مقدمة الترجمة
صدر أقدم ضوء نعرفه بعد الانفجار العظيم بنحو 380 ألف سنة، قبل تلك الفترة لم تكن درجات الحرارة العالية تسمح بأن تتكون الذرات الأولى، فقط كنّا أمام حساء جسيمات مبعثرة منعت فوتونات الضوء الأولى من الانطلاق للأمام باتجاهنا في الحاضر، لكن بعد مضي 380 ألف سنة تكوّنت الذرات الأولى وانفكت العتمة، فانطلقت الفوتونات الأولى التي التقطناها بالتلسكوبات الأرضية، وتسمى الآن إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (Microwave Background).
هذا الإشعاع في الحقيقة يعكس صورة الكون حينما كان صغيرا جدا (0.003% من عمره)، لكن العلماء الآن يبحثون عما هو أعمق، يبحثون عن صور تُبيّن ما حدث للكون خلال أول ثانية من عمر الكون. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما الذي يجعل ذلك مهمّا؟ وكيف سيحاول فريق العلماء التقاط تلك الصور؟ “مارتين باوير”، أستاذ الفيزياء المساعد من جامعة دورهام البريطانية، هو واحد ممن يسعون لالتقاط تلك الصور، يجيبنا في هذه المادة من “نيو ساينتست”.
نص الترجمة
فور حدوث الانفجار العظيم، انطلق وابل هائل من الجزيئات يشق طريقه عبر الكون، ومنذ ذلك الحين، ظلت هذه الجزيئات تتدفق عبر الفضاء وتحمل معها أسرار فجر التاريخ الكوني. لطالما كنا أسرى لرغبتنا الجامحة في رصد هذه الجسيمات، لكن لا شيء يضاهي صعوبة الظفر بها، وذلك لأنها تمر بسهولة خلال المادة دون أن تتفاعل معها بأي شكل من الأشكال، والعجيب أن هناك منها نحو 100 تريليون جسيم يتدفق عبر جسمك الآن في كل ثانية، لكنك لن تلاحظ ذلك أبدا.
تُعرف هذه الجسيمات الشبحية التي تعلوها هالة من الغموض باسم النيوترينو، ورغم علمنا بوجودها، يظل من الصعب للغاية اكتشافها. توجد الكثير من التجارب حول العالم التي يمكنها التقاط جزيئات النيوترينو المنبعثة من أشعة الشمس بالاستعانة بمصائد ضخمة مدفونة على بعد أكثر من كيلومتر تحت سطح الأرض، لكن مع ذلك، تتمتع جزيئات النيوترينو -التي انبعثت بعد الانفجار العظيم مباشرة- بطاقة أقل بكثير من تلك التي نتعامل معها حاليا في التجارب الحديثة (باعتبار أن النيوترينو الآن يُطلَق بطاقة أعلى باستخدام مصادر طاقة متطورة)، وقد أثبتت الأبحاث حتى الآن أن اكتشاف تلك النيوترينوات الأولية هو شيء لا ينم عن يُسرٍ أبدا، وربما يكون أقرب إلى المحال.
مكافأة رائعة في انتظارك
قد تتساءل: ما المهم في اكتشاف هذه الجسيمات؟ لكن في الحقيقة ستنتظرك مفاجأة رائعة إذا تمكنا من التعرف عليها أو تحديد موقعها، لقدرتها ببساطة على رسم صورة غير مسبوقة للكون في لحظاته الأولى، أي في فترة زمنية أقدم بمئات الآلاف من السنين مما رأيناه من قبل، وذلك من شأنه أن يغيّر علم الكونيات بأكمله. لعقود من الزمن، تطلبت جهود الكشف عن هذه الجسيمات المراوِغة تقنيات تتجاوز أشد خيالاتنا جموحا، غير أن الأمور تغيّرت الآن وبات لدينا اقتراح حول كيفية رصدها. الفكرة أننا كنا في الماضي ننتظر ببساطة وصول النيوترينوات إلينا، لكن قد توجد طريقة يمكن أن يعوّل عليها لجعل أجهزة الكشف تتسابق نحو هذه الجسيمات.
كل ما نراه اليوم كان قبل مليارات السنوات مضغوطا في مساحة أصغر بكثير، أي أننا لو عدنا إلى المراحل المبكرة من عمر الكون، فسنكتشف أنه كان يتألف حينذاك من حالة بلازمية شديدة السخونة والكثافة تنفصل خلالها أنوية الذرات عن إلكتروناتها، في الوقت الذي استمرت فيه الجسيمات دون الذرية في التشتت عن بعضها بقوة لدرجة أن الذرات لم تتمكن من التشكل دون تفككها فورا. حينها لم يستطع الضوء السفر لمسافات بعيدة لعدم وجود مسارات مفتوحة نتيجة لكثافة البلازما (ولذا كان الكون في ذلك الوقت ضبابيا تماما، ومن خلال توسعه وانخفاض درجة حرارته أصبح بإمكان الذرات الاستقرار وتشكيل العناصر الأولية).
مع استمرار توسع الكون وتبريد البلازما، باتت الأخيرة أقل كثافة وأقل احتمالا لتشتيت الفوتونات أو امتصاصها من قبل جسيمات أخرى. واستمر هذا الوضع حتى وصلنا إلى لحظة حاسمة بعد 380 ألف سنة من الانفجار العظيم، حينذاك تمكنت الفوتونات من الهروب أخيرا. والآن، يمكن للضوء السفر بحرية دون عائق، ولا يزال بإمكاننا رؤية أول الفوتونات التي انطلقت في تلك اللحظة، والتي تشكِّل أقدم ضوء في الكون، والمعروف باسم إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ (CMB).
اكتشف البشر إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ بالصدفة عام 1964، حينما بدأ العالمان الفلكيان “روبرت ويلسون” و”أرنو بنزياس” بتركيب “هوائي البوق” (Horn Antenna) (وهو نوع من الهوائيات اللاسلكية، يتميز بتصميمه الخاص الذي يشبه شكل البوق ويُستخدم لإرسال واستقبال إشارات الراديو وتوجيه الإشعاع بصورة دقيقة)، كانت غاية العالمَين من هذا اللاسلكي هو الكشف عن موجات الراديو الصادرة في وقت مبكر من عمر الكون.
في ذلك الوقت، كانت فكرة الانفجار العظيم بأكملها موضع جدل وحيرة إلى حد كبير، لكن الغريب أنه ظل يتناهى إلى مسامع العالمين عبر أجهزة التلسكوب إشارة خلفية مستمرة غامضة ومحيّرة قادمة من جميع الاتجاهات ليلا ونهارا، وحتى بعد مراعاة جميع المصادر المحتملة للضوضاء ظلت الإشارة مستمرة بلا توقف، في النهاية اهتدى العالِمان إلى المصدر وأدركا أن ما كان يحيِّرهما إلى هذا الحد هو إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ (CMB)، وهو ما شكَّل فكرتنا عن أول مصدر للضوء في الكون.
فجر الكون
منذ ذلك الحين، تمكن العلماء من قياس الفوتونات التي تشكِّل إشعاع الخلفية الكونية بدقة عالية، وما زالوا يفعلون ذلك حتى يومنا هذا. تمنحنا هذه العملية صورة للكون عندما كان عمره 380 ألف سنة، وهو ما يُعَد طفلا مقارنة بعمره الحالي البالغ 13.8 مليار سنة. خلال مراقبتنا لهذه الفوتونات، نرى تجمعات كثيفة تطورت لاحقا إلى مجرات وأنماط تخبرنا عن الكميات النسبية للإشعاع والمادة المظلمة في الكون المبكر.
يُعد إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ أقدم ضوء رأته أعيننا منذ نشأة الكون وسيظل الأقدم على الإطلاق، غير أن هناك مصدرا آخر غير مُستغَل للمعلومات قد يساعدنا على فهم الكون المبكر في المراحل الأولى من تطوره على نحو أفضل والنظر إلى مراحل تاريخية أقدم بكثير مما نعرفه حاليا، وهو جسيمات النيوترينو التي انطلقت في اللحظات القليلة الأولى من عمر الكون.
على الرغم من أن النيوترينوات جسيمات غريبة ومستقلة تقريبا، فإننا نعرف عنها منذ زمن طويل، إذ ترجع فرضية وجودها إلى عام 1930، واكتشفها العلماء في التجارب العلمية عام 1956. تُنتَج النيوترينوات طوال الوقت نتيجةً للنشاط الإشعاعي، حتى الموز العادي يُنتِج تيارات من النيوترينو عندما تتحلل ذرات البوتاسيوم بداخله. ومع ذلك، فإن هذه الجسيمات خفيفة للغاية ولا تكاد تتفاعل مع أي شيء آخر (وهي خاصية تجعل من الصعب كشفها ودراستها بالطرق التقليدية).
بسبب طبيعتها المستقلة التي ترفض التفاعل مع أي شيء آخر، تمكنت جسيمات النيوترينو من التحرك بحرية في وقت مبكر جدا من عمر الكون مقارنة بالضوء، فبينما كانت الفوتونات (جزيئات الضوء) تتصادم باستمرار مع جزيئات أخرى، استطاعت جزيئات النيوترينو التدفق بحرية خلال تلك البلازما الساخنة والكثيفة. تتنبأ نظرية الانفجار العظيم بأن النيوترينو الذي انبثق في الثانية الأولى من عمر الكون كان بإمكانه الهروب على الفور من ذلك الضباب مواصلا سعيه حتى يومنا هذا، لتتحول هذه الظاهرة من إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (CMB) إلى خلفية النيوترينو الكونية (CNB).
سيكون اكتشاف خلفية النيوترينو الكونية حدثا ضخما يوفر طريقة جديدة تماما لرؤية كيفية تطور الكون، لذا نحتاج إلى معرفة المزيد عن جزيئات النيوترينو وكيفية انتقالها. في البداية، علينا إدراك الفرق الرئيسي بين الفوتونات والنيوترينوات، فالأولى عديمة الكتلة، بينما الأخيرة تتمتع بكتلة وإن كانت صغيرة للغاية. تظهر النيوترينوات على هيئة 3 أنواع مختلفة، ولكل نوع كتلة مختلفة قليلا عن رفيقتَيها، لهذا السبب، سينتهي بهن المطاف بالتحرك في الكون بسرعات مختلفة، والأهم من ذلك كله أن جميعها تتحرك في الفضاء بسرعة أبطأ تقريبا من سرعة الضوء بنحو ألف مرة.
الكون بألوان زاهية
بينما تتحرك جزيئات النيوترينو الكونية بسرعة عالية في الفضاء، ينحني مسارها بفعل قوة جاذبية الأجسام الضخمة، كالمجرات التي تمر من خلالها، وهو تأثير يسمى “عدسة الجاذبية” (gravitational lensing). وبما أن النيوترينوات الكونية تنتقل عبر الفضاء بسرعات مختلفة، ومن ثم فإنها تعبر تلك الأجسام الضخمة في أوقات مختلفة. هذا يعني أننا لو استطعنا مسح السماء بحثا عن نيوترينوات كونية، فسيمكِّننا ذلك من الاستعانة بها لإلقاء نظرة خاطفة على بنية الكون الهائلة في أوقات مختلفة من عمره.
فكِّر في الأمر على هذا النحو، إذا أظهر لنا إشعاع الخلفية الميكروي (CMB) صورة للكون المبكر بالأبيض والأسود، فإن النيوترينوات الكونية ستنتج فيلما ثلاثي الأبعاد للكون مفعما بالألوان الزاهية. على الرغم من أنه لم يسبق لنا رؤيتها من قبل، فإن لدينا سببا وجيها للاعتقاد بوجود النيوترينوات الكونية، إذ يعتبر وجودها نتيجة حتمية للانفجار العظيم، تماما كخلفية الإشعاع الميكرويّ. وفي حالة خاب مسعانا ولم تكن موجودة بالفعل، فستكون هذه نتيجة صادمة، لأن ذلك يُعَد تناقضا مباشرا للنموذج الراسخ للانفجار العظيم، وهو تناقض يتطلب فيزياء جديدة تماما ومثيرة لتفسيره، لذا لا بد أن تكون محاولة اكتشافها هي محط انشغال العلماء وعنايتهم.
على الجانب الآخر، سنجد أن عملية رصدها ليست بالمهمة اليسيرة على الإطلاق، صحيح أن بعض التجارب العلمية كشفت عن بعض أنواع النيوترينو ذات الطاقة العالية، مثل تلك التي تنبعث من أشعة الشمس، إلا أن طاقة النيوترينوات الكونية ستكون أقل بمليار مرة من أصغر نيوترينو مرصود حاليا من مصادر أخرى، ما يجعل من العسير للغاية اكتشافها (وهذا يدل على أن التحدي الحالي الذي تواجهه الفيزياء هو اكتشاف هذه النيوترينوات وتأثيرها على الكون).
في عام 1962، كان الفيزيائي الراحل “ستيفن واينبرغ”، الحائز على جائزة نوبل، أول من اقترح فكرة البحث عن هذه النيوترينوات، مستوحيا أفكاره من التكنولوجيا التي استُخدمت لأول مرة في خمسينيات القرن الماضي لرصد النيوترينوات التي لا تنبع من مصادر طبيعية كالتفاعلات النووية، لكنها استُخدمت لاحقا لاكتشاف النيوترينوات الشمسية (الناتجة عن دمج ذرات الهيدروجين في الشمس لتكوين الهيليوم، فتتحرر كمية هائلة من الطاقة خلال هذه العملية، ويتحول جزء من هذه الطاقة إلى نيوترينوات).
يمكن التعرف على وجود النيوترينو في حالة اصطدامه بإحدى الذرات، حينذاك يمكن التقاط الذرّة وتوجيه طاقة كافية تجاهها بهدف تحويل أحد جسيماتها، وهو البروتون، إلى آخر، وهو النيوترون. ولأن العناصر الكيميائية تُعرَف بعدد البروتونات الموجودة فيها، فإن هذه العملية تعتبر دليلا قاطعا على وجود النيوترينو، لإنتاجها عنصرا كيميائيا مختلفا.
في عام 1970، شرع الفيزيائيان “ريموند ديفيس” و”جون باهكال” في العثور على علامات توحي بوجود جزيئات النيوترينو الكونية، عن طريق الاستعانة بخزان مليء بـ380 ألف لتر من سائل غني بالكلور، باعتبار أن النيوترينو إذا اصطدم بإحدى ذرات الكلور فإنه يحولها إلى ذرة أرجون (والأرجون هو عنصر كيميائي من الغازات النبيلة، ويعتبر أحد العناصر الأساسية في الكون، ويتميز بكونه غير نشط كيميائيا. وعندما تتفاعل النيوترينوات مع الكلور، يكون الأرجون الناتج في صورة غاز يمكن اكتشافه وقياسه بواسطة الأجهزة الحساسة الموجودة في الخزان).
لكن سرعان ما بدت مشكلة ربما لم يفطن إليها أحد، وهي وجود الأشعة الكونية التي تعتبر جسيمات عالية الطاقة قادمة من الفضاء وقادرة على إحداث التأثير ذاته. لذا، قرر العالمان استخدام هذا الخزان في منجم هومستاك المليء بالذهب في ولاية داكوتا الجنوبية بالولايات المتحدة، والذي يقع على بعد 1,500 متر تقريبا تحت الأرض، وذلك لأن الأشعة الكونية تُرشَّح ولا تصل إلى هذا العمق، بينما تمر جزيئات النيوترينو الشمسية عبر الأرض وتحوِّل بعض الكلور المدفون في الخزان إلى أرجون. وبعد حساب عدد الجزيئات، تمكن العالمان من حساب معدل تدفق النيوترينوات الشمسية، وحصلا في النهاية على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2002.
كان لدى واينبرغ إستراتيجية مماثلة لاكتشاف النيوترينوات الكونية، لكن طاقتها المنخفضة جعلتها غير قادرة على تحويل البروتونات إلى نيوترونات في أي نوع من الذرات المستقرة، ولذلك قرر واينبرغ الاستعانة بالتريتيوم بدلا من ذلك، وهو نسخة مشعة من الهيدروجين تحتوي على نيوترونَينِ وبروتون واحد. ونظرا إلى أن التريتيوم عنصر غير مستقر، فإنه يتحلل بصورة طبيعية عن طريق تحويل أحد نيوتروناته إلى بروتون، في حين ينطلق إلكترون في الوقت ذاته ويتحرر بطاقة معروفة ومحددة.
إذا امتصت نواة التريتيوم نيوترينو كونيّا قبل أن تتحلل، فقد يتجاوز مقدار طاقة الإلكترون الذي تطلقه ما يمكن توقعه، لأن النيوترينو يضفي بعض الطاقة على هذا الإلكترون. استنتج واينبرغ أنه إن تمكنّا من قياس طاقة الإلكترون بدقة شديدة، واكتشفنا إطلاق إلكترونات ذات طاقة عالية للغاية ناتجة عن تحلل التريتيوم، لمكّننا ذلك من اكتشاف الخلفية النيوترينية الكونية.
لبلوغ هذا الهدف المنشود سيكون الأمر صعبا للغاية، وسيتطلب مجهودا خرافيا، لأن استخدام 100 جرام من التريتيوم ستتمخض عنه 4 عمليات امتصاص للنيوترينو، وعلى النحو ذاته ستنطلق 4 إلكترونات نشطة للغاية كل عام، وهو ما يُعَد كمية ضئيلة جدا بالمقارنة مع إطلاق 100 تريليون من الإلكترونات ذات الطاقة المنخفضة في الثانية عند التحلل الطبيعي. بالنظر إلى شبه استحالة الكشف عن تلك الإلكترونات الأربعة الوافدة، فإن ذلك يشير إلى أن التكنولوجيا الحالية ما زالت محدودة من جميع الجوانب. ومع ذلك، ثمة تعاون بحثي دولي نشط، يسمى “PTOLEMY”، يهدف إلى بناء نموذج أولي للكشف عن مثل هذه العناصر.
في غضون ذلك، اقترح فيزيائيون آخرون طرقا مختلفة لاكتشاف النيوترينوات الكونية، وعلى الأرجح سيحقق بعضها نجاحا يفوق البعض الآخر. في عام 1974، اقترح الفيزيائي الراحل “روفين أوفير” طريقة لرصد النيوترينوات بقياس الضغط الذي يفرضه النيوترينو الكوني باستخدام جهاز خاص، لكن بسبب عدم تفاعل النيوترينو بصورة كبيرة مع المادة، سيحتِّم علينا ذلك تحسين حساسية القياسات الدقيقة بمقدار مليار مرة للكشف عن هذه الجسيمات المهمة. باختصار، لا بد أن ندرك جيدا أن جميع الأفكار المتعلِّقة بالكشف عن النيوترينو الكوني تواجه صعوبات جدية. لذلك توصلتُ أنا وطالب الدكتوراه “جاك شيرغولد” إلى طريقة بديلة لاكتشاف النيوترينو الكوني، وتعتمد هذه الطريقة على تجاوز العقبة الرئيسية التي يجابهها العلماء في كل تجربة مقترحة، وهي أن النيوترينو يتمتع بطاقة منخفضة للغاية.
تصادم أشد قوة
في معظم أجهزة الكشف عن جزيئات النيوترينو العادية، توجد أحواض ضخمة من الذرات تنتظر وصول نيوترينوات شمسية سريعة الحركة نسبيا للاصطدام بها، لكن عندما يتعلق الأمر بالنيوترينو الكوني، فإنه يتحرك بسرعة أبطأ بكثير وبطاقة أقل، ما يصعِّب الكشف عنه عند حدوث اصطدام، وذلك يحيلنا إلى السؤال الأهم: إن كنا لا نستطيع إجراء تغييرات في خصائص النيوترينو، فماذا عن الذرات المُستهدفة؟ هل بإمكاننا تسريعها بطريقة ما بحيث نزيد من شدة اصطدامها بالنيوترينوات لتسهيل الكشف عنها؟”.
غير أن ثمة مشكلة في الحل السابق، وهو طبيعة الذرات التي تجعل من الصعب تسريعها لأنها محايدة كهربائيّا، وهذا يعني أنها لا تتأثر بالمجالات الكهرومغناطيسية القوية المستخدمة في مسرعات مثل تلك الموجودة في مركز “سيرن” بجنيف في سويسرا لتسريع الجسيمات المشحونة مثل البروتونات إلى سرعة تقترب من سرعة الضوء. ومع ذلك، يمكننا اللجوء إلى خدعة لتسهيل الأمر، وهي إزالة بعض الإلكترونات الخارجية من الذرة، فينتج عن ذلك نسخة مشحونة تُسمى “أيون”، والذي يمكن تسريعه باستخدام تقنيات شائعة، خاصة أن فقدان أحد الإلكترونات لا يُحدث فرقا كبيرا في أي تفاعل مع النيوترينوات.
في العام الماضي، فكّرت أنا و”شيرغولد” في استخدام مسرّع بغرض تسريع عدد كبير من الأيونات، للكشف عن النيوترينوات الكونية التي تمر باستمرار خلال المسرع بالطريقة ذاتها التي تمر بها خلال جسمك. وربما يمكن تصميم نظام من هذا النوع، بحيث يُوَلِّد تصادمات بطاقة كافيا لكشف النيوترينوات الكونية. إذا قررنا استغلال نتائج تحول الكلورين إلى الأرجون الذي استُخدم في تجربة هومستاك، فإن ذلك سيتطلب وجود مسرع بطاقة أكبر بمليون مرة من طاقة مسرع الهدرونات الكبير (LHC)، وهو ما يُعَد مشكلة ضخمة، ومع ذلك، ما زالت هناك أنواع أخرى من الأيونات التي يمكن استخدامها لاكتشاف النيوترينوات الكونية، يمكننا -على سبيل المثال- تسريع أيونات الهيليوم التي ما إن تصطدم بالنيوترينو حتى تتحول إلى تريتيوم.
ولتحقيق هذا الهدف، سنحتاج إلى مسرع أقوى بنحو 100 مرة من مسرع الهدرونات الكبير. ورغم أن هذا التحدي في منتهى التعقيد، فإنه ليس مستحيلا أيضا. أما التحدي الآخر فيتمثل في تسريع أعداد كبيرة من الأيونات المطلوبة، والتي ستكون أكثر بكثير من الأعداد المستخدمة في تجارب تحطيم الجسيمات بصورة عامة. ومع ذلك، ما زلنا في مرحلة مبكرة من البحث في هذا المجال، وحاليا يتمثل التحدي في العثور على أيونات تتفاعل مع النيوترينوات بأقل طاقة ممكنة، وبهذه الطريقة سنحتاج إلى عدد أقل من الأيونات، ربما أقل بكثير من جميع الأعداد التي استُخدمت في التجارب السابقة. قد لا يكون البحث عن الأيونات، التي تمتلك الخصائص الصحيحة والمؤهلة لجعل هذا الأمر واقعا ملموسا، أسهل من تنفيذ تجربة واينبرغ، لكن مع ذلك يظل هذا التحدي مختلفا ولم يُستكشَف جيدا بعد، ما يجعله يستحق البحث والتحقيق فيه.
في نهاية المطاف، استغرق إنجاز أهم الاكتشافات في الفيزياء، بدءا من جسيم هيغز (وهو جسيم أولي يُظن أنه المسؤول عن اكتساب المادة كتلتها)، وصولا إلى الأمواج الثقالية (وهي ترددات تظهر في الفضاء نتيجة التسارع أو التباطؤ الناتج عن الأجسام فائقة الكتلة في الكون)؛ عقودا من العمر كاملة. وبالمثل، سيستغرق الأمر وقتا لاكتشاف أول نيوترينوات كونية. ولكن مَن يعلم؟! فقد نكون على بُعد خطوة واحدة من العثور على هذه الجسيمات الغامضة التي تحمل بين طياتها أقدم أسرار الكون.
___________________________________
ترجمة: سمية زاهر
هذا التقرير مترجم عن New Scientist ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.