مقدمة الترجمة:
اضطلع المرتزقة الروس بدور رئيسي في قمع الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، إذ قاتل هؤلاء المرتزقة بجانب قوات الأسد لمواجهة الثوار المسلحين، ولحماية مصادر تمويل النظام، وهو ما يغري موسكو بتكرار التجربة مرة أخرى. في هذا المقال،يستعرض باتريك تاكر، الصحافي بمجلة “ديفِنس وان”، تفاصيل “عقيدة غراسيموف”، وهي الأساس الذي تسترشد به هذه الجماعات من المقاتلين المرتزقة في عملياتها.
نص الترجمة:
بعدما غزت روسيا أوكرانيا عام 2014، قيل الكثير حول استخدام الكرملين للحرب الهجينة لزعزعة استقرار البلدان وغزوها، لكن في السنوات التالية، استعانت موسكو بما يُسمَّى أساليب المعارك الرمادية (Grey-Zone)، وشكَّلت شيئا مختلفا تماما: نوع من القوات الأمنية متاحة ليُوظِّفها الحكام المستبدون الراغبون في حماية النظم السياسية الخاصة بهم.
في مقال لم يلفت الانتباه كثيرا نُشِر في يوليو/تموز 2018 في دورية “المِرسال العسكري الصناعي الروسي”، ناقش قائد المنطقة الجنوبية بالجيش الروسي نجاح استخدام المقاتلين المرتزقة غير النظاميين، والمليشيات المحلية المدعومة من النظام، والجنود النظاميين؛ في سحق الثوار السوريين المنتفضين ضد نظام الأسد. كما ذكر الكولونيل الجنرال “ألكسندر فلاديميروفتش دفورنيكوف”، في مقال نشره موقع “ذا ستاف أوف فيوتشر وورز”، أن الآليات المبتكرة في سوريا يمكن تصديرها إلى أي بيئة تقريبا يرى الرئيس فلاديمير بوتين أنها مناسبة للتدخل ومواجهة انتفاضة شعبية.
لم ينتبه معظم المراقبين الغربيين إلى ذلك المقال، ولكنه لم يمر مرور الكرام على “مارك فويغر”، المستشار الثقافي السابق لدى “قيادة القوات البرية للحلفاء” التابعة لحلف الناتو، والمستشار البارز السابق في الشؤون الروسية والأوراسية للملازم الجنرال “بِن هودجز”، الذي شغل آنذاك منصب قائد الجيش الأميركي في أوروبا. يقول فويغر إن المقال بمثابة خطة تشرح استخدام المرتزقة والمليشيات والتكتيكات السرية، “ليس للفوز في حرب على جيش الولايات المتحدة أو أوروبا أو الناتو، بل لسحق الثورات الشعبية، مثل تلك الدائرة في سوريا”. وقد أشاد دفورنيكوف بما أطلق عليه “مجموعة القوة المتكاملة”، وهي خليط من قوات العمليات الخاصة، والجنود غير النظاميين (المرتزقة على الأغلب)، والمليشيات المُكوَّنة من عناصر محلية أو جماعات متحالفة مع بعضها أو مع النظام؛ واصفا الأمر بأنه “حملة عسكرية من النوع الرخيص”.
يلفت النظر هنا عنوان المقال والجهة الناشرة له. ففي عام 2013، نشر “المِرسال العسكري الصناعي الروسي” مقالا بارزا أعده رئيس أركان الجيش الروسي “فاليري فاسيلفتش غراسيموف”، شرح فيه مجموعة من مفاهيم الحرب الهجينة التي عُرِفَت فيما بعد بعقيدة غراسيموف. ولكن كما أشار “مارك غاليوتي”، الذي صاغ المصطلح للمرة الأولى، فإن تلك “العقيدة” كما سُميَت لم تكن عقيدة فعلا. فقد كان غراسيموف يعبّر عن اعتقاده بأن الحرب الهجينة، وعمليات الاختراق الإستراتيجي للشخصيات السياسية المعادية لطرف ما، وتسريب بياناتها؛ جزء من الطريقة التي استخدمتها الولايات المتحدة للإطاحة بحكومات أو للتحكم بها، ولم يقم غراسيموف هنا سوى بحثّ الجيش الروسي على الاقتداء بالولايات المتحدة.
على غرار ذلك، يرى دفورنيكوف أن الولايات المتحدة كانت رائدة بشأن “التشكيلات المتكاملة” في يوغوسلافيا والعراق بوصفها طريقا للإطاحة بالحكومات، وكتب عن ذلك قائلا: “إننا نشهد السيناريو ذاته تقريبا في كل مكان…، إلا أنه بالمقارنة مع صراعات القرن الماضي، التي شاركت فيها تشكيلات القوات البرية للمعتدي مباشرة في العمليات الميدانية، فقد جرى التركيز تماما على تحقيق الأهداف باستخدام تشكيلات متكاملة متخفِّية جيدا”. ويستطرد دفورنيكوف: “شُكِّلت مثل هذه الجماعات على أساس المفهوم المحلي لمبدأ المعارضة، والانقسامات القومية والطائفية، عن طريق تنظيم الجنود غير النظاميين والمليشيات الشعبية في وحدات قادرة على التلاحم في تشكيلات أكبر حجما تحت قيادة ودعم قوات العمليات الخاصة والشركات العسكرية الخاصة التابعة للدول الأخرى”.
ويشرح دفورنيكوف كيفية استخدام روسيا للقوات المتكاملة لدعم نظام الأسد منذ عام 2015، حيث ذكر في مقاله: “إن استخدام آلية تجميع القوات في سوريا تمَّ على شكل عملية خاصة ذات هيكلية معقدة”. ويشير فويغر إلى أن دفورنيكوف يستخف بالجيش السوري، ما يشير إلى أن المقال لم يكن الغرض (الوحيد) منه رسم صورة مزيفة حول استقرار النظام. وذكر فويغر: “إنها مقالة تحليلية حقيقية تتحدث عن نقاط الضعف، والمشكلات، إلخ، وليست مجرد شكل من أشكال التضليل المعلوماتي…، لربما يبالغ [دفورنيكوف] هنا أو هناك من حيث النجاحات المتحققة [بواسطة الروس]، لكنه مع ذلك يتحدث بصراحة عن المشكلات الكثيرة التي تخطاها [الجيش الروسي]، ما يُبرز لنا مسألة مهمة”.
الثورات المضادة.. مُلوَّنة أيضا
إذن، ما هي وظيفة قوات دفورنيكوف المتكاملة تلك؟ يشير الرجل في ذلك إلى أدوار محددة في نقاط متماسكة تتضمن “شن الهجمات التي تهدف إلى خفض القدرات الاقتصادية لدى العدو”، ما يعني تدمير الشركات المدنية أو تلك التي ربما تساعد في تمويل العناصر المناهضة للنظام. و”بث المعلومات الحية والاستهداف النفسي للمقاتلين بغرض التأثير في الحالة المعنوية والنفسية”، والمقصود بها عمليات نشر المعلومات الموجهة والمضللة. بالإضافة إلى “أنشطة قتالية عالية المناورة تقوم بها جماعات من القوات [الجنود] المستقلة في اتجاهات متعددة”. ويستطرد دفورنيكوف مشيرا إلى مختلف أساليب حرب العصابات، مثل “الاستخدام الواسع للممرّات تحت الأرض، والأنفاق والاتصالات، ومعدات البناء” لمهاجمة مواقع الثوار في الأحياء الحضرية، بالإضافة إلى “استخدام وحدات متحركة تستقل شاحنات دفع رباعي تعرف باسم تشانكا” لنصب الكمائن والهروب السريع.
تدعم هذه الوحدات قوات العمليات الخاصة التقليدية في مهمتها لحماية أصول وممتلكات النظام بطرق متعددة، بحسب ما ذكر دفورنيكوف، ويتضمن ذلك “أنشطة قتالية تهدف إلى تدمير الوحدات الأخطر”، و”حماية مواقع البنية التحتية المهمة والطرق الرئيسية”، و”الأنشطة القتالية التي مكَّنت القوات المسلحة في عملياتها لإطلاق النار باستخدام البيانات الاستخباراتية، و(حماية حدود الدولة)”.
يقول فويغر إن دفورنيكوف يهدف إلى تحويل ما فعله الروس في سوريا إلى نموذج يحتذى به في مواجهة التحديات الأمنية في المستقبل: “عندما ظهر الروس في فنزويلا -وعددهم 100 جندي يقودهم جنرال ذو رتبة رفيعة في القوات البرية- كانوا يحاولون استنساخ أمر مشابه”. وبحسب فويغر فإن دفورنيكوف ينوي أن يعرض على الحكام المستبدين جماعات القوات المتكاملة الروسية تقريبا مثلما يُسوِّق أي مقاول مرآب سيارات متطور أو ما شابه لصاحب منزل كي يشتريه. وبمجرد تثبيت النظام ستعمل الماكينة أوتوماتيكيا بأقل قدر من التدخل.
ويتساءل فويغر مستنكرا: “ما الذي خلَّفه (الروس) وراءهم” في فنزويلا؟ هل دشنوا نظاما من نوع ما يتم تفعيله في حال تدهورت الأوضاع؟ من الواضح أنه لم تندلع حرب أهلية هناك بعد، وربما لن تندلع من الأساس، ما يعني أنه، في هذه الحالة، وبمجرد ظهورهم هناك ووضع هذا النموذج، فإنه بذلك يعطي للنظام شكلا من أشكال آلية التدخل السريع الهجينة التي أظهرت للمعارضة أنه ما من فرصة لتحقيق الانتصار، إنهم واقعيا يستَبِقون الصراع، ومن ثمَّ يفوزون عن طريق تفادي الحرب الأهلية”.
عقيدة غراسيموف ونموذج فاغنر
لا يشير دفورنيكوف مباشرة إلى قوات المرتزقة الروسية بالاسم، بل فقط يطلق عليها “الشركات العسكرية الخاصة”، بيد أن فويغر يقول إنها “تلعب دورا حيويا”. ولا تتوفر الكثير من المعلومات حول مجموعة فاغنر السرية باستثناء أنها سميت تيمُّنا بشارة تعريف مؤسسها، المُقدِّم “ديمتري يوتكين” التابع لمديرية المخابرات الرئيسية الروسية، كما يُعرَف أنها ممولة جزئيا، على الأقل، بواسطة “يفغيني فيكتوروفيتش بريغوجين”، أحد محاسيب بوتين المفروض عليه عقوبات أميركية. لقد لعب هؤلاء المرتزقة دورا رئيسيا في التدخل الروسي في أوكرانيا عام 2014 بالإضافة إلى أنشطة المجموعة في سوريا. وبحسب ما نشره موقع “فونتانكا” الإخباري الروسي، فإن المجموعة تُجنِّد المقاتلين عن طريق عرض راتب شهري يُقدَّر بـ250 ألف روبل روسي (4 آلاف دولار أميركي)، وهو أعلى بكثير مما يتقاضاه الجندي الروسي الشاب نفسه. بيد أن المخاطر حقيقية، إذ يُعتقَد أن العشرات من المرتزقة لقوا حتفهم على أيدي القوات الأميركية في فبراير/شباط 2018 عندما شنوا هجوما على موقع للمعارضة المسلحة السورية حيث كانت تتمركز قوات أميركية.
في مرحلة ما، كان هناك ما يُقدَّر بألفي مقاتل تابع لمجموعة فاغنر في سوريا، بحسب ما نشرته “فونتانكا”. وكان لمرتزقة فاغنر في سوريا دورَين رئيسيَّين، بحسب ما ذكره “ناثانيال رينولدز” في ورقة بحثية صدرت مؤخرا عن مؤسسة كارنيغي قال فيها: “ركزت مجموعة فاغنر، من جهة، على السيطرة والدفاع عن أصول البترول والغاز، التي يملك بريغوجين فيها حصة حاليا. ومن جهة أخرى، كانت فاغنر أداة في يد الكرملين، واستخدمتها موسكو لدعم أهداف عسكرية أوسع، إذ قاتل المرتزقة جنبا إلى جنب في صفوف قوات الأسد في معارك رئيسية. وقد تردَّد عن بريغوجين، المعروف بإنفاقه غير السخي على مشروعاته، أنه سلَّح المرتزقة بأسلحة دون المستوى، وبمعدات غير ثقيلة ولا متطورة. كما يُعتقَد أن رواتب المقاتلين انخفضت بمرور الوقت”.
يطلق فويغر على هؤلاء المقاتلين اسم “عَلَف المدافع”، مُوضِّحا: “وربما لهذا السبب تُرِكوا في الصحراء في مواجهة الجنود الأميركيين في ربيع عام 2018، ليتم تدميرهم إذ يعتبرونهم قابلين للاستهلاك والاستبدال. أو لعل هناك تكهُّن بنوع من التوتر، أو حتى العداء، بين الجيش النظامي والمرتزقة (دفع الأول للتضحية بالأخير في تلك اللحظة)، وهو أمر ممكن أيضا”. وسواء كانوا علفا للمدافع فعلا أم لا، فإنهم مُفيدون للغاية بالنسبة لنظام يُعير قليلا من الاهتمام لحقوق الإنسان، ولديه طموحات متزايدة لتشكيل تحالفات مع أنظمة استبدادية أخرى لديها التوجه ذاته.
“تحت مظلة الحرب السرية العريضة، قد تستخدم موسكو فاغنر بطرق متعددة؛ لشن توغُّل محدود الأهداف في بلد مجاور، أو لتدريب قوات بالوكالة لزعزعة حكومة موالية للغرب، أو لإخفاء وجود سري للجيش الروسي”. بهذه الكلمات يبدو أن دفورنيكوف يُرجِّح أن المجموعة ستقوم بدور جوهري آخر في السنوات المقبلة، وهو سحق الانتفاضات التي تندلع ضد حلفاء نظام بوتين.
————————————————————————
هذا المقال مترجم عن Defense One ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
ترجمة: هدير عبد العظيم.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.