها.

تلقت فاطمة وأختها تربية دينية على يد والدهما، وورثتا عليه الورع والتقوى وزهدتا في الدنيا رغم ثرائهما وغناهما.

كانت فاطمة الفهرية وأختها مريم توزعان من الميراث الذي حصلتا عليه بسخاء على المساكين والمحتاجين وطلاب العلم والمعرفة، حتى لقبت فاطمة الفهرية حينها بأم البنين.

ظلت فاطمة الفهرية وأختها مريم على هذه الحال في الزهد والكرم حتى اهتدتا إلى بناء مسجدين يكونان صدقة جارية لهما، وذلك بعدما وجدتا أن المسجد الذي يصلي فيه الناس ضيق ولا يتسع لكافة المصلين، فتطوعت فاطمة لإعادة بناء المسجد الموجود وضاعفت مساحته بشراء الحقل الذي كان يحيط به، وضمتها إليه في رمضان عام 245هـ، وأسمته جامع القرويين، في حين بنت أختها مريم جامعا آخر أسمته جامع الأندلس في مدينة فاس عاصمة الدولة الإدريسية بالمغرب.

جامع القرويين

تروي كتب التاريخ أن فاطمة الفهرية حينما عقدت العزم على بناء جامع القرويين في رمضان من عام 245هـ (858م)، قررت ألا تأخذ ترابا أو أي مادة تستعمل في بنائه إلا من الأرض التي اشترتها بمالها الخاص من رجل ينتمي لقبيلة هوارة.

وطلبت من العمال والبنائين أن يحفروا كهوفا في أعماق الأرض لاستخراج الرمل الأصفر الجيد والأحجار والجص لاستخدامها في عملية البناء. كما طلبت منهم حفر بئر في فناء المسجد ليرتوي منه البناؤون والعمال، ولاستخدامه أيضا في أعمال البناء، كما يقول المؤرخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب في كتابه “شهيرات التونسيات”.

ويحكي المؤرخون أن فاطمة الفهرية صامت طوال فترة بناء المسجد التي امتدت لحوالي 18 سنة، أي من سنة 245هـ إلى سنة 263 هـ، وتعود تسمية جامع القرويين بهذا الاسم نسبة إلى مدينة القيروان عاصمة تونس وقتها، الموطن الأصلي لفاطمة الفهرية.

وفي هذا الباب يقول المؤرخ والكاتب المغربي الدكتور عبد الهادي التازي، في رسالته لنيل الدكتوراه، إن “حفر أساس مسجد القرويين والأخذ في أمر بنائه الأول كان بمطالعة العاهل الإدريسي يحيى الأول، وأن أم البنين فاطمة الفهرية هي التي تطوعت ببنائه وظلت صائمة محتسبة إلى أن انتهت أعمال البناء وصلت في المسجد شكرا لله”.

وبفعل إنجازها العظيم، خلدت فاطمة الفهرية اسمها في كتب التاريخ، كأول امرأة بنت مسجدا بِحُرِّ مالها، في وقت كانت فيه الدول هي التي تتكفل ببناء المساجد، وقد قال في حقها العلامة ابن خلدون، أحد خريجي هذا الصرح الجامعي، في كتاب “العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر” إن فاطمة “كأنما نبهت عزائم الملوك بعدها، وهذا فضل الله يؤتيه لمن يشاء من عباده الصالحين، فسبحانه وتعالى إذا أراد لأمة الرقي والرفعة وأذن لها بالسعادة الغامرة أيقظ من بين أفرادها رجالا ونساء، شبابا وشيوخا، أيقظ فيهم وجدانا شريفا وشعورا عاليا يدفعهم للقيام بصالح الأعمال وأشرفها وما كان من أجل الدنيا والآخرة”.

وعلى مر السنين كان السلاطين والدول التي حكمت المغرب يتنافسون على الاعتناء بجامع القرويين ورصد الأموال لتوسيعه وترميمه، ويذكر الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني في كتابه “فاس عاصمة الأدارسة” أنه “وعلى مر الدهور والأعوام تنافست الملوك والدول في توسيع بنائه ورصد الأموال للقيام به، فزاد فيه أيام الدولة الزناتية أميرُها أحمد بن أبي بكر من خمس الغنائم عام 345هـ، وزاد فيه أيام الدولة المرابطية علي بن يوسف ابن تاشفين، ثم لم يزل يوسع ويجدد، وتزداد أوقافه أيام دولة الموحدين ودولة المرينيين.. إلى أيام دولتنا العلوية الحاضرة”.

وتوفرت بذلك مع مرور الزمن لجامع القرويين، أوقاف كثيرة جعلته يستقل ماليا عن الخزينة العامة للمملكة المغربية، وهو ما حكاه المؤرخ الدكتور عبد الهادي التازي في كتابه “جامع القرويين: المسجد والجامعة بمدينة فاس”.

إذ يقول إن حيازة جامع القرويين للأوقاف جعلته مستقلا ماليا عن خزينة الدولة، بل إن الدولة اقترضت في مراحل تاريخية مختلفة من خزينة جامعة القرويين، التي أفاضت منها على سائر مساجد فاس، وسَرَتْ أوقافها الزائدة حتى المسجد الأقصى بالقدس، وحتى الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة.

أول جامعة في العالم

بعد الانتهاء من عملية بناء جامع القرويين، بدأ العلماء في تقديم دروس علمية داخل فنائه عبر تكوين حلقات علمية يجتمع فيها طلاب العلم، ومع مرور الوقت ذاع صيت الجامع خارج حدود الدولة الإدريسية، وتحولت بذلك مدينة فاس إلى مركز علمي ينافس أقوى المراكز العلمية في ذلك الوقت كقرطبة وبغداد.

ويذكر بعض المؤرخين أن مسجد القرويين تحول إلى مؤسسة جامعية بداية من عام 877م، أي بعد سنة واحدة من وقت الانتهاء من تشييده، وهو ما تؤكده موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية. لكن هناك من يرى أنه لم يتحول إلى مؤسسة جامعية حقيقية حتى القرن الخامس الهجري الموافق للقرن الـ11 ميلادي، أي في فترة حكم المرابطين بالمغرب، وامتد إشعاعُه في القرن الـ14 ميلادي زمن حكم المرينيين، الذين اتخذوا مدينة فاس عاصمة لهم بدلا من مدينة مراكش، التي كانت بدورها عاصمة خلال فترة الدولة المرابطية.

وبعد تحوله إلى مؤسسة جامعية حقيقية بنيت العديد من المدارس حول الجامع وعزز بالكراسي العلمية في شتى أصناف العلوم كالفقه والأدب والرياضيات والفلك وغيرها، إضافة إلى الخزانات.

وتصنف جامعة القرويين أقدم مؤسسة جامعية في العالم، حسب موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية، متقدمة بذلك على جامعات أوروبا بحوالي قرنين من الزمن، نظرا لكون أول جامعة في أوروبا تأسست في القرن الـ11 ميلادي بجنوب إيطاليا، ثم تبعتها باقي الجامعات الأوروبية مع توالي السنوات.

وباعتبارها كانت أكبر جامعة تضم المواد الأدبية والعلمية مثل النحو والجغرافيا والتاريخ الإسلامي والمنطق والحساب والرياضيات والطب والكيمياء والفلك، ظلت جامعة القرويين على مر التاريخ تجذب إليها الكثير من طلاب العلم من داخل المغرب وخارجه، وأصبحت مركزا للنشاط الفكري والثقافي والديني أيضا قرابة الألف سنة.

وإلى جانب دورها العلمي والتربوي، لعبت جامعة القرويين على مر الزمن دورا سياسيا كبيرا، في مختلف المحطات السياسية التي عاشها المغرب، حيث يحكي المؤرخون أن القرارات السياسية الكبرى كالبيعة وشن الحروب وتوقيع معاهدات السلم وغيرها، كانت كلها تتخذ بجامعة القرويين وتحمل توقيعات علمائها.

إضافة إلى ذلك لعبت جامعة القرويين دورا كبيرا في بناء الشخصية الإسلامية من خلال جمعها بين الأصالة والتجديد، مع محافظتها على مبادئ الدين الإسلامي الحنيف وحمايتها للثقافة الإسلامية ذات الطابع المغربي الأصيل.

"ابن رشد القاضي الفيلسوف".. صراع العالم الحكيم في بحر الأندلس المتقلب المصدر: الجزيرة الوثائقية
“ابن رشد القاضي الفيلسوف” أحد أبرز طلبة جامعة القرويين (الجزيرة)

شخصيات بارزة طبعت تاريخ القرويين

يحكي المؤرخون أن جامعة القرويين استقطبت العديد من أعلام المسلمين وغير المسلمين القادمين من دول شمال أفريقيا والجزيرة العربية وكذلك أوروبا، الذين درسوا بها وتخرَّجوا فيها في مجالات مختلفة كالفقه والشعر والفلك والرياضيات، بعدما مكثوا بها لسنوات، حيث كانت مركزا لإيواء الطلبة الوافدين عليها أيضا.

ومن أبرز الأعلام الذين درسوا بجامعة القرويين، المؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع الحديث، والطبيب والفيلسوف أبو الوليد ابن رشد المعروف بابن رشد، وأبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ بن باجة التجيبي الشهير باسم “ابن باجة”، الذي يُعد من أبرز الفلاسفة المسلمين، والطبيب الأندلسي موسى بن ميمون، ومحمد الطائي الإدريسي، أحد أشهر الجغرافيين العرب والمسلمين، وعالم الرياضيات والفلك الشهير ابن البناء المراكشي، وعالم القراءات والرياضيات ابن غازي المكناسي، وبابا الفاتيكان سيلفستر الذي تُنسب إليه عملية نقل الأرقام العربية إلى أوروبا، وغيرهم من الأعلام.

ومن بين الأمور التي كانت تتميز بها جامعة القرويين أن طلابها كانوا يختارون من يريدون التعلم على يده حسب مجال تخصصه، وكان الأستاذ يجلس على كرسيه وهو يستند بظهره إلى إحدى سواري المسجد والطلاب يتحلقون حوله.

ومن بين الأساتذة الذين درّسوا في جامعة القرويين، هناك الفقيه المالكي أبو عمران الفاسي وابن العربي وابن رشيد السبتي وابن الحاج الفاسي وابن ميمون الغماري، كما زارها الشريف الإدريسي ومكث فيها مدة من الزمن، إضافة إلى ذلك، زارها ابن زهر مرات عديدة، وكتب فيها ابن آجروم الصنهاجي كتابه “الآجرومية”، الذي يعتبر من أهم كتب النحو.

"Engraving From 1869 Featuring The First French Pope, Gerbert of Aurillac Who Became Known As Pope Sylvester II In 999. Sylvester II Died In 1003."
بابا الفاتيكان سلفستر درس في جامعة القرويين ويرجع له فضل نقل الأحرف العربية لأوروبا (غيتي)

مكتبة جامعة القرويين.. إحدى أقدم المكتبات في العالم

عرفت جامعة القرويين التي أسستها فاطمة الفهرية مع توالي السنوات تطورات مهمة تجلت في تأسيس عدد من المرافق التابعة لها، ومن بين هذه المرافق المكتبة التي أسست في عهد الدولة المرينية على يد السلطان أبو عنان المريني، والتي تعتبر من أقدم المكتبات في العالم ومرجعا أساسيا للبحث والتمحيص والتأليف.

وبعد إنشائها، أضيفت إليها مكتبة السلطان الموحدي أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وأصبحت بذلك تضم أكثر من 4 آلاف مرجع من أمهات الكتب العلمية والمجلدات والمؤلفات النفيسة في مختلف المجالات، إضافة إلى مخطوطات نادرة للقرآن الكريم والحديث النبوي التي تعود إلى القرن التاسع الميلادي.

 الوفاة

رغم المعلومات التي ذكرت حول فاطمة الفهرية، فإن المؤرخين ما زالوا يجهلون العديد من التفاصيل المتعلقة بحياتها وأعمالها وكذلك تاريخ وفاتها، إذ تذكر بعض الروايات التاريخية أن فاطمة الفهرية توفيت حوالي 265هـ الموافق 878م.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post Buy Buy Buy يجذب فائدة البيع فى Bed Bath & Beyond الإفلاس
Next post الأهلي يجهز مصطفى شوبير للمشاركة فى نهائى أفريقيا.. اعرف التفاصيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading