منذ خروج الرصاصة الأولى التي تبادل الطرفان الاتهامات بإطلاقها، تحولت العاصمة السودانية الخرطوم إلى ساحة قتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ومع ارتفاع حصيلة القتلى والجرحى، واشتداد وتيرة المعارك على الأرض، تبدو للجميع حقيقة واضحة أنه لا سلم يلوح في الأفق، وأنه لا أحد يمتلك مفاتيح الحل في السودان، لا الأطراف الدولية التي تدخلت، ولا تلك القوى المدنية التي تعثرت ثورتها التي اندلعت قبل 4 سنوات ووجدت نفسها عالقة بين طرفين يتصارعان على السلطة بقوة السلاح.
لم يدخل الطرفان المتصارعان المفاوضات الأخيرة التي رعتها الولايات المتحدة والسعودية إلا مضطرين بفعل ضغوط خارجية وداخلية، لكن مسار المعارك على الأرض رسم نوايا مسبقة بشأن إطالة أمد القتال، مع الإبقاء على سياسة الباب المفتوح منعا لاستعداء الحلفاء الدوليين، باعتبار أن العلاقة مع واشنطن والرياض (ومن خلفهما سائر القوى الدولية) مهمة لأي طرف يريد إعادة ترميم مسيرته والبقاء في المشهد السياسي. ورغم انهيار 12 هدنة سابقة على الأقل حتى منتصف الشهر الحالي، لا يزال باب الوساطة والتفاوض مفتوحا، ومع ذلك، فإن مؤشرات واضحة على أن أحلام الحسم العسكري لا تزال تراود الطرفين المتصارعين في ضوء الخلافات المتجذرة بينهما.
صراع قديم يتجدد
قبل اندلاع المواجهات المسلحة منتصف أبريل/نيسان الماضي، كان السودان -نظريا- على بُعد خطوات قليلة من استعادة الحكم المدني بعدما اتفق الفرقاء على تشكيل حكومة انتقالية بحلول يوليو/تموز، وذلك خلال الاتفاق الإطاري المُوقَّع في ديسمبر/كانون الأول الماضي. ونص الاتفاق على تشكيل حكومة مدنية لحين إجراء الانتخابات، وتوحيد المؤسسة العسكرية عبر دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وهو الملف الذي أثار حساسية كبيرة بين البرهان (قائد الجيش) وحميدتي (قائد الدعم السريع).
ورغم أن الخلاف الأخير بين الطرفين يعود إلى الانقسام حول رؤية وتنفيذ الاتفاق الإطاري، فإن ما حدث في الكواليس كان أكبر بكثير من مجرد خلاف سياسي عادي. أعاد كل طرف تقديم نفسه وفق سردية خاصة للأحداث، فمن ناحية، كان الجيش، المستند إلى نفوذه الداخلي الراسخ وقوته العسكرية المتفوقة والأهم لوجود عدة قوى إقليمية تحاول الدفع به لواجهة السلطة أو للمشاركة الفاعلة فيها في أدنى الأحوال، يحاول التأكيد على أهميته الكبيرة في الحفاظ على الأمن في السودان، رافضا تمدد قوات حميدتي التي يراها مجرد ميليشيا مسلحة اكتست ثوبا نظاميا. بينما على الجهة الأخرى، يروج حميدتي لنفسه على أنه ذلك الرجل القادم من الهامش لتحدي سيطرة النخب الحضرية على السلطة والثورة، ومنع توطيد ديكتاتورية عسكرية، ومنع من يصفهم بـ”الإسلاميين المتطرفين” من العودة إلى الساحة، في إشارة إلى نظام البشير، وربما قادة الجيش أيضا.
استفاد حميدتي من تلك الصورة الرائجة عن الجيش السوداني الذي أجهض عدة تجارب ديمقراطية، وانقلب مرارا على الرؤساء، ووضع نفسه قسرا في قلب المشهد السياسي على مدار سنوات طوال منذ استقلال السودان عام 1956. ولم ينجح من رجال السياسة والعسكرية في السودان في كسر دائرة هذه الانقلابات المتتالية إلا رجل واحد، وهو الرئيس المخلوع عمر البشير، الذي وصل إلى السلطة بدوره عبر انقلاب عسكري وحكم البلاد طيلة 30 عاما دون أن ينجح في عهده أي انقلاب.
وللحفاظ على عرشه وموازنة نفوذ الجيش، بنى البشير قوات أمنية موازية قوامها الفقراء والأميون وأبناء الطبقات الاجتماعية الفقيرة التي لا تشبه تلك التي تسكن العاصمة الخرطوم وضواحيها. تلك القوات، التي ترك أعضاؤها مهنة الرعي في جبال “كرقوا” بأقصى جنوب غرب دارفور، وينتمي أغلبها إلى قبيلة “المحاميد”، أضحت المكون الرئيس لقوات الدعم السريع التي سرعان ما مثلت تهديدا مباشرا لمركزية الجيش، خاصة أنها شاركته امتلاك القوة العسكرية، وأصبحت قوة مكافئة له بعد حيازتها على اعتراف رسمي في عام 2013، حاز بموجبه قادتها رتبا عسكرية رسمية.
تمكن حميدتي، الذي يشكل القائد الأوحد لهذه القوات، من صعود سلم النفوذ السياسي في السودان منتقلا من صحراء دارفور القاحلة إلى قصر مهيب على ضفاف النيل في العاصمة الخرطوم، وامتلك نفوذا سرعان ما تجاوز حدود السودان بعد حرب اليمن عام 2015، وهي حرب مكّنت حميدتي وقواته من توطيد علاقتهم بكبار القادة المؤثرين في المنطقة العربية. أغرى هذا النفوذ المتزايد حميدتي لتصدر المشهد بعد نشوب التظاهرات ضد البشير، وهو ما وضعه على صفحة واحدة مع الجيش لإنهاء حكم الرئيس السابق.
السياسة بأدوات الحرب
سمحت ترتيبات الانتقال السوداني لحميدتي بتولي منصب سياسي يؤهله للتحدث باسم الدولة السودانية بوصفه نائبا لرئيس المجلس الانتقالي. ولكن مع تقدم المرحلة الانتقالية، تحولت العلاقة بين الجيش والدعم السريع إلى التنافس، وأحيانا الخصومة، وذلك بسبب الخلاف حول عدد من الملفات، وعلى رأسها ملف دمج قوات الدعم السريع في الجيش. فجرت هذه الخلافات الوضع في السودان، وعاد شبح الحرب الأهلية ليسيطر على الأجواء بعدما اختار حميدتي خوض خيار المواجهة، مقررا الاحتفاظ بسطوته عبر خوض صراع عسكري مع الجيش للحفاظ على مكتسباته السياسية وأهمها استقلالية قوات الدعم السريع.
أسهم القتال الممتد منذ إبريل/نيسان الماضي في بيان حقيقة ما يفكر فيه القادة العسكريون على الجهتين. حاول البرهان وحميدتي منذ بداية الاشتباك تحقيق أكبر تقدم ممكن في ميدان المعركة، قبل الوصول إلى هدنة دائمة لوقف إطلاق النار، دون النظر إلى الأعداد المتزايدة من الضحايا في صفوف المدنيين التي بلغت زهاء ألف قتيل، فضلا عن تهديد الحرب للأمن الغذائي لحوالي 15 مليون شخص، أي ما يقارب ثلث عدد سكان السودان الذين باتوا يواجهون شبح المجاعة في ظل النقص الحاد في الغذاء والماء والإمدادات الأساسية.
من وجهة نظر الجيش السوداني، تكمن المعضلة الأكبر ميدانيا في سيطرة قوات الدعم السريع على مناطق واسعة من العاصمة الخرطوم، وفشل الجيش في السيطرة عليها بشكل كامل. ومع احتدام المواجهات، يعتمد الجيش بصورة كبيرة على سلاح الجو والمدفعية الثقيلة والمتوسطة، لكن هذه الإستراتيجية لم تحقق النتائج الحاسمة حتى الآن، بسبب امتلاك قوات الدعم السريع أسلحة مضادة، وعلى رأسها مضادات الطائرات المحمولة فوق السيارات، وهي سلاح خفيف قوات الدعم السريع مرونة في الحركة داخل المدن أربكت الجيش، وإن كان هذا الأمر لم يقد قوات حميدتي إلى تحقيق تفوق عسكري واضح.
في المقابل، تعتمد قوات الدعم السريع على إمداداتها البشرية الكبيرة، وتفوقها في أسلوب مواجهات حرب الشوارع الذي يجعل الجيش أكثر إحجاما عن خوض المعارك المباشرة في المدن، مفضلا إستراتيجية القصف عبر الجو، مع حصار المداخل والمخارج. في النهاية، يجعل هذا المشهد الميداني المعقد تحقيق نصر حاسم بالأدوات العسكرية وحدها أمرا بعيد المنال لكلا الطرفين، ما يترك الدبلوماسية حلا أخيرا يلتجئ إليه الطرفان المتصارعان في نهاية المطاف.
الوسطاء.. ليسوا على قلب رجل واحد
يعد السودان ثالث أكبر دولة إفريقية، وهو يمتلك إطلالة مميزة على البحر الأحمر، ورغم أن أكثر من ثلاثة أرباع السكان يغرقون في فقر مدقع، فإن البلاد تعوم على بحر من الثروات المعدنية، إلى جانب امتلاكها أراض زراعية خصبة. وفي الوقت الذي يمر فيه البلد بمرحلة إعادة تشكيل نظامه السياسي، تريد العديد من القوى المساهمة في صياغة مستقبله بما يخدم مصالحها الإستراتيجية، وهو ما يفسر سبب إقبال الغرب وروسيا بشدة على السودان مثلما تُقبل عليه الدول العربية.
ورغم كثرة الوسطاء الراغبين في القيام بدور في تهدئة الصراع، لا يبدو حتى الآن أن هناك جهة قادرة على تغيير مسار الأحداث وإنهاء الاشتباكات المتصاعدة، أو إقناع الأطراف المتحاربة بالتوقف، لتصبح الصورة أكثر تعقيدا مع إعلان الخارجية السودانية أن فولكر بيرتس، الممثل الخاص للأمم المتحدة أصبحا شخصا غير مرغوب فيه في السودان بسبب مواقفه متحيزة ضد الجيش حسب البيان الذي أصدرته الحكومة.
قبل أن يدب الخلاف بين أقوى مؤسستين في السودان، كان يُنظر إلى القوى العربية، وعلى رأسها مصر والسعودية والإمارات، على أنها تميل بشكل واضح للمكون العسكري بجناحيه، بقيادة البرهان وحميدتي معا، أكثر من القوى المدنية، لكنّ القتال الأخير أعاد ترتيب الأوراق، فبينما لجأت السعودية للعب دور الوساطة ضمن سياستها الجديدة الأوسع لتصفير المشاكل الإقليمية، تشير تقديرات إلى أن الإمارات تنحاز نسبيا -بشكل غير معلن- إلى جانب حميدتي.
على الجانب المقابل، يبدو أن مصر تنحاز إلى جبهة الجيش لأسباب مفهومة، رغم حفاظها على الحياد في التصريحات العلنية. ووفقا لما نشره موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، فإن القاهرة نفذت خلال الأيام الأربعة الأولى من الصراع غارات جوية على قوافل تابعة لقوات الدعم السريع، وهو ما دفع رجال حميدتي لاحتجاز 250 ضابطا وجنديا مصريا، في محاولة للضغط على القاهرة، قبل أن تُحل الأزمة ويُفرج عن الوحدات المصرية في نهاية المطاف.
من جانبها، فإن إثيوبيا، أحد الفاعلين السياسيين الأساسيين في المشهد السوداني بعد البشير، تلتزم سياسة الحياد، خاصة أنها تجمعها علاقات مضطربة مع المكون العسكري بشقيه، وتفضل القوى المدنية المتوافقة مع رؤية أديس أبابا في عدد من الملفات التي من أبرزها إعادة تقييم العلاقات مع مصر، ومنع تشكيل تكتل ضد إثيوبيا فيما يخص قضية سد النهضة المهمة لكل من القاهرة وأديس أبابا على السواء.
على المستوى الدولي الأوسع، تؤدي روسيا والولايات المتحدة أدوارا متناقضة في الداخل السوداني رغم محاولتهما إبداء مسحة من الحياد. تحالفت موسكو في الظل مع حميدتي الذي يمول حربها في أوكرانيا بالذهب، حيث زودت مجموعة فاغنر الروسية في بداية الاقتتال قوات الدعم السريع بصواريخ أرض-جو للمساعدة على تحييد التفوق الجوي للجيش السوداني، بحسب ما نقلته شبكة “سي إن إن” الأميركية عن مصادر سودانية وإقليمية. على الجانب الآخر، ورغم أن الولايات المتحدة لا تقف علنا إلى جانب أحد الأطراف، فإن علاقة حميدتي مع موسكو تثير الريبة في واشنطن، وفي هذا السياق، نقلت صحيفة “التايمز” البريطانية عن مسؤولين أمنيين أن الولايات المتحدة حثت مصر على مساندة ودعم القوات المسلحة السودانية ورئيس المجلس السيادي، عبد الفتاح البرهان، بهدف طرد فاغنر من البلاد ومحاصرة النفوذ الروسي.
يُعقّد تضارب مصالح المكون العسكري، وتناقض أولويات الأطراف الدولية، الصراع الدائر في السودان، خاصة في غياب قوة مكافئة للأطراف المتحاربة يمكنها سحب الموقف إلى طاولة التفاوض. ويزيد انقسام القوى المدنية بين الجيش وقوات الدعم السريع الموقف تعقيدا، وهو ما يعني إخلاء الساحة للمكون العسكري الذي سيقرر مصير السودان بالسلاح، كما حدث سابقا في صفحات عديدة من كتاب تاريخ هذا البلد المثخن بالحروب والدماء.
————————————————————
المصادر:
- الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.. أرقام ومعطيات عن ميزان القوى بين الخصمين
- Analyst: Sudan war caused economic losses of 1.5 billion dollars so far
- Sudan: One-third of population faces acute food insecurity
- بيان قوات الدعم السريع حول نسبة سيطرتها على العاصمة
- Fighting in Sudan in maps, satellite images and video
- Fighting in Sudan: A timeline of key events
- In Sudan, a deadly account of rival forces is a
- As War Rages in Sudan, Countries Angle for Advantage
- حميدتي: ناشطون يكشفون أن صفحته على فيسبوك تدار من دولة الإمارات
- Sudan crisis: What if Hemeti lost the war he started?
- Exclusive: Evidence emerges of Russia’s Wagner arming militia leader battling Sudan’s army
- Sudanese conflict: Who supports rival leaders?
- Sudan fighting: Moscow’s mercenaries accused of fuelling unrest
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.