نابلس ـ بينما لم تجف دماء شهداء مخيم عسكر عبد الفتاح خروشة وحسن قطناني ومعاذ المصري بعد، تحاكم سلطات الاحتلال الإسرائيلي في سجونها الطفل إبراهيم الزُمر (15 عاما) ابن المخيم الذي اعتقلته قبل أكثر من أسبوعين مدّعية تنفيذه عملية فدائية في حي الشيخ جراح بالقدس وجرح مستوطنين اثنين.
ومن القدس عاد الطفل الزمر إلى مخيمه عسكر، ومارس حياته بشكل طبيعي بين أقرانه في مدرسته، إلى أن اقتحم الاحتلال الإسرائيلي مخيمه واعتقله من هناك بعد ساعات من المطاردة وتتبّع الصور التي التقطتها الكاميرات، وليقول إنه حقق إنجازا كبيرا باعتقاله.
ولم تكن عملية الطفل الزمر إلا واحدة من 3 عمليات فدائية خرجت من مخيم عسكر وحده منذ بداية العام الجاري فقط، فالأولى نفذها الشهيد عبد الفتاح خروشة (49 عاما) أواخر فبراير/شباط الماضي وقتل مستوطنين شقيقين في قرية حوارة جنوبي نابلس، والثانية نفذها حسن قطناني ومعاذ المصري قبل شهر من الآن وقتلا 3 مستوطِنات في منطقة جسر الحمرا بالأغوار الوسطى شرقي نابلس وعرفت “بعملية الأغوار”.
وعلى الرغم من تأخر حالة المقاومة التي امتدت في مختلف مناطق الضفة الغربية لا سيما مخيماتها منذ نحو عامين، فإن تلك العمليات المقاومة التي خرجت من مخيم عسكر وصفت “بالنوعية”، إذ قتل بها 5 مستوطنين وجرح اثنان آخران، والأهم أنها فتحت الباب مشرعا على عمل مقاوم ومتصاعد يوميا.
المخيم عنوان القضية
في عام 1950 أقيم مخيم عسكر للاجئين الفلسطينيين شرقي نابلس على مساحة محددة بـ110 دونمات (الدونم يساوي ألف متر مربع) ليصبح واحدا من 22 مخيما تقام في الضفة الغربية و8 أخرى في قطاع غزة، وارتقى 94 شهيدا من أبنائه، ويعتقل الاحتلال 40 أسيرا.
وعكست أحداث مخيم عسكر حالة مقاومة تشعلها المخيمات الفلسطينية عموما، والتي ظهرت أكثر في مخيم جنين الذي استنسخت تجربته الأخيرة مخيمات كثيرة بتشكيل الكتائب المقاومة وإطلاق المسميات المختلفة عليها.
ويقول الباحث والناشط في مخيم عسكر رضوان قطناني إن المخيمات تعد صورة مصغرة للقضية الفلسطينية وعنوانها، كما أن الهوية الفلسطينية المعاصرة تكونت نتيجة لحالة الشتات التي عاشها الفلسطينيون والتي كان لها أثرها بخلاف حالة الوعي الكبير من الفعل والممارسة.
والأهم برأي قطناني أن المخيمات أثر من آثار النكبة والشاهد الحي على العدوان الإسرائيلي وتعيشه واقعا يوميا، وهو ما يستدعي وعيا كبيرا لدى المهجّر بأنه لا بد من فعل شيء يغير الحال السيئ الذي يعيشه ويعيده لأرضه وبلده، “ولذا ستظل جذوة المقاومة حية ومتقدة ما دامت قضية المخيمات حية، فالمخيمات ليست إلا محطة انتظار للعودة إلى حيفا ويافا وعكا”.
ويقول قطناني “إن المراهنة اليوم على هذا الجيل في ظل حالة الوعي الوطني باتت أكبر وتتجاوز موضوع الترهل السياسي دون تجاوز البنى القديمة بالضرورة”.
وللظروف الديمغرافية والجغرافية والاكتظاظ السكاني والبنائي والحياة الاقتصادية والاجتماعية في المخيمات أثرها في خلق حالة التثوير الدائمة في المخيمات، وهي على الرغم من أنها عوامل قهر للاجئ فإنها أوجدت من المخيم حاضنة للمقاومة.
مخيم جنين نموذجا
ويذهب الناشط في العمل الجماهيري بمخيم جنين شامي الشامي إلى تأكيد ذلك، ويقول إن مخيم جنين شكّل وما زال حاضنة معنوية وشعبية ووحدة لكل الفصائل مسلحة أو غير ذلك، وإن أي دعم خارجي أو مادي محكوم عليه بالفشل ما لم يحظ بدعم محلي.
ويضيف الشامي -للجزيرة نت- أن هناك تواصلا في العمل المقاوم داخل المخيمات، ويضرب مثالا بمخيم جنين الذي بدأ نضاله منذ عام 1967، وتلا ذلك انتفاضة الأقصى ومعركة المخيم خلال اجتياحه عام 2002، حيث لا تزال الأجيال المولودة آنذاك تعيش آثار تلك الأحداث، “فقد علقت في أذهانهم أطفالا وصاروا يعايشونها مع كل صورة لشهيد أو تحرر أسير أو شعارات العودة التي خطّت على الجدران”.
وثمة عامل آخر فوق ذلك كله يتمثل بالوحدة العسكرية والشعبية بين الفصائل في المخيم، وهذا تحديدا ميَّز المقاومة فيه وجعلها نموذجا وقدوة لمواقع أخرى.
وارتقى 92 شهيدا في مدينة جنين خلال عامي 2022 و2023، معظمهم من داخل المخيم الذي بات يعيش -وفق الشامي- “حياة المقاومة المستمرة التي تتوارثها الأجيال”، ويقول إن “الأهالي باتوا يتقبلون أبناءهم شهداء وأسرى ويرفضون أي سلوك غير وطني لهم”.
وعي جمعي يولد ثورة
ويتفق جمال حويل المحلل السياسي وأحد قادة انتفاضة الأقصى في مخيم جنين مع ذهب إليه قطناني والشامي في أن تشابه ظروف المخيمات في الداخل والخارج وتشاركها بالبعد الاجتماعي والاقتصادي وحالة اللجوء وكذلك المصير المشترك والعدو المشترك جميعها عوامل شكلت حالة من الوعي الجمعي والثوري بالمواجهة والمقاومة.
ويقول حويل -للجزيرة نت- إن وجود مخيمات يعني أن هناك 6 ملايين فلسطيني شردهم الاحتلال وطردهم من أرضهم وأن أكثر من 500 قرية وبلدة هجَّرها “وأن كل أولئك المهجرين هدفهم واحد؛ هو أننا لجأنا مرة واحدة ولن نكرر اللجوء إلا إلى حيفا ويافا”.
وتساعد على ذلك حالة الوحدة التي تخلقها المخيمات برأي حويل، ويقول إن حالة اللجوء هي أكبر مُحرِّض للاستمرار بالمقاومة، وإن المخيمات ستبقى “خزان الثورة الذي لا ينضب مهما مورس عليها من قمع واحتواء وترغيب وترهيب”.
أما مدير مركز “مسارات للبحوث والدراسات” هاني المصري فرأى أن المخيمات طالما كانت قاعدة للثورات والمقاومة ومولدا للانتقام، وأن ذلك مردّه إلى الشعور بالغبن وعدم تحقيق الانتصار وعدم تساويه مع حجم التضحيات المبذولة.
مفجرة الثورات
وشكلت المخيمات منذ بداية تشييد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) لها عقب النكبة عام 1948 بالضفة الغربية وغزة والشتات عنوانا للصمود والثورة، وتمثلت مشاركتها في العمل المسلح والاحتجاج بالإضراب والإغلاقات وغير ذلك في الانتفاضتين الأولى عام 1987 والثانية عام 2000، وكان الشباب الذين شكلوا أكثر من 60% من سكان المخيمات وقود تلك الانتفاضات بخاصة الأولى.
وفجَّر مخيم جباليا بقطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى عام 1987، وبالتاريخ نفسه تبعه مخيم بلاطة بنابلس، الذي نفَّذ فيه الاحتلال أول عملية إبعاد للأسير حسام خضر.
وإبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان خاضت المخيمات الفلسطينية أشرس المعارك مع العدو الإسرائيلي، وأغلب العمليات الفدائية من خارج حدود الوطن كانت تنطلق من مخيمات اللاجئين في لبنان وسوريا والأردن، وفي انتفاضة الأقصى عام 2000 كانت المخيمات في الضفة الغربية وقطاع غزة منطلقا وقواعد ينطلق منها المقاومون، وعلى إثر ذلك اجتاح الاحتلال الإسرائيلي مخيمي بلاطة وجنين.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.