يحكي الإمام الليث بن سعد (1) أن المقوقس، حاكم مصر، سأل الصحابي عمرو بن العاص أن يبيعه سفح جبل المقطم بسبعين ألف دينار، بعدما فتح المسلمون مصر، فكتب عمرو ذلك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي أرسل يسأل عمرو: “لِمَ أعطاك ما أعطاك فيه وهو لا يُزرع ولا يستنبط منه ماء؟”، وحين توجه عمرو بالسؤال إلى المقوقس أجابه: “إنا نجد سفحه في الكتب القديمة أنه يدفن فيه غراس الجنة”. فكتب عمرو بذلك إلى الخليفة عمر وكان رده: “إنا لا نعرف غراس الجنة إلا للمؤمنين، فاجعلها مقبرة لمَن مات قبلك من المسلمين”.
ويروي سفيان بن وهب الخولاني، وهو من الصحابة المعمرين (2)، واقعة مماثلة، حينما كان يسير في سفح المقطم في صحبة عمرو بن العاص والمقوقس، وسأله عمرو: “ما بال جبلكم أقرع لا نبات به على نحو جبال الشام؟”، فأجاب المقوقس: “لا أدري. ولكن الله تعالى أغنى أهله بهذا النيل، وإنا نجد في الكتب ما هو خير من ذلك”. استفسر عمرو: “وما هو؟”، قال: “يدفن تحته قوم يبعثهم الله يوم القيامة لا حساب عليهم”، فدعا عمرو: “اللهم اجعلني منهم”.
حكايات المقطم لا تنتهي عند ذلك الحدّ، ولا يرتبط الأمر فقط بأن سفحه يضم رفات العديد من الصحابة والتابعين والصالحين، إذ جعلته طبيعته الانعزالية أيضا مكانَ تعبُّد للأقطاب والمتصوفة، ولعل أشهر مَن تعبَّد بين أودية المقطم ثم دُفن في سفحه المتصوف الشهير عمر بن الفارض (3)، فلا يزال ضريحه ومسجده يربضان بين أحضان الجبل.
“سمعتُ والدي يقول: كنت في أول تجريدي أَستأذنُ أبي، وأطلع إلى وادي المستضعفين بالجبل الثاني من المقطَّم، وآوي فيه، وأُقيم في هذه السياحة ليلا ونهارا، ثم أعودُ إلى والدي لأجل برِّه، ومراعاة قلبه”.
(جمال الدين بن عمر بن الفارض (4))
مصنفات في جبل المقطم
الأهمية التاريخية لمنطقة المقطم دفعت العديد من المؤرخين إلى إفراد مؤلفات في تدوين آثاره وتتبع أخباره، ومنها “خطط مصر” للقاضي أبو عبد الله القضاعي (5)، و”مرشد الزوار إلى قبور الأبرار” (6) لموفق الدين بن عثمان، ورغم أن عدد الشخصيات الواردة فيه لا يتعدى المئتين، فإنه يُعَدُّ أقدم المؤلفات التي تناولت مدافن القاهرة. كذلك كتاب “مهذب الطالبين إلى قبور الصالحين” لابن الجباس (7)، و”مصباح الدياجي” (8) لابن الناسخ الذي يلي كتاب ابن عثمان زمنيا. مثلما ورد ذكر الجبل في مؤلفات غيرهم من المؤرخين، مثل الشيخ أبو عمر الكندي، وابن عبد البر (9)، وفي وفيات ابن خلكان (10)، ومعجم البلدان (11) لياقوت الحموي، والشيخ سراج الدين بن الملقن (13)، وغيره.
“الحمد لله الذي خلق الوجود ودبر، وجعل مصر جنة ونهرها من سدرة المنتهى يتحدر، وذكرها في كتابه العزيز في آيات شريفة تذكر، فقصدت الصحابة إليها من كل محجر، ودفن بعضهم بها فصارت به تشكر. فسبحان مَن جعل سفح المقطم سكن أوليائه، وجعلهم غروسا وأودع فيه نفوسا إلى حين تنشر”.
(ابن الزيات – افتتاحية كتاب “الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة”)
أحد أبرز تلك المؤلفات كتاب “الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة” (14) في القرافتين الكبرى والصغرى لابن الزيات، إذ يُعَدُّ نوعا ما كتابا حديثا مقارنة بتلك المؤلفات، ما مكَّن ابن الزيات من الاطلاع على مجهودات سابقيه والاستقاء منها، وذلك بحسب قوله في تصدير كتابه: “فلقد نظرت إلى ما جمعوه وألّفوه، فرأيت كل واحد منهم ألَّف تأليفا وأدّى اجتهاده، فنسأل الله أن يجعلنا وإياهم من أهل السعادة”.
وابن الزيات (14) كما ورد في أعلام الزركلي هو محمد بن محمد بن عبد الله بن عمر الأنصاري العباسي السعودي، شمس الدين المعروف بابن الزيات، صوفي أزهري مصري، من مواليد القرن الثامن الهجري، وتوفي بخانقاه سرياقوس (من قرى القليوبية بمصر) عام 814 هجرية. وتتوفر من الكتاب طبعتان، الأولى طبعة المكتبة الأميرية في مصر عام 1907 وحققها أحمد تيمور (15)، أما الثانية طبعة مكتبة المثنى ببغداد عام 1968.
و”الكواكب السيّارة” هو الاسم الذي أطلقه العرب قديما على الكواكب التي تُرى من الأرض متجولة بين النجوم، وكان القدماء يَعتبرون الكواكب السيارة مميزة عن الثابتة. وأغلب الظن أن ابن الزيات استقى العنوان من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض”، وهو المعروف بحديث النجوم (16)، وقد ذكره العسقلاني والنيسابوري وابن حنبل وغيرهم من الأئمة بأسانيد مختلفة وألفاظ متغيرة، وأورده ابن الزيات كذلك في ثنايا كتابه.
أقسام الكتاب
يُرجع ابن الزيات سبب وضعه هذا المؤلف إلى “رغبة بعض الإخوة في كتاب يجمع ترتيب زيارة القرافة، ويصحح مَن دفن بها من الصحابة والتابعين والعلماء والمحدثين”. ويذكر بعد ذلك أسماء مؤرخين سابقين تناولوا الأمر ذاته، ويوضّح كيفية عملهم، فمنهم مَن قسّم الأولياء إلى 10 طبقات، لكن ابن الزيات لم يدرك سوى 4 طبقات فقط في تلك المصنفات، وهم بالترتيب: الصحابة، أهل البيت، التابعين، أرباب الأسباب. ومنهم مَن جعل القرافة جهتين؛ كبيرة وصغيرة، وذكر مساجد وقبور تلك الناحية بصورة مختصرة، أو أرّخ لفتح مصر وشهداء الفتح، كما ناقش فضل جبل المقطم، وهناك مَن أفرد لآداب زيارة المقابر وشروطها.
وعن نهج ابن الزيات في الكتاب يمكن القول إنه اعتمد أساسا جغرافيًّا، مع إعطائه الأولوية لآل البيت ثم الصحابة وأهل العلم، فقد قسّم مقابر سفح المقطم إلى 3 جهات، وجعل في كل جهة 10 فروع. الأولى هي اليمنى بعد عبور باب القرافة، وتحتوي على النقعة الصغرى والمشاهد ثم النقعة الكبرى والقرافة الكبرى، أما الثانية “الوسطى” تبدأ من مدفن الإمام ورش “عثمان بن سعيد” وتمضي باتجاه الغرب نحو مدفن الإمام الشافعي ومقبرة الدرياق المصيني، فيما الجهة الثالثة وهي الصغرى، تبدأ من الجبل وتمضي باتجاه تربة ابن دقيق العيد، وصولا إلى مدفن ابن عطاء الله السكندري والقاضي تقي الدين محمد.
ويُلزم ابن الزيات نفسه بذكر ما بقي من المدافن القديمة في كل جهة، وما اندثر منها ومواضع الخطأ، كذلك الاختلافات بين المؤرخين السابقين. كما أنه غالبا ما يسرد شيئا من تاريخ صاحب المقبرة ومناقبه وأهم محطات حياته، ثم يكشف أنه زار تلك المقابر واحدا بعد واحد ووقف أمامها، وهو الأمر الواضح من معرفته بما يحيط أي مدفن يتناوله، أو حين يصف في أحيان الألواح الرخامية والشواهد وطبيعة التربة حول المقبرة. بينما في أكثر من موضع في الكتاب يوجز الكلام حول نقطة ما، لكنه يعلن عن عزمه في الاستفاضة لاحقا عن تلك النقطة في كتاب آخر سمّاه “الخطط”، ولا نعلم هل فُقد هذا الكتاب فلم يصل إلينا؟ أم أن ابن الزيات لم يكتبه من الأساس؟
والكتاب يحتوي على 5 فصول؛ الأول: في فضل مصر ونيلها وجندها وما ورد فيها من الآيات الشريفة والأحاديث النفيسة، أما الثاني: في عجائبها، ثم الثالث: في مقطّمها وما عليه من المساجد والمعابد والأماكن المخصوصة بالعبادة، وما ورد فيه من المدح الشريف بنقل السلف، والرابع: في شروط الزيارة وآدابها وترتيبها، فيما الخامس وهو الأكبر حجما، ويكاد أن يكون هو الكتاب بالأساس، يأتي تحت عنوان: فيمن دخلها من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومَن دفن بها منهم، رضى الله عنهم أجمعين.
“رُوي أن المقطم كان أكثر الجبال أنهارا وأشجارا ونباتا، فلما كانت الليلة التي كلّم الله فيها موسى عليه السلام، أوحى إلى الجبال أني مكلم نبيا من أنبيائي على جبل منكم، فتطاول كل جبل وتشامخ إلا جبل طور سينا، فإنه تواضع وتصاغر، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه لِمَ فعلت ذلك وهو به أعلم، قال إجلالا لك يا رب! فأوحى الله تعالى إلى الجبال أن يجود له كل جبل بشيء مما عليه، فجاد كل جبل بشيء مما عليه إلا المقطم، فإنه جاد له بجميع ما كان عليه من الشجر والنبات والمياه، فصار كما ترونه أقرع، قال فلما علم الله تعالى ذلك منه أوحى إليه، لأعوضنك عما كان على ظهرك وأجعلن في سفحك غراس الجنة”.
(الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة)
المشهد النفيسي
هذا الفصل الخامس يستهلّه ابن الزيات بذكر مَن دخل مصر من الصحابة والتابعين، ويشير إلى مَن دُفن منهم في الأراضي المصرية، وكعادته، لا يترك اسما دون أن يعطي نبذة عنه وعن وصوله إلى مصر أو رحيله عنها. أحد الأمثلة هو الصحابي الجليل أبو أيوب بن زيد الأنصاري، حيث يروي حكاية نزول النبي في دار الصحابي عند وصوله إلى المدينة المنورة عقب الهجرة، ويضيف ابن الزيات أن النبي نزل في أسفل الدار فيما أبو أيوب وأهله في أعلاها، وكانت الليلة ممطرة، فقام أبو أيوب وزوجته وجففا الماء بثيابهما طوال الليل حتى لا يصل منها شيء إلى رسول الله، وفي الصباح قال لهما النبي: “إن الله شكر صنيعكما البارحة يا أبا أيوب”. ويختم ابن الزيات تناوله للصحابي الجليل بخبر وفاته في بلاد الروم، ويقول إن لأهل مصر فيه نحو 20 حديثا، وأنه لم يخرج من مصر إلا حين غزا في البحر، وهو أول مَن غزا في البحر من أصحاب رسول الله.
وفي ابتداء الزيارة، يوصي ابن الزيات أن يبدأ الزائر من قبر السيدة نفيسة حفيدة الإمام الحسن رضي الله عنهما، ويسوق ما يدعم رأيه، حيث إن مكان المدفن ثابت وصحيح ولم يختلف عليه أحد من المؤرخين السابقين. ويبدو ابن الزيات مغرما بأهل البيت رضي الله عنهم، لدرجة ألا يلتزم معهم حياد المؤرخ والباحث، فهو يسرد روايات شعبية عن معجزات أهل البيت دون سند، ويذكر أن السيدة نفيسة كانت على صلة بالكثير من النساء الصحابيات في المدينة المنورة، فيما أن السيدة وُلدت عام 145 هجرية، ولم تكن ثمة صحابيات على قيد الحياة في ذلك الوقت!
أحمد بن طولون وقبره المجهول
يستعرض ابن الزيات تاريخ العديد من المساجد الأثرية المتاخمة لمقابر الصالحين، وأول ما يأتي على ذكره هو جامع القرافة المشهور بجامع الأولياء، وكان يُعرف بمسجد القبّة وقتما بناه عبد الله بن مانع، ثم تجدد بناؤه على يد السيدة المعزية “والدة العزيز بالله نزار الفاطمي” في سنة 366 هجرية، وكان على نحو بناء المسجد الأزهر. وابن الزيات يضع المسجد في ختام الجهة الأولى، تحديدا في منطقة القرافة الكبرى، ثم ينطلق منه إلى ما حوله من مشاهد الصالحين والعلماء.
وبعدما يفرغ من الجهة الثانية، التي تضم مقابر الإمامين ورش والشافعي، يتوقف ابن الزيات عند بناء جامع أحمد بن طولون، ليذكر أن المسجد مقام فوق ربوة صخرية معروفة لدى القدماء باسم جبل يشكر، الذي كان رجلا صالحا حسبما روى السابقون. ويحكي ابن الزيات أن أحمد بن طولون لما رغب في إنشاء الجامع، أشار عليه جماعة من الصالحين أن يقيمه على هذا الجبل، وذكروا له فضائل كثيرة، منها أن الناس اعتادوا ارتياد تلك البقعة للصلاة، فقبل وأدخل فيه بيت يشكر، ثم ملأ المسجد بالعنبر كي يفوح ريحها على المصلين، وأمر الناس بالصلاة فيه فامتنعوا، ولم يجتمع فيه أحد من الناس، إذ ساد اعتقاد أنه بناه من مال لا يعرفون أصله، وعزَّ ذلك على أحمد بن طولون فصعد المنبر في يوم الجمعة وخطب، وأقسم أنه ما بناه من مال حرام وإنما من كنز عثر عليه في جبل المقطم!
ويضيف ابن الزيات أن حول الجامع قبور جماعة من الصالحين والعلويين والجعافرة. ورغم أن موقع مدفن ابن طولون غير معلوم إلى وقتنا هذا، فإن ابن الزيات يستهل قبور الجهة الثالثة “الصغرى” بالمدفن، ويشير إلى وجوده بالقرب من باب القرافة، دون تحديد موقعه بشكل دقيق أو وصف هيئته كما اعتاد مع مقابر أخرى، لكنه يذكر أن التربة القوصونية وقبر ولي الدين الملوي (17) يتلوان مقبرة ابن طولون، بينما في الجنوب بالقرب منها يرقد الفلكي الشهير نجم الدين محمد.
______________________________________________
المصادر:
- 1- كتاب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة – يوسف بن تغري بردي
- 2- سفيان بن وهب الخولاني، موسوعة رواة الحديث.
- 3- الموسوعة الصوفية: عمر بن الفارض.
- 4- جمهرة الأولياء محمود أبو الفيض الحسيني.
- 5- كتاب الأعلام – الزركلي.
- 6- كتاب مرشد الزوار إلى قبور الأبرار – موفق الدين بن عثمان.
- 7- موسوعة التراجم والأعلام – ابن الجباس
- 8- مصباح الدياجي وغوث الراجي وكهف اللاجي – مجد الدين بن محمد بن الناسخ.
- 9- ابن عبد البر – المكتبة الشاملة.
- 10- كتاب وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان – ابن خلكان.
- 11- معجم البلدان – ياقوت الحموي.
- 12- عمرو بن أحمد التكروري سراج الدين بن الملقن.
- 13- الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة – محمد بن محمد بن الزيات. المطبعة الأميرية – مصر – 1907.
- 14- ابن الزيات – الأعلام – الزركلي.
- 15- أحمد تيمور – موقع مؤسسة هنداوي.
- https://www.hindawi.org/contributors/63682491/
- 16- حديث النجوم
- 17- ولي الدين الملوي – مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية – جامعة الاسكندرية – مصر.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.