بينما كان الطالب الكوري “نوح هوين سو” يتجول في متحف سيول الوطني مساء يوم خميس، غلبه الجوع وتذكر أنه لم يتناول الفطور، نظر أمامه فوجد شريطا لاصقا يثبت ثمرة موز عادية على الحائط، أزال نوح الشريط اللاصق، أمسك ثمرة الموز وبدأ في تقشيرها بهدوء، والتهمها. كانت هذه أغلى ثمرة موز يمكن لأحد أن يتناولها على الإطلاق.
صدِّق أو لا تُصدِّق، هذه الموزة المعلقة قُدِّرت قيمتها في سوق الأعمال الفنية بين 120-150 ألف دولار، وتُصنَّف ضمن أعمال الفنان الإيطالي “ماوريتسيو كاتيلان” ويُطلق عليها اسم “كوميدي”. حين فرغ نوح من أكل موزته، أعاد القشرة إلى موضعها الأول على الحائط، ونظر إلى الكاميرا في الفيديو الذي يصوره صديقه وعلى شفتيه ابتسامة بسيطة، في وقت لاحق استبدل القيمون على المتحف بقشرة الموز موزة جديدة طازجة، كما هو معتاد كل بضعة أيام (1) (2). لكن السؤال الذي يبقى معلقا كموزة كاتيلان هو: لماذا قد يبتاع أحدهم شيئا كهذا مسلما بكونه عملا فنيا ويدفع لقاءه مبلغا كبيرا من المال؟
موزة واحدة لا أكثر
يبدو أن هذا السؤال هو ما طرق ذهن فنان الأداء “ديفيد دايتونا” الذي كان أول مَن تناول موزة كاتيلان، في يوم سبت عام 2019، إذ ارتأى دايتونا أن الفن هو ما يدور حول الكوميديا والمآسي والعواطف، لذا لم يستسغ فكرة بيع موزة لا يتعدى ثمنها السنتات بهذا الثمن، في ثلاث صفقات متتالية بلغ سعر الأخيرة فيها 150 ألف دولار(3)(4). فخلال طواف دايتونا لـ67 دولة حول العالم في ثلاثة أعوام، رأى ملايين يقتاتون على الفتات ويموتون بسبب الحرمان من الطعام، فكان مجرد تصور بيع ثلاث ثمرات موز مقابل نصف مليون دولار من وجهة نظره ضربا من الجنون.
لكن “مسلسل الجنون” لم يكن بلغ ذروته بعد. فبعد ثلاثة أعوام على حادثة دايتونا، وجد كاتيلان نفسه طرفا في نزاع قضائي بسبب دعوة رُفعت ضده في محكمة اتحادية في ميامي بواسطة الفنان الأميركي جو مورفورد الذي زعم أن كاتيلان انتهك بموزته حقوق الطبع والنشر لعمله الفني “موز وبرتقال” الذي صنعه قبل عقدين (5).
وفيما كان كاتيلان ومورفورد يتقاتلان حول أحقية كلٍّ منهما بـ”الموزة”، جلس الفنان الأسترالي ماثيو جريفين يمضغ شطيرة برغر من ماكدونالدز، قبل أن ينظر بتمعن إليها نازعا قطعة من الخيار المملح غارقة بالكاتشب وملصقا إياها على سقف، ليزعم فيما بعد أنها لوحة فنية أطلق عليها اسم “بيكل” (Pickle) وعرضها في معرض أوكلاند النيوزيلندي، لتُباع بقرابة 10 آلاف دولار!
ربما تعمد جريفين بشريحة الخيار الخاصة به خلق لفتة استفزازية للتشكيك في ما له قيمة، تماما كشأن كاتيلان الذي كانت موزته وسيلة للسخرية من منظومة الفن، كاتيلان ابن الطبقة الكادحة الذي عُرف بثورته وجنوحه وأعماله التي لطالما أثارت الانتباه بغرابتها، مثل مرحاضه الذهبي الذي أطلق عليه اسم “أميركا”.
استغرق كاتيلان لوضع موزته عاما بأكمله كما يزعم، ظل يفكر فيه مليا في نحت تمثال على شكل موزة، في كل مرة سافر فيها، ظل يحضر معه موزة ويعلقها في غرفته بالفندق بغية العثور على إلهام (8)، ليصنع عدة نماذج أولية منها قبل أن تواتيه الفكرة، لمَ لا يكتفي بوضعها هي فحسب؟ فهل يمكن أن تحمل ثمرة فاكهة دلالات عميقة؟
ثمار غريبة
Zoe Leonard’s “Strange Fruit” is intended to decay while on view, made up of empty fruit skins sutured together & scattered across the gallery floor. The work was created in New York during the early days of the ongoing global AIDS crisis. https://t.co/PHnMr81Pei pic.twitter.com/Db1I5YeNKN
— Philadelphia Museum of Art (@philamuseum) August 25, 2022
بالعودة إلى تسعينيات العقد الماضي، وفي خضم ذروة استشراء وباء الإيدز في أميركا، كانت الفنانة “زوي ليونارد” قد فقدت عددا من أصدقائها مثل الفنان “ديفيد ووجناروفيتش”(9)(10)، ودخلت في حداد، حاولت فيه مواجهة صدمة الخسارة، لتجد نفسها تخيط قشور الفواكه من موز وليمون وبرتقال بعد فراغها من تناولها بألوان زاهية، لتكون تلك القشور الفارغة طريقتها لتقدير ما كان متبقيا من تلك الثمار.
سمَّت ليونارد مئات الحبات التي صنعتها على مدار خمسة أعوام “ثمار غريبة” نسبة إلى أغنية أميركية شهيرة من تأليف المدرس آبيل موروبول وغناء بيلي هوليداي، حكت الأغنية الظلم الذي عانى منه الأميركيون من أصول أفريقية باستحضار مشهد إعدام عمال سود وتدلي جثثهم من على الأشجار.
اشتهرت هذه الأغنية بوصفها أحد رموز حركة الحقوق المدنية، وتُوصف كلماتها بنشيد المقهورين في الجنوب، وترى فيها ليونارد تعبيرا عما لاقاه أصدقاؤها وجميع مَن أُصيبوا بالإيدز من اضطهاد المنظومات الصحية والمجتمع. ربما لم ترد ليونارد من فواكهها الغريبة سوى تخليد ذكرى أحبائها على طريقتها، فصنعت فاكهة فارغة كي تصف ولو دون أن تعي ما مثَّله لها رحيلهم، آملةً أن تلتئم جراحها.
“على أشجار الجنوب فاكهة غريبة
دم يلون الأوراق مراق فوق الجذور
أجساد سوداء تتأرجح مع نسيم الجنوب”
هذا النوع من المعنى أو الفكرة الكامنة في أشياء غاية في البساطة والسذاجة هو ما تعنيه لوحات كهذه، في الواقع فإن ابتياع برتقالة ليونارد أو موزة كاتيلان أو شريحة الخيار المخلل لجريفين لا يعني بالضرورة أنك ستحظى بهذه الثمار حقا، وإنما ستحصل فقط على وثيقة تثبت حقوق ملكيتك لها وتعليمات مفصلة حول كيفية وضع هذه الفاكهة في منزلك، إذ جادل الفنانون المفاهيميون في ستينيات القرن العشرين بأن هوية العمل الفني لا تكمن حقا في مظهره المادي، وإنما في فكرة الفنان التي ليس من الضروري أن تتخذ شكلا ماديا. مع ذلك فإن افتراض السذاجة في مَن يقتني أعمال كهذه أو غيرها بألوف وملايين الدولارات سيكون ظنا في غير محله على الأرجح.
ثمن كل شيء
كثيرا ما تخضع الأعمال الفنية لحسابات واعتبارات لا تمت بصلة للمنحنى الجمالي، وإن اعترفت بأسماء تجارية لفنانين ذوي وزن كجان باسكيات وبيكاسو. فالفن تجارة، أقرب لسلعة متضخمة قابلة للتداول، وعالم مسيج بقواعد تُحْكِم الخناق عليه. تجارة لفاحشي الثراء يمكن أن تشمل بيع قطعة واحدة بعشرات وربما مئات الملايين من الدولارات، سواء دُفعت هذه الأموال بسبب الهوس أو لأغراض خفية أخرى.
تحكي جورجينا آدم خبيرة سوق الفن ومؤلفة كتاب “الجانب المظلم من الازدهار: تجاوزات سوق الفن في القرن الحادي والعشرين” في مقابلة لها كيف يمكن أن تكلف لوحة واحدة أموالا باهظة. تقول جورجينا إن هناك المزيد من هواة الجمع الآن أكثر من أي وقت مضى، بثروات ضخمة، بعدما أدى تحرير بعض الاقتصادات مثل الهند والصين وبعض دول أوروبا الشرقية، إلى رواج سوق المجموعات الفنية خارج الولايات المتحدة وأوروبا الغربية (11).
كثيرا ما يشتري الأثرياء اللوحات لغرض التباهي أو رغبة منهم في نيل الحظوة الاجتماعية أو لإظهار الترف والثراء، لكنهم قد يقتنونها أيضا لدوافع مادية وتجارية بحتة (12)(13). أحيانا ما تُشترى الأعمال الفنية وتُباع بانتظام دون حتى الخروج من رفوفها الخاضعة لحراسة مشددة، كما في ميناء جنيف الحر الذي يحتوي على ما يقرب من 1.2 مليون قطعة فنية مخزنة في مبنى باهت اللون من ستة طوابق يحوي ثروة فنية بمليارات الدولار.
في بعض الأحيان تُستخدم المقتنيات الفنية وسيلة للتهرب من دفع الضرائب، إذ يتيح القانون الأميركي تأجيل ضرائب أرباح رأس المال على مبيعات الأعمال الفنية إذا استُثمرت هذه العائدات في شراء أعمال فنية أخرى (14).
سوق الفن وأرباحه
لعل المثال الأكثر شهرة على ذلك هو المستثمر الفني “روبرت سول” وزوجته “إيثيل سكل” اللذان اشتهرا بمجموعتهما الفنية. فحين ورثت إيثيل حصة من شركة أعمال سيارات الأجرة عن أسرتها، استثمر الزوجان الأموال التي تدرها المؤسسة في تجميع المقتنيات الفنية. وفي أكتوبر/تشرين الأول 1973 قرر الزوجان عرض 50 عملا من مجموعتهم للبيع في دار مزادات “سوثبي بارك بيرنيت” مقابل 2.2 مليون دولار.
جذب التفاوت بين المبلغ الذي اشترى به الزوجان اللوحات (مئات أو آلاف الدولارات في اللوحة) وبين الربح الذي حققاه اهتماما صارخا (15). اتُّهم الزوجان حينها باستغلال أعمال الفنانين، وكتبت الناقدة “باربرا روز” فيهما مقالا لاذعا، ذكرت فيه حجم أرباحهما بشكل تفصيلي واصفة إياه بأنه “ربح بلا شرف”، ومنوهة أن الشركات هي التي تهيمن الآن على عالم الفن، ولأن اهتمامها منصب على الربح فلن تجد أرباحا هائلة وقابلة للتحقق في حيز زمني قصير كما هو الحال في سوق الفن، مؤكدة أن ذلك المزاد هو اللحظة “التي انهار فيها عالم الفن” من وجهة نظرها (16).
لكن سوق الفن قد يكون مساحة أوسع للتلاعب، حد أن وصفه توماس كريت عضو مجلس إدارة معهد بازل للحوكمة، وهي مؤسسة غير ربحية موجهة ضد الفساد المالي، بأنه “ساحة لعب مثالية لغسيل الأموال” للمهربين وتجار المخدرات وتجار الأسلحة وغيرهم، فالأصول الفنية محمولة ويصعب تتبعها وذات قيمة معترف بها دوليا. كما أن التعتيم الشهير حول المعاملات في هذا السوق يجعل من العسير جدا إثبات غسيل الأموال، ما يوفر بيئة مثالية لهذا النوع من الأنشطة. (17)
_______________________________________
المصادر:
- (44) [단독] 1억 5천만 원짜리 ‘바나나’ 관람객이 ‘꿀꺽’ / KBS 2023.04.28. – YouTube
- Art student eats Maurizio Cattelan’s banana at Leeum (koreaherald.com)
- Art Basel: Maurizio Cattelan’s $120,000 banana eaten by artist – BBC News
- ‘It is something deeper’: David Datuna on why he ate the $120,000 banana | Art | The Guardian
- An artist claims Maurizio Cattelan copied his banana artwork. Now the case could be headed to court | CNN
- An artist claims Maurizio Cattelan copied his banana artwork. Now the case could be headed to court | CNN
- An Australian Artist Pulled a Pickle from a McDonald’s Cheeseburger and Slapped It on a Gallery’s Ceiling. Now It Costs $6,200 (artnet.com)
- The value of a banana: understanding absurd and ephemeral artwork (theconversation.com)
- Zoe Leonard: Strange Fruit (philamuseum.org)
- Burlington Contemporary – Journal
- Why is some art so expensive? The $63 billion art market, explained. – Vox
- How Modern Art Serves the Rich | The New Republic
- Why Billionaires Actually Buy Art – YouTube
- How Do the Rich Avoid Taxes? Billionaires Use This Art Strategy – Bloomberg
- Why do Rich People buy Expensive Art? (startuptalky.com)
- Blue Chips | Lapham’s Quarterly (laphamsquarterly.org)
- $400m for a Leonardo da Vinci. Has the art world gone mad? | Financial Times (ft.com)
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.