برلين- بينما تعكف الخارجية الألمانية على وضع اللمسات الأخيرة لإستراتيجية حكومتها تجاه الصين وتحاول تجاوز آخر الخلافات بشأن السياسة الأنسب للتعامل مع دولة “شريكة وخصم في آن واحد” يحلّ رئيس الوزراء الصيني لي كيانغ مع وفد وزاري كبير ضيفا على برلين وميونِخ، حيث انطلقت اليوم الثلاثاء المشاورات الحكومية بين البلدين في دورتها السابعة.
وهذا النوع من المشاورات تقيمه ألمانيا مع 12 دولة، منها الصين، وتسعى من خلالها إلى إجراء بحث معمق لكل ما يتعلق بعلاقتها مع هذه الدول، وهذا ينطبق على دورة هذا العام التي ستناقش -وفق برلين- ملفات اقتصادية وسياسية وأمنية وبيئية.
وقالت رئاسة الوزراء الصينية في بيان صادر عن سفارتها في برلين، إن بكين تأمل في إجراء مشاورات تعزز “الاستقرار والرخاء والأمن الدولي”.
تقليل المخاطر أم فك الارتباط؟
ولهذه الزيارة، كغيرها، شق بروتوكولي يتعلق بمَن يستقبل مَن وكيف أجريت مراسم الاستقبال، وتفاصيل أخرى تشير إلى أن الوفد الصيني حرص منذ البداية على التقاط الصور التي تعبّر عن حال العلاقة مع دولة تعتبرها الصين “مفتاحية” بأوروبا.
فالوفد الصيني يعرف وقع هذه الصور في بكين، ولكنه يعرف قبل ذلك وقعها في واشنطن “غير المعجبة بعلاقات ألمانيا والصين ولا بسياسة أوروبية مستقلة عنها تجاه بكين لأنها تريد كسب برلين وبروكسل إلى جانب سياستها في فك الارتباط مع الصين ” بحسب سفِن هانسن الخبير بالعلاقات الصينية الألمانية، في حديث مع الجزيرة نت.
ويجمع المراقبون للمشاورات في برلين على أن مصطلحين أساسيين يحكمان العلاقة بين ألمانيا والولايات المتحدة من جهة، والصين من جهة أخرى، وهما “تقليل المخاطر وفك الارتباط”.
فبينما ترفض برلين “فك الارتباط” مع الصين وتسعى إلى الإبقاء على الشراكة معها، وفي الوقت ذاته تقليل المخاطر الناجمة عن هذه العلاقة، تفضل واشنطن علاقة مبنية على “فك الارتباط” مع بكين.
يقول بيرنت بيرغر، خبير شؤون الصينية بمركز الفكر (الجمعية الألمانية للسياسة الخارجية DGAP) إن المشاورات الحكومية تعتبر بالنسبة لإدارة جو بايدن “مشكلة لأن هذه الإدارة قيد الإعداد لعلاقة جديدة مع الصين وترتيب أحلافها بأوروبا، وتتعرض لانتقادات من الجمهوريين وتتهم أوروبا بالتغريد خارج السرب الأميركي وبانتهاج سياسة انفرادية”.
ومن جانبه، يقول الخبير هانسن الذي يعمل للمجلة التخصصية “آي بي جي” (IPG) إن أفضل تعريف لعلاقة ألمانيا مع الطرفين جاء على لسان وزير المالية الاتحادي كريستيان ليندنر الذي قال مؤخرا إن واشنطن من وجهة نظر برلين “شريك في القيم” بينما تعتبر الصين “خصما” و”شريكا تجاريا” في الوقت ذاته.
شرخ العلاقة بين ضفتي الأطلسي
ووفق هانسن فإن الصين تحاول تشجيع ألمانيا وفرنسا على الابتعاد عن الشريك الأميركي وحتى العمل على “شرخ العلاقة بين ضفتي الأطلسي..”. ويعتقد أن الصين نجحت في ذلك مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ولكنها فشلت مع المستشار الألماني أولاف شولتز.
وحول القائمة الطويلة (140 صفحة) التي نشرتها واشنطن في أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، وأرادت من خلالها تحديد قدرات الصين على صعيد تجارة أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية، أضاف الخبير أن ألمانيا “باتت تنظر إلى هذه القطاعات الاقتصادية من وجهة نظر أمنية” وأنها “ستتبع في ذلك الولايات المتحدة ولكن ليس بثقة عمياء ولا بسياسة موحدة كما حدث بخصوص خلاف هواوي” مشيرا إلى أن شركات أوروبية “ستحاول دائما التحايل على عقوبات محتملة للتعامل مع الصين”.
وارسو لا تثق ببرلين وباريس
من وجهة نظر دول الاتحاد الأوروبي، لا تخرج هذه العلاقة الشائكة مع الصين عن إطار الخلاف الأزلي في بروكسل حول قضايا خارجية حساسة.
فبينما يجمع مراقبون كثيرون على أن السياسة الأوروبية تجاه الصين “غير متجانسة” يشير هانسن إلى أن بولندا مثلا “لا تثق في ألمانيا وفرنسا ولكنها تثق في الولايات المتحدة” في وقت تلاحظ فيه ألمانيا أن الاعتماد على واشنطن “ليس حالة دائمة”.
ولفت الخبير بالعلاقات الصينية الألمانية إلى أن انعدام التجانس بين سياسات الدول الأوروبية أمر تستغله واشنطن وبكين في آن واحد.
ويستشهد بالتاريخ قائلا إنه “يتفهم” عدم رغبة دول أوروبية في أن تقودها برلين، مبينا أنه في الماضي كانت الحكومات الألمانية “تحل جميع المشاكل بالمال” ولكنها لم تكن تسعى إلى القيادة، في حين تختلف حكومات أنجيلا ميركل (2005 حتى عام 2016) وحكومة شولتز الحالية التي تسعى إلى تسلّم دور قيادي بأوروبا، وإلى الحصول اقتصاديا على حصة الأسد، الأمر الذي يزعج دولا أصغر.
ويختلف بيرغر قليلا مع زميله، ويقول إن أوروبا تعلّمت مع الوقت أن تكون قادرة في إطار الاتحاد الأوروبي على تمرير أجندتها مع الصين أفضل من أن تقوم بذلك كل دولة أوروبية على حدة، منتقدا في الوقت ذاته ألمانيا وفرنسا صاحبتي الاقتصادين الأكبر في أوروبا بالقول إن سعي برلين وباريس إلى سياسة انفرادية مع الصين “لا يعجب” بقية دول الاتحاد الأوروبي.
شريك وخصم في آن واحد
وبينما يقوم الوفد الصيني بزيارة كبرى الشركات الألمانية بالعاصمة البافارية ميونِخ، يُنتظر في برلين الكشف عن إستراتيجية ألمانيا تجاه الصين. ورغم عدم تسريب الكثير عن هذه الإستراتيجية فإن رد إحاطة قدمته الحكومة الألمانية للاتحاد المسيحي الديمقراطي المعارض يتطرق إلى الخطوط العريضة لهذه الإستراتيجية.
ووفق ما رشح عنها، فإن ألمانيا ستسعى “بسرعة” إلى تقليل الاعتماد على الصين وإلى “تنويع” سلاسل الإنتاج، وإلى عدم الاعتماد على التقدم التكنولوجي بدول ثالثة لا تشترك مع أوروبا في نفس منظومة القيم.
وتنتقد هذه الإستراتيجية بشدة علاقة بكين بموسكو، وتؤكد أن ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي ستبني علاقتها مع الصين انطلاقا من علاقة الأخيرة مع روسيا. وتقول حرفيا “نعرف أن الصين لا تدافع عن استقلال أوكرانيا وسيادتها بمصداقية، ونراقب كيف تزيد من دعمها للسردية الروسية تجاه حلف شمال الأطلسي”.
وتتفق الحكومة الألمانية على تحديد المصادر التي ترفد الصين بها نفوذها بدول البلقان وجوار أوروبا وفي أفريقيا وأميركا اللاتينية ومنطقة المحيط الهادي، وتقول إن الصين “تزيد من اعتماد الدول عليها الأمر الذي تستخدمه في تحقيق مصالحها السياسية”.
ولا يعتبر الصعود الاقتصادي عامل القلق الوحيد عند الحكومة الألمانية، بل التسلح أيضا. وتقول الإستراتيجية إن ألمانيا “ترى في الصين لاعبا عسكريا يعزز قدراته العسكرية وينتهج سلوكا يضر بالمصالح الأوروبية”.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.