لم يخلُ التاريخ الحديث للمنطقة العربية من التدخل الخارجي، وذلك إلى الدرجة التي يمكن فيها القول بقدر من الثقة إنه لا يمكن فهم هذا التاريخ دون معرفة دور القوى الخارجية، سواء الدولية أو الإٍقليمية، في صناعته وتشكيله. بل لا مبالغة في القول إنه لا يمكن فهم بنية الدولة العربية الحديثة دون تفكيك دور العامل الخارجي، سواء كان سلبا أم إيجابا، في صياغتها وتشكيلها.
لعب الصراع بين القوى الكبرى (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا، أميركا، الاتحاد السوفياتي، إلخ) دورا مهما في تشكيل الشرق الأوسط الحديث وفي القلب منه العالم العربي سواء من خلال الاستعمار والاحتلال المباشر أو من خلال محاولات التأثير والاختراق التي تلت مرحلة الاستقلال منتصف القرن العشرين.
ولئن رحل الاحتلال العسكري عن أكثر من بلد عربي، فإنه لم يلبث أن عاد في أشكال أخرى ما بين الاحتلال الفكري والثقافي، ناهيك عن التبعية الاقتصادية والتكنولوجية، حتى وصل الأمر إلى عودة التدخل العسكري مرة أخرى، كما حدث في العراق وليبيا واليمن وسوريا، والسودان، والصومال، وغيرها.
كان الدور الخارجي مؤثرا في الصراعات العربية خاصة بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وما تلا ذلك من انقسام عربي غير مسبوق وقفت أمامه الدول العربية عاجزة عن اتخاذ موقف محدد وواضح من الغزو
وقد وصل الأمر إلى حد التساؤل: هل يمكن للعرب أن يعيشوا دون تدخل أجنبي؟ وهو سؤال كاشفٌ لواقع الحال في العالم العربي الذي بات مسرحا لكل اللاعبين الدوليين والإقليميين، يتدخلون فيه من أجل تحقيق مصالحهم، وليس مصالح البلدان العربية ومجتمعاتها.
مع نهاية الحرب الباردة أوائل التسعينيات، وتحديدا مع اندلاع حرب الخليج الثانية عام 1990، تغيرت أنماط الصراعات العربية. وانتقلت من الصراع مع العدو الخارجي (إسرائيل) الذي ظل مهيمنا على التفاعلات العربية منذ أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، إلى صراعات عربية – عربية، وذلك على خلفية الانقسامات الحادة التي نجمت عن الاصطفاف مع أو ضد قرار الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بغزو الكويت.
وقد كانت لحرب الخليج الثانية تداعيات كبيرة على النظام الإقليمي العربي سوف تترك آثارها لعقدين مقبلين على الأقل. وقد كان ذلك إيذانا ببدء مرحلة جديدة من الصراعات العربية التي ظلت مستمرة حتى بداية الألفية الثانية وتحديدا مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
خلال تلك المرحلة انقسمت المنطقة العربية بين محاور عديدة لكن أبرزها ما عُرف بمحور الاعتدال من جهة والذي ضم دولاً مثل مصر والسعودية والأردن والإمارات والبحرين، في مقابل محور ما سُمّي بالممانعة أو المقاومة والذي ضم سوريا وإيران ومعهما مجموعة من اللاعبين ما دون الدولة مثل حزب الله في لبنان وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين.
وقد حاولت الأطراف الخارجية، الإقليمية والدولية، توظيف هذه الصراعات من أجل تحقيق مصالحها في المنطقة وذلك دون الاكتراث بمصالح حلفائها في العالم العربي. وكانت النتيجة أن تحولت المنطقة العربية إلى منطقة نفوذ لهذه القوى الإقليمية وهو ما بدا واضحا بعد سقوط الأنظمة السلطوية في المنطقة العربية في أعقاب موجة الربيع العربي أواخر عام 2010.
وعلى مدار العقود الماضية، خاصة في مرحلة ما قبل الربيع العربي، كانت الخلافات العربية تقع بين القوى التقليدية كالسعودية ومصر وسوريا وليبيا والعراق والتي كان يتداخل فيها التاريخي مع الأيديولوجي مع الشخصي، فشهدنا توترات في العلاقة بين الرياض ودمشق، وكذلك بين السعودية وليبيا، وشهدنا تشاحنا وتلاسنا بين قياداتهما في أكثر من مناسبة. وهي الخلافات التي زادت بشكل ملحوظ عقب الغزو العراقي للكويت أوائل التسعينيات من القرن الماضي، واستمرت تهيمن على المشهد العربي طيلة العقدين اللاحقين.
كما أن الخلاف حول طرق وإستراتيجيات التعاطي مع الكيان الصهيوني كان يمثل أحد ملامح الصراعات العربية الكلاسيكية. وقد شهدنا انقسام المنطقة ما بين محاور الممانعة والمقاومة، وما بين رغبات التطبيع التي كانت تمرّ على استحياء ومن خلف الأبواب المغلقة، ومن يدفعون باتجاه المواجهة مع إسرائيل. وعموما كانت إسرائيل لا تزال تمثل “الآخر” سواء أكان عدوا أو جارا يجب التعاطي معه ولو على مضض.
في الوقت نفسه، اتبعت القوى الإقليمية غير العربية إستراتيجيات محسوبة للتدخل في الشأن العربي. فإيران ظلت تدعم ما يسمّي بمحور “المقاومة” من بعيد، ودون تدخل فجّ في تحديد خياراتهم ومساراتهم السياسية. أما تركيا فقد اتبعت إستراتيجية “صفر مشاكل” التي وضعها ونظّر لها وزير الخارجية التركي الأسبق أحمد داود أوغلو. وذلك على عكس ما حدث بعد الربيع العربي حيث بات تدخل هذه القوى من أهم عوامل التوترات والصراعات العربية الحالية على نحو ما سيتم ذكره لاحقا.
وأخيرا فقد كان الدور الخارجي مؤثرا في الصراعات العربية خاصة بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وما تلا ذلك من انقسام عربي غير مسبوق وقفت أمامه الدول العربية عاجزة عن اتخاذ موقف محدد وواضح من الغزو، وهو ما مثّل نهاية فعلية للنظام الإقليمي العربي الذي كان قد بدأ فعليا في التراجع والانهيار بعد حرب الخليج الثانية، ووصل إلى مثواه الأخير مع بداية الألفية الثانية.
أما عن أشكال التدخل في الخارجي في الصراعات العربية خلال العقد الماضي فهي كثيرة ومتنوعة، وهو ما قد يتطلب مقالا آخر.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.