“ثورة الفانيليا”.. رسائل من المطبخ برائحة الحنين والفقد | ثقافة


لم يعد “الطبخ” مجرد روتين يومي نمارسه من أجل إعداد أشهى الأطعمة، وإنما له باب آخر هو إشاعة الجمال والدفء في الكتابة الإبداعية، حيث استخدم فعل الطهي بمكوناته ومقاديره الدقيقة وروائحه النفاذة لتمرير الحكايات المرتبطة غالبا بالوحدة والفقد والحزن.

ترسل القاصة المصرية هبة الله أحمد في كتابها “ثورة الفانيليا.. رسائل من المطبخ” رسائل تفوح منها رائحة البهارات والزنجبيل والفلفل الأسود وشوربة الخضار وحيادية البطاطا وقوة البازلاء ونضرة الفاصوليا، ترسلها على وقع صوت مطر إسكندرية وأغنيات أم كلثوم إلى ذلك الصديق الذي لا نعرف ما مدى علاقتها به.

يشكل المطبخ بكل ما فيه في هذا الكتاب الصادر عن دار المثقف (2021) المكان المثالي أو مكان ينشر الابتهاج للتطهر من أعباء اليوم، فلربما كان الطعام وسيلة لمحو الذكريات السيئة.

تقول هبة الله أحمد إن الكتاب كان مغامرة فاجأتني قبل الجميع، حاولت التجريب في نمط غير مطروق بكثرة بين الأنماط الأدبية، وهو القص عن طريق الرسائل، اخترتها عن طريق فعل الطبخ، حيث إن الأكل على قدر أهميته إلا أن ممارسته قصيرة خاطفة لذيذة لاذعة أو مبهرة أو حلوة، وفعل الطعام كذلك مؤثر ومشكل للوجدان.

غلاف ثورة الفانيليا
كتاب “ثورة الفانيليا.. رسائل من المطبخ” صدر عن دار المثقف (الجزيرة)

وتضيف “أعتبر المطبخ مساحتي الآمنة، الطبخ أشبه بالإبداع، الطبخ في حد ذاته ثقافة أو ما يسمى الأدب المطبخي عمل يختص به الإنسان دون غيره من المخلوقات، قالت أجاثا كريستي إن أغلب قصصها البوليسية جاءت أفكارها وهي تغسل المواعين، بالنسبة لي عملية الطبخ نفسها وارتباطي بمكونات المطبخ من أدوات وآلات هي وسيلة للتنفيس عن مكنونات نفسي وما يختلجها من أسئلة فلسفية ووجودية، كما أنني شديدة الارتباط بالأمكنة، خاصة مطبخي بكل ما به، تسعدني الفرحة والفتوة التي يفور بها العجين، وصخب الألوان في الشوربة والوصفات”.

تنضم صاحبة كتاب “النوالة” إلى قائمة من الكاتبات اللواتي وجدن في الكتابة عن أنواع الأطعمة والحلويات وطرق تحضيرها ودفء المطبخ وتحضير ألذ الأطعمة على وقع صوت الراديو عملا مرتبطا بالحنين والأحزان والذكريات.

الطبخ في الكتاب فعل محبة، تنقل الكاتبة من خلال رائحة المخبوزات اشتياقها لذلك الصديق، وهنا نسأل: هل يشكل مذاق الأكل ورائحته جزءا من كياننا؟ الإجابة تشير إلى تعريف عالم أنثروبولوجيا الطعام روبين فوكس “إن جميع الحيوانات تأكل، لكن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يطبخ، وبالتالي يصبح إعداد الطعام أكثر من مجرد تلبية لاحتياج، إنه رمز لإنسانيتنا”.

الطبخ والحزن

لكن ما سر المطبخ، هل يشكل مركز الحياة في البيت؟

تتناول الروائية المصرية أمينة طلعت في مجموعتها القصصية “طبيخ الوحدة” 10 قصص لنساء يواجهن إحساسهن بالوحدة بأن يطبخن لأنفسهن، ومن خلال المجموعة يكتشف القارئ أن صنع الطعام يحتوي على كثير من المعاني الجميلة، مثل العطاء والمشاركة، فعندما نطبخ لأحبابنا أو لأنفسنا تغمرنا السعادة، مما يقضي على الإحساس بالوحدة والألم، ولا تنسى أمينة أن تقدم مقادير وصفاتها بشكل دقيق، مثل الملوخية واللحم والكيك وطاجين البطاطس والفطائر المخبوزة والقهوة.

ومن الأدب الياباني، تنقلنا البطلة ميكاج في رواية “مطبخ” للروائية بنانا يوشيموتو، وترجمة بسام الحجار إلى أكثر الأماكن حميمية وألفة في العالم بحسب وجهة نظرها وهو المطبخ.

ميكاج -التي تشعر بالوحدة والحزن بسبب وفاة جدتها- تجد في الطبخ ورائحة التوابل وصوت الثلاجة والصحون ومذاق ما تطبخه شريكا لوحدتها ومصدرا للحب والسعادة.

وعلى باب الثلاجة نقرأ العديد من الرسائل اليومية المتبادلة عن الواجبات المنزلية وقائمة المشتريات والاعتناء بالحديقة وحضور المناسبات العائلية بين الأم وابنتها، حول تلك الرسائل تدور أحداث رواية “حياة على باب الثلاجة” للروائية أليس كويبرز، وترجمة هدى فضل.

ومن خلال هذه الرسائل نفهم طبيعة العلاقة الشائكة بين الشابة المراهقة كلير ووالدتها الطبيبة المشغولة دائما، وهذا ما يجعلهما لا تلتقيان إلا عبر الرسائل التي تتركها كل منهما على باب الثلاجة.

وتشير هبة الله أحمد إلى أنه من خلال هذه التجربة في الكتابة تحاول التأسيس لارتباط مختلف، ارتباط بانعتاق الأفكار وتحررها وسط العادي والمتاح وإن كان محدودا.

وتصف رمزيات المطبخ بالقول إنه “الاستقواء بالمكان ومعطياته وإبداعنا به، محاولة التناسل بألف شكل ووجه حسب التوابل المستخدمة والوصفات الحارة والحلوة، القبض على الخيال واستحضاره، سواء عن طريق أغنية منبعثة من راديو بأغلب المطابخ، الاختباء بالبصل والبخار ومياه الصنبور من الانفعالات الحزينة والغاضبة والصاخبة، الخيالات التي نستطيع التعبير عنها وربما لا، احتواء وتبجيل كل ما هو أنثوي، أما تأويل فحوى الرسائل فهو خاص بكل قارئ، الكتاب خرج من يدي لوجدانهم وعقولهم، فالكل يفسر كما يرى بعين قلبه”.

لماذا الفانيليا؟

تتحدث هبة الله أحمد عن نصيحة ذلك الصديق الغائب بأن تتعلم ثقافة الفقد، فقط أصبحت كبيرة بما يكفي، لكنها في المقابل تخبره أن النساء دوما يعتقدن أن من لديه الصبر وشغف التفاصيل عند الطبخ لن يفقد شغفه تجاههن أبدا.

ترسل هبة الله أحمد رسائلها من مطبخ مساحته 24 مترا مربعا وتصفه بـ”الوطن الصغير” الذي يتكون من بوتاغاز وحوض وثلاجة ضخمة وغسالة وأدوات مرصوصة بعناية ورخامة طويلة لتحضير الطعام.

ونسألها: لماذا اخترت “الفانيليا” عنوانا للكتاب من بين كل التوابل؟ فتقول: الفانيليا على الرغم من النعومة البادية بها ورائحتها الأنثوية الرقيقة وما تجسده لكل ما هو أنثوي مثير ورقيق ويبدو ضعيفا فإنها ما إن تمسها النار حتى تطغى رائحتها على كل ما يحيط بها من روائح أخرى، كما أنها شريكة مهمة في صنع الوصفات الحلوة والمخبوزات الشهية، شأن الحياة وما فيها من أنوثة.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post شركة “آير صربيا” تسيير رحلات طيران إلى مرسى مطروح
Next post معلم يطعن شرطياً وسط تونس.. وهذا ما كشفته الشرطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading