أهلا بك، طبعا أنت تتوقع أن نتحدث عن هازار وبيل وكوتينيو وبوغبا وغيرهم، والمدللين الذين يتقاضون ثمن كل أحلامك أسبوعيا مقابل الجلوس على الدكة أو تغيير قصة الشعر كل 5 دقائق، ونعدك أننا سنتحدث عن ذلك كله، ولكن دعنا نسألك سؤالا مهما أولا: هل ترى تلك الرسمة؟
طاولتان يبدو أنهما من تصميم نجّار عمره 5 سنوات. طبعا أنت تعلم ما سنقوله الآن؛ هاتان الطاولتان منتظمتان تماما، وزوايا ضلوعهما قائمة، والأهم على الإطلاق أن حجمهما وأبعاد كل منهما متساوية بالضبط. (1) (2)
90% إيمان.. 53% فرصة
المكان هو مؤتمر شركة الإحصائيات الشهيرة ستاتسبومب (Statsbomb) السنوي، والتاريخ هو عام 2021، والحدث هو كلمة إيان غراهام مدير قسم علوم البيانات بليفربول، والرجل الذي يُنسب له قدر لا بأس به من نجاح النادي في الأعوام الأخيرة. الكلمة عن منهجية التعاقدات في سوق الانتقالات، والمفاجأة هي طاولتان من نوع مختلف، أو بالأحرى؛ 6 طاولات. (3)
غراهام، الحاصل على درجة الدكتوراه في الفيزياء النظرية من جامعة كامبريدج، الذي يشجع ليفربول منذ طفولته بالمناسبة، يعتقد أن هناك 6 عوامل رئيسية قد تتسبب في فشل أي تعاقد جديد لأي نادٍ:
- 1- اللاعب نفسه ليس بالجودة التي تظنها.
- 2- إمكانيات اللاعب لا تناسب أسلوب لعب الفريق.
- 3- المدرب ليس معجبا باللاعب.
- 4- اللاعب يعاني مع الإصابات أو/و المشكلات الشخصية.
- 5- اللاعب لا يلعب في مركزه الأصلي أو مركز مناسب لإمكانياته.
- 6- هناك لاعب أفضل منه متاح في السوق بالفعل.
يمكنك أن تلاحظ بسهولة الحكمة في اختيار الألفاظ والكلمات في العامل الثالث على سبيل المثال: المدرب ليس معجبا باللاعب. هذا لا يعني بالضرورة أن اللاعب ليس مثيرا للإعجاب، بل ربما يكون السبب شخصيا أو اجتماعيا، وحينها قد تضطر للاختيار بين مدرب ناجح، يحظى بعلاقة جيدة مع كل لاعبيه تقريبا، مثل كلوب، وبين المخاطرة بكل ذلك لأجل لاعب واحد. (3)
كل ما سبق بديهي ولا يحتاج إلى مؤتمر سنوي أو شركة إحصائيات أو دكتوراه من كامبريدج. ما هو ليس كذلك هو أن غراهام يخبرك أنه لو كانت درجة تأكدك من كل عامل من العوامل الستة تصل إلى 90%، وهي حالة شديدة الندرة في تعاقدات كرة القدم، فإن هذا يمنحك احتمالية نجاح لا تجاوز 53% طبقا لقانون الاحتمالات البسيط. (3)
لا بد أن كل الموجودين في القاعة صمتوا حينها، باستثناء علماء البيانات طبعا؛ هذا يعني ببساطة أن النجاح في سوق الانتقالات مستحيل نظريا، مع العلم أن أغلب الأندية لا تتبع هذه المنهجية أصلا، وحتى لو كانت تتبعها، فهي لا تصل إلى هذه الدرجة من التأكد قبل إبرام الصفقة.
34% نجاح.. 66% فشل
اللفظة المفتاحية فيما سبق هي “نظريا”، لأن الأمر مختلف كليا على المستوى العملي؛ في العام الماضي مثلا، قام الصحفي الإيطالي غابرييل ماركوتّي بتتبع الصفقات الكبيرة في الدوريات الخمس الكبرى منذ عام 2010، وبمساعدة مؤسسة “تونتي فِرست كلاب” (Twenty First Club) لعلوم البيانات واستشارات كرة القدم، قام بوضع معايير بسيطة لتحديد الصفقات الكبيرة أولا، ثم الحكم على مدى نجاحها ثانيا. (4)
أحصى ماركوتّي 73 صفقة كبيرة منذ 2010، و”صفقة كبيرة” هنا تعني أن سعرها تجاوز 50 مليون يورو، وكان معيار نجاح كلٍّ منها هو نسبة دقائق اللعب في الدوري منذ إتمام التعاقد، ووقع الاختيار على 70% من الدقائق كحد أدنى لاعتبارها صفقة ناجحة، وهو طبعا حد متساهل جدا.
ولأنه معيار متساهل جدا، جاء -صدِّق أو لا تُصدِّق- برشلونة في مقدمة الأندية الناجحة في سوق الانتقالات بخمس صفقات كبيرة ناجحة منذ 2010 بعد اعتبار نيمار ولويس سواريز وفرينكي دي يونغ وأنطوان غريزمان وفيرّان تورّيس صفقات ناجحة لأنها شاركت في 70% من الدقائق أو ما يجاوزها منذ انضمامها.
هذا المعيار ليس متساهلا وحسب، بل على الأغلب هو شديد السطحية كذلك، ليس فقط لأن غريزمان تحول إلى بديل يتقاضى أجرا خياليا ويبحث النادي عن التخلص منه بأي طريقة، وليس فقط لأن تورّيس تبعه إلى مصير مشابه لاحقا، بل أيضا لأن المعيار لم يضع في اعتباره أي عوامل أخرى، مثل تراكم الديون على برشلونة في تلك الفترة بسبب الصفقات ذاتها، أو حقيقة أن إرنستو فالفيردي، مدربه آنذاك، أُجبر عمليا على إشراك هذه الصفقات في تشكيله، أو مدى الإضافة التي قدمتها تلك الصفقات بعد مشاركتها فعلا، ونحو 32847650 متغير آخر لا يمكن استنتاجه من نسبة دقائق المشاركة فقط. دعنا نخبرك مثلا أن ماغواير كان من ضمن هؤلاء الذين جاوزوا نسبة 70% من دقائق اللعب لحظة كتابة ماركوتّي لتحليله، بينما فشل كيفن دي بروين في تحقيق النسبة ذاتها منذ انضمامه إلى سيتي في 2015.
Sky Sports News viewers have been picking their transfer window XI… Have they made the right calls for this side? ?? pic.twitter.com/3CI3NNDVq8
— Sky Sports News (@SkySportsNews) August 5, 2022
العكس تقريبا وقع مع صفقات أخرى ناجحة لم يلتقطها معيار ماركوتّي، إما لأنها لم تكن قد حصلت على وقت كافٍ للتأقلم، مثل ميليتاو في ريال مدريد، وأوسيمين في نابولي، الذي أصبح هداف الدوري في الموسم التالي لتقرير ماركوتّي، أو لأن الفريق كان يملك عددا كبيرا من الخيارات الإضافية، مثل برناردو سيلفا وجواو كانسيلو ورياض محرز في سيتي، وكلها صفقات اعتبرها المعيار فاشلة، أو لأن أغراض الصفقة ذاتها لم يكن لها علاقة بكرة القدم أصلا، مثل بيانيتش في برشلونة، وبالتالي لم يكن الحكم عليها من منظور دقائق اللعب دقيقا. في الواقع، لم يكن ماركوتّي ليجد معيارا منطقيا ليقيس به نجاح صفقة تبادل أرتور ببيانيتش مهما بحث.
لذلك، لم يكن هذا هو الاكتشاف الأهم في محاولة ماركوتّي، بل حقيقة أنه حتى بالأخذ بمعايير شديدة التساهل والسطحية كتلك، لم تجاوز نسبة الصفقات الكبيرة الناجحة 34% من 73 صفقة أبرمتها أندية الدوريات الخمس الكبرى منذ 2010؛ 13 مهاجما، و4 لاعبي وسط، وحارس مرمى واحد تعرفه غالبا.
في الواقع، نحن لا نحتاج إلى العودة إلى 2010؛ منذ أشهر، وتحديدا في يناير/كانون الثاني الماضي، أصدرت مؤسسة “ديلويت” (Deloitte) الاقتصادية تقريرا مرعبا عن إنفاق أندية البريميرليغ في سوق الانتقالات الشتوي، تجاوز فيه تشيلسي منفردا (280 مليون جنيه إسترليني) إجمالي ما أنفقته الليغا الإسبانية والسيري آ الإيطالية والبوندسليغا الألمانية مجتمعين، وحتى الأندية الصغيرة مثل ليدز وساوثامبتون أتمت تعاقدات كبيرة نسبيا مثل جورجينيو راتّر من هوفنهايم الألماني وكمال الدين سليمانا من رِن الفرنسي مقابل 35 و22 مليون جنيه إسترليني على الترتيب. (5)
الأول لم يشارك كثيرا، والثاني لم يسجل هدفا واحدا في مسيرة ساوثامبتون الحتمية نحو التشامبيونشيب، وعموما، البريميرليغ قد يكون أحد أسوأ الأمثلة في هذا السياق. طبعا هو أصبح المثال الوحيد تقريبا في الأعوام الأخيرة في هذا السياق، نظرا لتراجع قدرة عملاقي إسبانيا وكبار إيطاليا على الإنفاق، ولكن دعنا نقل لك إنه لا شيء سيخلصك من مشاعر الندم نهائيا وبلا رجعة على أي فعلة ارتكبتها في حياتك مثل قائمة أغلى 10 تعاقدات في تاريخ البريميرليغ.
100% رؤية.. 0% إدراك
المفارقة أن القائمة السابقة تعيدك لنسبة الـ53% التي اقترحها غراهام في كلمته. هذه هي تقريبا نسبة الصفقات الناجحة من أغلى 10 في تاريخ البريميرليغ، طبعا مع التسليم بملاحظتين مهمتين؛ الأولى هي أن تلك النسبة قد ترتفع أو تنخفض طبقا لعروض أمثال أنتوني وإنزو فيرنانديز وسانشو المستقبلية، والثانية أن بعضها لم يفشل كليا، ولكنه لم يكن على قدر التوقعات، مثل جاك غريليش ولوكاكو في يونايتد.
هل يجعل ذلك الأمر منطقيا؟ الإجابة هي لا. هذه هي المفارقة الثانية؛ أن تقارب النسبتين لم يكن أكثر من مجرد مصادفة، لسبب بسيط واضح، هو أن أغلب تلك الصفقات لم تخضع لمنهجية غراهام أصلا.
لنتخذ صفقة هازارد إلى ريال مدريد مثالا؛ هازارد لاعب ممتاز وكان من أفضل الأجنحة وصُناع اللعب في العالم عند لحظة من اللحظات، ولكن منطقيا، لم يكن هناك أي رسم تكتيكي يمكنه استيعابه رفقة بنزيما وفينيسيوس، أو رفقة رونالدو وبنزيما من قبل. هذا شيء يدركه أي مدرب في بداية مسيرته، لأن مساحات نشاط الثلاثي متقاربة، وأدوارهم كذلك في حمل الكرة والهبوط للاستلام والتحكم في مسار اللعب، بينما في الفترة ذاتها كان ريال مدريد يعاني على الجبهة المقابلة في العثور على جناح يمكنه موازنة الأمر بعض الشيء، والتسبب في خطر حقيقي مستمر ومنتظم، دون الإخلال بواجباته الدفاعية.
ما يعنيه هذا هو أن هازارد كان بإمكانه النجاح في ريال مدريد في سياق آخر بظروف أخرى في زمن آخر، وهذه هي بالضبط فكرة طاولتَيْ “اختبار الإدراك” لصاحبه العالم الأميركي روجر شيبارد.
في المقطع التالي يتضح كيف تلاعب شيبارد بالمسافات والمستويات الرأسية التي لا تظهر على الورق ليوحي باختلاف الطاولتين، بينما في الحقيقة، كان الفارق الرئيس في رؤيتنا لهما، وبالتالي إدراكنا لحقيقتهما.
علم المخ والأعصاب يفرّق بين مفهومين لا يميز بينهما أغلب البشر؛ الرؤية، بمعنى النظر إلى الأشياء، والإدراك، بمعنى التعرف على حقيقة تلك الأشياء، والاثنان مختلفان تماما، بالضبط كالاختلاف بين أداء ماغواير في ليستر وأدائه في مانشستر يونايتد. (6) (7) (8)
الأول يضع في اعتباره السياق التكتيكي والفني، وعلاقة اللاعب مع المدرب، ومع زملائه، والمراحل التي يتفوق فيها بالكرة وبدونها، وعشرات العوامل الأخرى التي لا يصح إتمام انتقال بهذا الحجم دون مقارنتها بما سيطلب منه في مانشستر يونايتد.
هذه العملية المنهجية التي يلخصها غراهام في العوامل الستة لم تتم ببساطة، والنتيجة كانت مدافعا أفقيا مربعا بدا -على النقيض- مستطيلا رأسيا، لأن مَن تعاقد معه “رآه” فقط، ولم يبذل جهدا يُذكر في “إدراك” حقيقته.
المشكلة الرئيسة هنا أن محاولة “الإدراك” غالبا ما تقود إلى عوامل تحوم حول كرة القدم باستمرار ولا تبدو منتمية إليها كليا، وهذا هو ما يجعل المديرين الرياضيين والمدربين والمسؤولين الإداريين في الأندية عاجزين عن إدراكها، لأنهم، باعتبارهم لاعبين سابقين على الأغلب، لم يكونوا مهتمين بها، ولم يُجيدوا التعامل معها، وربما كرهوها كما ذُكر في عديد السيَر الذاتية مثل “اللاعب السري” (The Secret Footballer) وغيرها. (9)
100% ترويج.. 0% حماية
على رأس هذه العوامل يأتي العنصر الأكثر تغيرا في الأعوام الأخيرة، وهو ببساطة ووضوح؛ التواصل.
يظهر أثر منصات التواصل الاجتماعي في تغيير النظرة للصفقات الكبيرة، من حقيقة أن هناك فارقا واضحا في نسبة النجاح بين الصفقات التي أعقبت 2010، وتلك التي أُبرمت في التسعينيات ومطلع الألفية.
بالطبع كان هناك عوامل شديدة التأثير في الصفقات الحديثة، أبرزها على الإطلاق كان الأزمات الشخصية والإصابات المتكررة التي أفشلت 18 انتقالا من أصل 48 تمت في العقد الأخير طبقا لتحليل ماركوتّي، ولكن حتى تلك الأزمات والإصابات تحولت مع أثر التواصل المتضخم إلى كرات ثلج تدحرجت حتى اكتسبت أحجاما هائلة دهست كل شيء في طريقها، بما في ذلك قدرة اللاعب على التعافي نفسيا وعضويا، وأداؤه تحت الضغط بعد العودة، بالإضافة إلى المعضلة البديهية التي تأتي مع دفع رقم كبير يضع اللاعب تحت المجهر رغم أنه -عمليا على الأقل- لم يكن له دور كبير فيه. (10) (11)
في الواقع، بعض الصفقات يُحكم عليها بالفشل نتيجة لمنهجية النادي في إبرامها، وفي الأعوام الأخيرة كان أبرزها للمفارقة صفقة الهلع التي أتمها ليفربول في آخر أيام الصيف بضم أرتور ميلو من يوفنتوس، نتيجة لضغط الجمهور الدائم بضرورة التعاقد مع لاعب وسط مبدع يمكنه الإسهام في العمليات الهجومية بشكل أكثر فاعلية من العناصر الحالية.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.