يشهد العالم سباقا من نوع جديد يمكن أن يؤثر على مستقبل البشرية، تتنافس فيه دول كبرى مثل أميركا والصين وروسيا على تطوير نظم الذكاء الاصطناعي، وإعادة النظر في موازين القوة سيعتمد على نتائج هذا السباق، فأين يمكن أن تضع منطقتنا العربية والإسلامية نفسها في هذا السباق؟
في عام 2017، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن “الذكاء الاصطناعي هو المستقبل ليس فقط لروسيا، ولكن للجنس البشري كله، ومن يقود التطوير في هذا المجال سيحكم العالم”. لم يكن حديثه نبوءة من رجل يعرف المستقبل، بل تلميحا من صانع قرار في دولة عظمى يكشف طبيعة السباق الذي بدأ بين القوى الكبرى.
إلغاء توازن القوة العسكرية
هذا السباق محتدم على أرض الواقع، ففي أميركا والصين وأوروبا تشكلت لجان تضم كثيرا من الخبراء، لبحث تأثير تطور الذكاء الاصطناعي على أمنها القومي وسبل الاستفادة منه.
من أهم النتائج التي توصلت لها تقارير لجان مختلفة، أن نظم الذكاء الاصطناعي ستغير أشكال الحروب ووسائلها وأسلحتها، فما حاجة الدول للجيوش والأسلحة التقليدية إن كان يمكن تدمير الدول بالتحكم في تدفق المعلومات، وشلّ قدراتها على التفكير واتخاذ القرارات ومواجهة تحديات عالم جديد تتغير فيه موازين القوي.
في أغسطس/آب 2019، حذر وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر من أن الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى تطوير أسلحة وإستراتيجيات جديدة تكون نتيجتها إلغاء توازن القوة العسكرية، وبعدها شكل الكونغرس لجنة لدراسة تأثير الذكاء الاصطناعي على الأمن القومي الأميركي.
قدمت اللجنة تقريرا في مارس/آذار 2021، اقترحت فيه إستراتيجية لإدارة الصراع وبناء القوة، وعلى إثرها قامت الولايات المتحدة بزيادة الإنفاق على تطوير قدراتها لاستخدام الذكاء الاصطناعي في المجالات العسكرية وصناعة الأسلحة.
وفي المقابل لا تقف الصين ساكنة، بل تنفق بشكل مكثف على تطوير الاستخدام العسكري للذكاء الاصطناعي، وهو ما يدفع الأميركيين إلى القلق، فالصين تستخدم علماءها وخبراءها لتطوير حروب المستقبل وأدواتها، وهذا يهدد التفوق العسكري الأميركي.
ويزيد من قلق الولايات المتحدة أن النظم التعليمية الصينية تفوقت في تعليم الرياضيات، وفي تدريب الخبراء، وهو ما أشارت إليه تقارير لجان أميركية تحدثت عن مفهوم “فجوة الابتكار” بين البلدين لصالح الصين، ولهذا كله اعتبر الرئيس الأميركي جو بايدن أن مستقبل العلاقة مع الصين ستحكمه المنافسة الحادة.
الذكاء الاصطناعي والقوة الاقتصادية
أثر نظم الذكاء الاصطناعي لا يتوقف على القوة العسكرية، بل سيمتد إلى كل المجالات وعلى رأسها الاقتصاد، ويمكن القول إن مستقبل الاقتصاد العالمي سيتحدد في ضوء نتائج السباق في تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي سيصل حجم الانفاق عليها إلى 13 تريليون دولار حتى عام 2030.
أشارت التقارير إلى أن الصين تمكّنت من استخدام نظم الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات المستهلكين، والتنبوء بسلوكهم في الإنفاق، وهذا يوفر ميزات نسبية لمنتجاتها.
وفي المقابل، فإن الشركات الأميركية الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت وأمازون وفيسبوك وآبل، تتمتع أيضا بمميزات نسبية خاصة في هذا المجال، لكن ما موقف الكثير من الشركات الصغيرة، والأسواق التي لا تجد غطاء من نظم الذكاء الاصطناعي يعمل لحسابها؟ هل يمكن أن تنجح هذه الشركات والأسواق في الصمود أمام التحديات الجديدة أم ستضطر إلى التوقف أو الاندماج في الشركات الكبرى، مما يبشر بأزمات اقتصادية كبرى؟
قائمة المخاطر المحتملة للذكاء الاصطناعي تتضمن احتمالات مواجهات عسكرية وفقدان للسيادة وحروب أهلية… إلخ، فماذا أعدت المنطقة لمواجهة كل ذلك؟
الاتحاد الأوروبي هو أحد تلك الجهات القلقة من المستقبل، فاللجان التي شكلها حذرت من خطورة المنافسة في مجال الذكاء الاصطناعي على سيادة الدول الأوروبية والتحكم فيها.
وأشار أحد التقارير إلى ما أسماه بمفهوم “السيادة الرقمية” الذي سيؤدي إلى إعادة توزيع القوة بين الدول، وإعادة تشكيل العلاقات الدولية.
وفي عام 2020، تم عقد مؤتمر ميونخ للأمن الذي عبرت فيه الدول الأوروبية عن حيرتها في مواجهة التحديات التي يفرضها تطور الذكاء الاصطناعي، والدور الذي يمكن أن تلعبه في الصراع.
أشار المؤتمر إلى ضعف أوروبا في مجال الذكاء الاصطناعي، وعدم قدرتها على منافسة أميركا والصين، وأنها يصعب أن تكون لاعبا أساسيا في “هندسة البيانات” لعدم قدرتها على توفير التمويل اللازم لتطوير نظمها المعلوماتية، وهذا سيؤثر على كل الصناعات الأوروبية.
مفهوم آخر مثير للقلق أشارت له التقارير الأوروبية في مجال الذكاء الاصطناعي، هو “القومية السيبرانية”، إذ تخشى هذه الدول أن يتيح استخدام الذكاء الاصطناعي في تبادل مجموعات من سكانها معلومات قد تثير لديهم رغبة في أن يؤسسوا لأنفسهم قومية جديدة تميزهم عن دولهم، وربما تبعث الرغبة في تشكيل دول جديدة، مما قد يثير حروبا أهلية.
التقرير يشير إلى تعدد اللغات داخل الاتحاد الأوروبي باعتباره عقبة أمام تطوير قدرات أوروبا في مجال الذكاء الاصطناعي، وإلى مخاوف من خطر استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة جبارة للدعاية السياسية السوداء، تغرق الجماهير المستهدفة بمعلومات غير حقيقية. وإذا كانت الصين قد نجحت قبل تطوير نظم الذكاء الاصطناعي في تشكيل جيش من الحسابات الزائفة عبر “تويتر” لنشر دعايتها، فكيف ستكون الحال في المستقبل؟!
مستقبل المنطقة
ولنترك هؤلاء جميعا لنعود إلى منطقتنا التي تواجه خطرا جديدا لا يقل خطورة عما واجهته قبل ذلك بل يزيد، وقد رأينا في السطور الماضية أن قائمة المخاوف تتضمن احتمالات حروب عسكرية وفقدان للسيادة وحروب أهلية… إلخ، فماذا أعدت لمواجهة كل ذلك؟
إذا استمر النهج الذي يستخدم التكنولوجيا (ونظم الذكاء الصناعي المستوردة) ليراقب المواطن ويعد عليه أنفاسه ويحاصر إبداعاته ويكبل المجتمع العلمي، فنحن إزاء خطر الخروج من التاريخ، ولكن إذا قررنا استخدام مواردنا البشرية والعلمية، وهي كثيرة، فربما نستطيع أن نجد لأنفسنا موقعا على خارطة النفوذ والتأثير، لأنّ المورد الأساسي الذي يقود التطوير في هذا المجال سيظل هو المورد البشري الذي يحظى بالدعم والحماية وحرية الحركة والتفكير.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.