بعد عودة بشار.. هل انتهى الربيع العربي أم فشلت الثورة المضادة؟ | آراء


في كتابي الأول بعد السجن الذي حمل عنوان: “سردية الربيع العربي ورهانات الواقع” -الصادر عن دار المرايا بالقاهرة 2021- ميزت بين سردية الربيع العربي، وبين الأشكال التي تأخذها ومنها الانتفاضات في الميادين والشوارع.

وهناك فرق بين السردية وبين الأشكال التي تعبر عنها، ففي الأولى نبحث عن الجوهر الذي هو تطلع شعوب المنطقة خاصة الفئات الشابة والنساء إلى الحرية والعدالة والمساواة. هو تطلع إنساني عام لا يخص شعوب المنطقة، لذا فقد ناديت على موقع الجزيرة نت أن “يا محتجي العالم اتحدوا” وفيه ربطت بين النيوليبرالية وبين العنصرية؛ حين تصورت أنه بمناهضة الأولى نقضي على الثانية، والكفاح ضد العنصرية في قلبه مناهضة النيوليبرالية.

وشهدنا من بداية الألفية الثالثة نضالات واحتجاجات متنوعة، أخذت طابع الموجات التي تتصاعد تارة وتخبو أخرى، يعرب المتظاهرون فيها عن غضبهم من وحشية الشرطة والفساد ورأسمالية المحاسيب وغطرسة من هم في السلطة ومن يمتلكون الثروة والتلاعب بالسياسة وضعف المؤسسات السياسية عن تمثيل الناس وتهميشهم الجماعي، وتفاقم التفاوتات في الثروة والدخل والفرص… تطول القائمة، ولكن ما يجمعها طلب إنساني عالمي على الكرامة والعدالة والحرية.

وهكذا يتحد المحتجون، ونرى التكامل والتضافر بين القضايا التي نناهضها.

ويجب رؤية الربيع العربي من منظور عالمي لا يخص شعوب المنطقة فقط، على الرغم من أن قوى “الثورة المضادة” -في الإقليم وخارجه- أرادت أن تعتبره السبب الرئيسي في حالة “الاضطراب العربي” التي تعيشها المنطقة في أعقابه، بما يسمح بالنظر إليها باعتبارها استثناء في كل شيء ومن كل شيء؛ وهو خطاب شاع في النظر الغربي إلينا، وأخشى أنه قد تسرب إلى بعضنا.

وساعدني التمييز بين سردية الربيع العربي -أي البحث الذي لن يتوقف عن الحرية والعدالة والكرامة وسائر القيم الإنسانية- وبين الأشكال التي يمكن أن يتخذها هذا التطلع من انتفاضات واحتجاجات في الشوارع، وأشكال أخرى من التمرد على التابوهات المستقرة في الدين والأسرة والثقافة والمجتمع. ساعدني في إدراك هذا التمييز أني خرجت من السجن -وقد غيبت ثلاث سنوات ونصف السنة- لأجد الموجة الثانية من الانتفاضات العربية لاتزال تملأ الشوارع والميادين في السودان ولبنان والعراق والجزائر.

يجب رؤية الربيع العربي من منظور عالمي لا يخص شعوب المنطقة فقط، على الرغم من أن قوى “الثورة المضادة” أرادت أن تعتبره السبب الرئيسي في حالة “الاضطراب العربي” التي تعيشها المنطقة في أعقابه

وكان من المفترض وقد نتج عن الموجة الأولى -على حد زعم الثورة المضادة- 3 حروب أهلية في اليمن وسوريا وليبيا، وملايين النازحين والمهجرين، واستعادة الاستبداد سطوته كما جرى في مصر، بالإضافة إلى تدهور مستويات معيشة المواطنين في بلدان الموجة الأولى من الربيع العربي.. إلخ؛ كان من المفترض أن تعتبر بما جرى شعوب البلدان التي لم تخرج في الموجة الأولى فتمتنع عن الاحتجاج وتكف عن الحراك، ولكنها لم تعتبر أو تمتنع؛ فلماذا؟

وهنا قدمت مفهوم “النموذج الانتفاضي العربي” الذي شهدنا وفقا له 3 موجات حتى الآن: اثنتان في 2010/2011 و2018/2019، والثالثة هي الانتفاضات الفلسطينية التي دشنتها سيف القدس ولا تزال مستمرة حتى الآن.

فالنموذج الانتفاضي العربي له سمات أربع: الإنسان/السر، شدة تعقيد الواقع، خصوصية كل مجتمع واختلاف سياقاته، وأخيرا وليس آخرا؛ الانتقال من أيديولوجيا الهوية إلى خطابات المعاش.

والنموذج الانتفاضي العربي سمح لي بالمجادلة بأن سردية الربيع العربي تعلن نهاية صيغ القرن العشرين، وفي القلب منها دولة ما بعد الاستقلال التي قامت على مفاهيم تشهد تحولا كبيرا مثل السيادة والاستقلال …إلخ، والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التي استندت إلى أيديولوجياتٍ شمولية، وأننا بصدد صيغ جديدةٍ لم تتمأسس بعد؛ فقد غلب عليها الاحتجاج وافتقدت إلى بلورة قاعدتها الاجتماعية الحاضنة والدافعة لها، وإن اتخذت مظاهر قيمية وثقافية وسياسية عميقة؛ فما ظهر بشكلٍ ملموسٍ هو عجز الحركات الاجتماعية أو اللا-حركات الاجتماعية (مهما كان اتساعها ومهما بلغت مثابرتها، وحتى حين ترفع مطالب محدّدة)، عجزها عن تحقيق ما تصبو إليه.

والربيع العربي وفق هذا المنظور هو تعبير عن تحول تاريخي في المنطقة، يعلن نهاية الصيغ القديمة في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع، وبحثٌ عن جديد لم يتبلور بعد. هو إعلان عن نهاية حقبة وبداية أخرى جديدة، فالمنطقة تعيش في طور انتقالي بين قديم مرتحل وجديد لم يتمأسس بعد. ومن ثم، نحن نعيش مرحلة “خلو العرش” بتعبير زيغموند باومان في كتابه “الحداثة والهولوكوست”، والذي قدر لي مطالعته بعد تهريبه لأول مرة في زنزانة سجن العقرب التي تشبه القبر.

فخاخ الاستقرار وفشل الثورة المضادة

في كتاب محرر صدر عن مؤسسة نواة بمناسبة مرور عقد على الربيع العربي؛ كانت مساهمتي هي مناقشة مفهوم الاستقرار في علاقته بالانتفاضات العربية.

وهناك طلب متزايد منذ لحظة انفجار الربيع العربي وحتى الآن -أي بعد عقد- على الاستقرار في المنطقة العربية من الأطراف الفاعلة كافة، وطنية وإقليمية ودولية، بما يدفعها جميعا للاستثمار فيه، إلا أن التنافس فيما بينها حول تحديد مضمونه ومحاولة فرضه والمقايضات المطلوبة له كانت أحد الأسباب الأساسية وراء ما بات يعرف بـ “الإنهاك العربي”.

وكان الافتراض الأساسي وراء هذه المقالة أن: الاستقرار الذي غاب عن المنطقة بعد الانتفاضات العربية يقع في مساحة تتقاطع فيها العوامل الداخلية مع الإقليمية والدولية، وأنه بدون خلق وإيجاد المساحات المشتركة التي تتناغم فيها هذه المستويات الثلاثة لن تقر المنطقة على المدى الطويل.

النموذج الانتفاضي العربي له سمات أربع: الإنسان/السر، شدة تعقيد الواقع، خصوصية كل مجتمع واختلاف سياقاته، وأخيرا؛ الانتقال من أيديولوجيا الهوية إلى خطابات المعاش

ووفق هذا المنظور قمت بصياغة مفهوم: “فخاخ الاستقرار”، ويقصد به: تلك الساحة التي تتراكم فيها تناقضات مرتكزات الاستقرار -كما تقدمه الفواعل الداخلية والإقليمية والدولية- والتي تتغذى أساسا على المخاطر والمظالم التي لا يتم معالجتها؛ فالسعي لتحقيق هدف الاستقرار قصير الأجل قد يأتي في بعض الأحيان على حساب الهدف طويل الأجل لتعميق الاستقرار، وحينئذ فإن الأنشطة التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار وتلبية الاحتياجات العاجلة غالبًا ما تفشل في معالجة القضايا الهيكلية، بل إنها تؤدي إلى تفاقم هذه القضايا الأساسية التي تسبب المظالم وتفاقم المخاطر.

وهذا ما تحقق بتمامه وكماله في البلدان التي اختطفتها الثورة المضادة أو استردتها (ريكونيكستا Reconquista) بالمعني الذي قامت به الممالك المسيحية في الأندلس؛ بحيث باتت هذه البلدان جميعا أقرب إلى الاضطراب وعدم الاستقرار منها إلى الاستقرار المنشود، بما يمكن معه القول بفشل الصيغ التي طرحتها الثورات المضادة في المنطقة.

ولنضرب بعض الأمثلة:

  • في السودان تعاقبت الانقلابات منذ الانتفاضة الشعبية على الرئيس عمر البشير. بلغت أربعا حتى الآن: بدأت عام 2019 ضد البشير، وأعقبتها أخرى ضد عوض عوف (قائد الجيش)، ثم ضد رئيس الوزراء المدني حمدوك في أكتوبر/تشرين الأول 2021، وأخيرا وليس آخرا؛ الأحداث الجارية الآن التي هي انقلاب المكونين العسكريين اللذين قادا الانقلابات السابقة على بعضهما البعض.
    موجة انقلابات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده -يد الاصلاح- منها لا يكد يراها، وتتقاطع فيها المصالح الدولية والإقليمية مع تطلعات شخصية، واقتصاد سياسي يستند إلى تجارة الذهب ومكون تجاري عسكري وشبكات امتياز وخدمات إستراتيجية تقدم للأطراف الإقليمية، كما جري في حرب اليمن.
    أظن أن السودان أبعد عن الاستقرار -وفق هذه الصيغة- ناهيك عن تداعيات ذلك على شعبه ومجمل المنطقة.
  • مصر التي تم فيها استعادة الاستبداد وتعاظمه وامتد إلى مجالات عدة. هذه الصيغة التي تداعت على صنعها أطراف محلية وإقليمية ودولية بات -لأسباب عدة في مقدمتها الأزمة الاقتصادية الطاحنة- سؤال المستقبل والخوف من الانزلاق إلى اضطرابات اجتماعية مطروحا بشدة؛ ناهيك عن حالة الإنهاك التي يعاني منها المجتمع ومؤسسات الدولة والنظام على السواء.
  • تونس التي اختطفها خطاب شعبوي سلطوي مدعوم من قوى إقليمية ودولية، بالإضافة إلى أجهزة الأمن؛ تتعمق أزمتها الاقتصادية والسياسية بشدة. تنتهي أحدث إحاطة لمجموعة الأزمات الدولية إلى أنه: “لم تؤد أفعاله [يقصد قيس سعيد] بعد إلى اضطراب واسع النطاق، لكن بدون خطوات لاستعادة الاستقرار الاقتصادي وتخفيف القمع، قد تواجه البلاد مثل هذه الاضطرابات على الرغم من ذلك”.

ويمكن أن نسوق عديدا من الأمثلة من لبنان والعراق واليمن وليبيا التي اجتاحتها الثورات المضادة التي فشلت في جلب الاستقرار لشعوبها أو معالجة سوء أوضاعهم المعيشية، لذا فإن سوريا بعودتها إلى الجامعة العربية سائرة إلى نفس المصير إلا إذا تم البحث عن صيغة جديدة للمستقبل.

ملحوظات على المشهد

تتبقي 3 ملاحظات مهمة:

  • الأولى: أن ما شهدناه في القمة العربية الأخيرة بجدة 19 مايو/أيار الجاري 2023 هو عودة بشار الأسد إلى النظام الرسمي العربي، وليس عودة سوريا إلى العرب. فقد ثبت في حقبة الربيع العربي أن سوريا أكبر وأوسع من الأسد، وأنه ليس هناك تطابق كامل بين توجهات الرأي العام العربي وبين أنظمته، وخير مثال على ذلك هو التطبيع مع الكيان الصهيوني إذ ترفضه أغلبية كاسحة من شعوب المنطقة برغم الهرولة التي شهدناها على اتفاقيات التطبيع.
    ولن أناقش في هذا المقال انتهاء الأسس التي قام عليها النظام الرسمي العربي من مثل مفاهيم الدولة الوطنية، والاستقلال، والسيادة. هذه المفاهيم تجري إعادة تعريفها الآن على قدم وساق؛ بمعنى أنه لا يمكن الحديث عنها دون تجديد أصول الدولة وإصلاح هياكلها وإعادة صياغة العقود الاجتماعية التي قامت عليها.
  • الثانية: أن الأسباب التي أخرجت الجماهير إلى الشوارع من تفش للفساد وسوء توزيع الدخل والفرص والثروة وانتهاك لحقوق الانسان وغياب للحريات لاتزال قائمة، وما طرح من صيغ حتى الآن في الاقتصاد والسياسة لم يعالجها، بل زادها تفاقما كما قدمت.
  • الثالثة: أن نظرة أكثرية شعوب المنطقة للربيع العربي لاتزال إيجابية برغم ما جرى من تداعيات بعده، وما ينسب إليه من خطايا.

أظهرت الاستطلاعات أن 46%؜ من الرأي العام العربي يرون أن الثورات والاحتجاجات التي جرت في 2011 إيجابية، مقابل 39%؜ رأوها سلبية.

وأظهرت النتائج أيضا أن الكتلة الكبرى من الرأي العام في المنطقة (40%) يرون أن: “الربيع العربي يمر بمرحلة تعثر، إلا إنه سيحقق أهدافه في نهاية المطاف”. في حين أيد 39% عبارة أن: “الربيع العربي قد انتهى، وعادت الأنظمة السابقة إلى الحكم”.

وبرغم الانقسام البادي بين العرب؛ إلا أن ذلك لا يعني أن هناك قطاعات منه لن تسعى أو تتطلع إلى التغيير في المستقبل المنظور.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post حصاد مُشاركة التعاون الدولى بالاجتماعات السنوية للبنك الأفريقى للتنمية بشرم الشيخ
Next post بشكل متزامن.. أردوغان وكليجدار أوغلو يصوتان في جولة الإعادة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading