انتفاع الميت بعمل غيره | تفكيك حِجَاج رشيد رضا (2) | آراء


أوضحت -في المقال السابق- التاريخ الحديث لاستشكال مسألة انتفاع الميت بعمل غيره ووصول الثواب إليه؛ فقد كان رشيد رضا (عام 1935) سباقًا إلى استشكال المسألة ورفض فكرة مطلق انتفاع الميت بعمل غيره، وتابعه -على ذلك – بعض رموز الوهابية. وأوضح المقال -أيضًا- كيف أن هؤلاء تمسكوا بالظواهر والعمومات وضاقوا بالخلاف الفقهي المذهبي، بل تجاوزوا مذهب الإمام أحمد بن حنبل ومقولات ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، الأمر الذي عكس إحدى أبرز سمات السلفية المُحدَثة.

أما هذا المقال، فيتناول بالنقد والتحليل طريقة رشيد رضا في التفقه من خلال المسألة محل البحث، وهي انتفاع الميت بعمل غيره، وكيف أن ميوله وقناعاته جعلته انتقائيًّا لجهة التعامل مع المعلومات والحجج معًا، وكيف أنه وظف تقنيات خطابية لا تصلح للحجاج الفقهي؛ طلبًا للغلبة في النقاش، بل إنه خرج عن الحجاج الفقهي كليةً باتهام أصحاب الرأي المخالف باتباع الهوى وعدم الحرص على الدين ومسايرة الأعراف الاجتماعية؛ بما يخدم حملته على “التقليد الفقهي” ومن يصفهم بالمقلدة!.

ناقش رضا هذه المسألة وأطال النفَس فيها في تفسير المنار، ثم لخصها في مجلة المنار، وقد جرى في النقاش على غير نظام، بل خلط بين فروع المسألة دون تمييز، كخلطه بين القراءة عن الميت والقراءة عند القبر، وبين إهداء ثواب القراءة للمسلم وإهدائها للنبي صلى الله عليه وسلم (فهناك من فرّق بينهما). ولا عجب في ذلك فرضا لا يلتزم بتقاليد الفقه (كتحرير فروع المسألة، وتَبَين مدارك الفقهاء وحججهم، وبيان المعتمد في كل مذهب، إلى غير ذلك). فيما يأتي سأصوغ -بطريقة منهجية- حجج رضا لنفي مطلق انتفاع الميت بعمل غيره، ثم أبين وجه الإشكال فيها بالنظر إلى المصادر التي نقل هو عنها، وخاصة كتاب “الروح” لابن قيم الجوزية، لبيان أوجه الخلل والقصور في طريقة رضا في التفقه وتحيزاته غير المتماسكة.

ويمكن ردّ نقاش رضا المطول في المسألة إلى 4 حجج رئيسة كالآتي:

الحجة الأولى: التمسك بعمومات القرآن

فعمومات القرآن تدل -بحسب رضا- على أن الجزاء معلق بعمل المرء لنفسه فقط، كقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، وقوله تعالى: (وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى)، وقوله تعالى: (ولا تُجزون إلا ما كنتم تعملون). ووجْهُ الاستدلال -عنده- أن هذه الآيات من قواعد الدين وأصول الإسلام، وأنها “صريحة وقطعية”. ولكن ههنا 3 ملحوظات نقدية على طريقة رضا في الفهم، ذات منزع ظاهري، وهي:

الملحوظة الأولى

الآيات التي أوردها رضا تنفي أن يُزاد على الإنسان في سيئاته أو أن يُنقص من حسناته أو أن يُعاقب بعملِ غيره، ولكنها لم تَنف أن يَنتفع المرء بعمل غيره على غير وجه الجزاء؛ لأننا نسلم بأن الجزاء يكون على عمل المرء لنفسه، ولكن انتفاع الميت بما يُهدى إليه لا يسمى جزاءً، وإنما هو صدقة تصدق الله بها عليه وتفضل بها عليه من غير سعيٍ منه، بل وهبه ذلك على يد بعض عباده لا على وجه الجزاء، بحسب ما أوضحه ابن قيم الجوزية. ومن اللافت أن رضا أفاد من نقد ابن القيم لتفسيرات المفسرين لآية (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، ولكنه لم يَتَنبه إلى أن ابن القيم لا يرى أن ثمة تعارضًا بين عموم هذه الآية وبين القول بوصول الثواب إلى الميت بعمل غيره، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية صنف رسالة في تفسير هذه الآية، فنّد فيها ادعاءات من استدل بها على نفي انتفاع الميت بعمل غيره. وقد خلص ابن تيمية إلى القول: إن القرآن “لم يقل: لا ينتفع إلا بما سعى”، وإنما نفى مِلكه لغير سعيه، والإنسان ينتفع بما يملكه وبما لا يملكه؛ فلا يَلزم من نفي المِلك نفيُ الانتفاع!.

الملحوظة الثانية

ألح رضا -في سياق إثبات رأيه- على القول بأن الآيات “قطعية وصريحة” لإيهام قارئه بأن من يخالفه مخالف للنص ومتبع للهوى، وهذا خروجٌ عن محل النقاش؛ فالنقاش في تأويل هذه الآيات وكيفية الجمع بينها وبين النصوص المتظاهرة الدالة على أن الميت ينتفع بعمل غيره، كالحج والصوم والصدقة عن الغير وفيها كلها أحاديث صحيحة. فلم ينازع أحدٌ في كون الجزاء معلَّقًا بالعمل وأنه قاعدة الإسلام الكبرى، وإنما النزاع في: هل يتعارض ذلك مع القول بانتفاع الميت بعمل غيره؟ وهل يسمى ذلك جزاءً؟ هذا الذي غفل عنه رضا هنا أو تجاهله.

الملحوظة الثالثة

اضطر رضا أمام الأحاديث الصحيحة الثابتة في صحة الحج والصوم والصدقة عن الميت إلى إثبات القول بها؛ ولكن مع تقييدها بعمل الأولاد فقط وأن ذلك مجرد استثناء. ولكن رضا لم يتبنه إلى أن هذا الاستثناء يعارض الآيات “القطعية الصريحة” التي يحاجج بها، كما “ينافي القاعدة التي ذكرها في الجزاء” وأنه مقيد بعمل المرء لنفسه فقط. وحين أحس بهذا التناقض هرب إلى القول: “مَن بيده أمر الثواب والعقاب استثنى من عموم هذا الأصل، لا بل ألحق به شيئا لا ينقضه ولا يَذهب بحكمته، وهو انتفاع بعض الوالدين المؤمنين ببعض عمل أولادهم”.

الملحوظة الرابعة

استدل رضا بحديث “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث” لنفي انتفاع الميت بعمل غيره؛ في حين أن ابن القيم فنّد هذا الاستدلال الذي وظَّفه رضا هنا ضده لإيهام قارئه بأنه ابن القيم غفل عن جملة من الأمور!. قال ابن القيم: “الاستدلال بهذا الحديث استدلال ساقط؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقل: انقطع انتفاعه، وإنما أخبر عن انقطاع عمله. وأما عمل غيره فهو لعامله، فإنْ وَهَبه للميت فقد وصل إليه ثواب عمل العامل لا ثواب عمله هو. فالمنقطع شيء والواصل شيء آخر”. وقد سبق إلى هذا المعنى شيخ الإسلام ابنُ تيمية فقال: “ليس في الآية ولا في الحديث ما يقتضي أن الميت لا ينتفع بدعاء الخلق له وبما يُعمل عنه من البِر، بل أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بذلك، وهذا مما يُعلم بالاضطرار من دين الإسلام، وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع. فمن خالف ذلك كان من أهل البدع”. فتأمل هذا الكلام وكيف أن رضا الذي يزعم محاربة البدع هو نفسه -وفق كلام ابن تيمية- قد يكون من أهل البدع بهذا المسلك!.

أما الاحتجاج بآية (وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى) لنفي انتفاع الميت بعمل غيره، فقد قال ابن تيمية عنه: إنه “حجة باطلة؛ بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين”، ثم أطال النفس في بيان بطلان هذا الاستدلال الذي استدل به رضا بعد قرون، وبيّن ابن تيمية أنه اتفق المسلمون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي الصلاة على الميت والدعاء له والشفاعة فيه، واتفقت الأمة على أن الصدقة تنفع الميت؛ فالله تعالى يثيب الداعي للميت وينفع المدعو له، وقال ابن تيمية في موضع آخر: “من احتج على منع الإهداء بقوله: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) فهو مبطل لتواتر النصوص واتفاق الأئمة على أن الإنسان قد ينتفع بعمل غيره، والآية إنما نفت الاستحقاق لسعي الغير، ولم تنف الانتفاع بسعي الغير، والفرق بينهما بيِّن”.

الحجة الثانية: التمسك في العبادات بالسنة العملية

إحدى الحجج المركزية عند رضا، هي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولا أُثر ذلك عن السلف، ولا يُعلم أن أحدًا ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ على القبور عند زيارتها. وزعم رضا -في رده على ابن القيم- أن نفي كون القراءة من عمل السلف هو الأصل فلا يُطالب النافي بإثباتٍ. وههنا ملحوظات نقدية كالآتي:

الملحوظة الأولى

لم يميز رضا هنا بين انتفاع الميت بثواب القراءة، وبين القراءة عند القبر. فانتفاع الميت بعمل غيره ثابت في الأحاديث النبوية الصحيحة (كالصوم والحج والصدقة عن الغير). أما القراءة عند القبر فهي ثابتة عن بعض السلف كما سأوضح.

الملحوظة الثانية

اجتزأ رضا كلام ابن القيم ونقولاته (وهو مصدره الرئيس في المسألة)، فقد تجاهل أن “جماعة من السلف أوصوا أن يُقرأ عند قبورهم وقت الدفن”، بل إن الإمام أبا بكر الخلال (ت. 311هـ) صنف جزءًا في “القراءة عند القبور”، وأسند فيه عن الإمام التابعي الشعبي (ت. 103هـ) أن الأنصار كان إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرؤون عنده القرآن، وأن الإمام الشافعي سئل عن القراءة عند القبر فقال: لا بأس به. ونقل الماوردي نحو ذلك عن الشافعي أيضًا. وقال الإمام عبد الحق الإشبيلي المالكي: يُروى أن عبد الله بن عمر أمر أن يُقرأ عند قبره سورة البقرة، وهذا النقل عن ابن عمر توارد عليه أئمة المذهب الحنبلي، ومنهم ابن تيمية وابن القيم. وممن رأى القراءة عند القبر الإمام التابعي العلاء بن عبد الرحمن.

أما الإمام أحمد بن حنبل فقد كان ينكر القراءة عند القبر أولاً، ثم رجع عن ذلك بعد أن بلغه الأثر في جوازها، وقد حكى عنه أصحابه ذلك، ومنهم أبو بكر الخلال، ولكن رضا اجتزأ كلام أحمد في أن القراءة عند القبر بدعة، وترك تتمة الكلام الذي نقله ابن القيم، وراح يضعفه؛ رغم أن المصدر واحد في الكلام. وتجاهل رضا -أيضًا- نص المذهب الحنبلي الذي نقله هو عن ابن مفلح، ولفظه: “لا تُكره القراءة على القبر وفي المقبرة. نص عليه”، أي نص عليه الإمام أحمد وهو معتمد المذهب.

الملحوظة الثالثة

قال ابن القيم: جرى عمل الناس قديما -وإلى الآن- على تلقين الميت في قبره، ولولا أنه يَسمع ذلك ويَنتفع به لم يكن فيه فائدة. وسئل أحمد عنه فاستحسنه واحتج عليه بالعمل. ويُروى فيه حديث ضعيف، ولكن اتصال العمل به في سائر الأمصار من غير إنكار كاف في العمل به. بل إن ابن تيمية بعد أن ذكر في تلقين الميت 3 أقوال، قال بإباحته.

الحجة الثالثة: الأحاديث

رأى رضا أن الأحاديث المستَدَل بها في المسألة لا تدل لانتفاع الميت بعمل الحي، وراح يبذل أقصى جهده لصرفها عن تلك الدلالة، وقد أطال فيها في مواضع متفرقة من دون نظام متماسك. وإذا جمعنا كلامه المتفرق حول الأحاديث من أطرافه يمكن أن نصنف الأحاديث ذات الصلة بالمسألة إلى 3 أصناف:

  1. أحاديث صحت ولكنها محمولة على معنى خاص واستثنائي.
  2. أحاديث زعم رضا أنها لم تصح وراح يضعفها بكل سبيل.
  3. أحاديث أجهد رضا نفسه لإثبات أنه لا دلالة فيها على انتفاع الميت بالقراءة.

أما الصنف الأول، وهو الأحاديث الصحيحة الواردة في صحة الصوم والحج والصدقة عن الغير، فقد أوّلها رضا على أن المراد بها هو فعل الولد عن أحد أبويه فقط؛ ليُثبت لها خصوصية من هذه الجهة، وليمنع من تعميم معناها في انتفاع الميت بكل قُربة من غيره. وحين اصطدم بالحديث الصحيح: “من مات وعليه صوم، صام عنه وليه” زعم أن المراد بالولي هنا هو الولد حصرًا لتَسلم له القاعدة التي ألزم نفسه بها، وهي أن الجزاء مرتبط فقط بعمل المرء لنفسه، وقال: إن “ولد المرء من عمله”.

وعند التدقيق نجد أن رضا قلّد -في هذا كله- الشيخ محمد علي الشوكاني (ت. 1834م) الذي سبقه إلى هذه التأويلات، ورأى أن العمل من غير الولد لا يصل ثوابه إلى الميت؛ تمسكًا بعمومات القرآن، مع أن رضا أخّر نقل كلام الشوكاني في تفسيره، وحين جاء به اتهمه بالاضطراب. وسبق لابن تيمية أن ردّ هذا التأويل الذي مال إليه رضا تقليدًا للشوكاني. قال ابن تيمية: “ولا يقال هذا مختص بالولد؛ ففي الصحيحين عن ابن عباس أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أختي ماتت وعليها صوم شهرين متتابعين”، فأجاز لها النبي صلى الله عليه وسلم القضاء عنها.

وفي رواية: “فجاءت قَرابةٌ لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم” فقال: صومي عنها. وقال ابن تيمية عن حديث “صام عنه وليه”: إنه “يتناول الولد وغيره ممن يكون وليًّا للميت؛ فلا يجوز أن يقال إن الحكم مختص بالولد”، وقال: إن الإجماع على أن الدعاء والصلاة على الميت ينتفع بها، سواء كانت من ولده أم من غير ولده، بل في الأحاديث الصحيحة التي سردها ابن تيمية أنه صلى الله عليه وسلم “أمر بحج الفرض عن الميت وبحج النذر كما أمر بالصيام، وأن المأمور تارة يكون ولدا وتارة يكون أخًا، وشبّه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالدَّين يكون على الميت، والدَّين يصح قضاؤه من كل أحد”، فدل على أنه لا يختص بالولد؛ فضلاً عن أنه جاء النص على الأخ أيضًا.

أما الصنف الثاني من الأحاديث، وهو الأحاديث الدالة على قراءة القرآن عند الميت (كحديث علي في قراءة “قل هو الله أحد”، وحديث قراءة “يس” في المقابر، وحديث قراءتها عند المحتضر، وغيرها)، فزعم رضا أنها لا تصح؛ لمجرد أنه لم يجدها في المصادر الشحيحة التي رجع إليها. بل إنه قلل -في جوابه على سؤال الحوامدي- من أهمية البحث والتفتيش عن مثل هذه الأحاديث، ورأى أنه “من إضاعة عمر الإنسان أن يبحث عن كل ما يراه في كتب المتأخرين من الأخبار والآثار الشاذة والمنكرة المخالفة للأصول العامة المقررة في القرآن والسنن الثابتة ليعلم ما عسى أن يكون لها من رواية، وماذا قيل في إسنادها”، وقد كرر الزعم بأن هذا كله في كتب المتأخرين، وهذا زعم باطل ناتج عن قلة تَتَبع من رضا.

أما الصنف الثالث من الأحاديث، وهو الأحاديث التي نفى أن يكون فيها دلالة على انتفاع الميت بعمل غيره، فقد ختم رضا نقاشه بجملة منها زعم أنه “اغتر بها بعض القائلين بانتفاع الموتى بكل ما يُعمل لأجلهم أو يُهدى إليهم من ثوابٍ وغيره”، وراح يؤولها لتلائم رأيه، كحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع جريدتين على قبرَي اللذين يُعذبان، وجعله “واقعة حال في أمر غيبي” ومن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم؛ رغم أنه يمكن أن يقال هنا: إنه خلط هنا بين معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بحال الرجلين بإطلاع الله له، وبين انتفاعهما بوضع الجريدتين على قبرهما وهو محل النقاش. وكحديث “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شُبْرُمة. فقال: “من شبرمة؟ ” فقال: أخي أو قريب لي. قال: “هل حججت؟” قال: لا. قال: “فاجعل هذه عنك، ثم حُجَّ عن شبرمة” وضعف هذا الحديث رضا؛ رغم أن الحديث صححه غير واحد كابن خزيمة وابن حبان والضياء المقدسي وبعض المعاصرين، وقال الإمام البيهقي: “هذا إسناد صحيح ليس في هذا الباب أصح منه”، وأعلّ الحديث آخرون بأنه موقوف والكلام فيه يطول.

الحجة الرابعة: القياس أو التعليلات العقلية

اضطرب كلام رضا هنا؛ فرغم أنه اختار في العبادات التمسك بالنص والوقوف عند الظاهر، إلا أنه خاض في تأويل ظواهر لا تشهد لرأيه، وخاض في بعض التعليلات العقلية لتأييد اختياره ولدفع حجج المجيزين بأي طريقة كانت، وتجاهل أقيسة عقلية ضرورية لاتساق النقاش ووحدة المنطق الداخلي للنصوص الحديثية مع الفروع الفقهية المبنية عليها. وهنا أورد 3 نقاط:

النقطة الأولى

من حجج القائلين بانتفاع الميت بعمل غيره: أنه لا فرق بين الحج والصوم والصدقة عن الغير من جهة، وبين قراءة القرآن وهِبةِ أجره للغير من جهة أخرى. ولكن رضا فرّق بين هذه المتماثلات بالقول: إن قضاء الصيام والحج والصدقة عن الميت يختلف عن قراءة القرآن؛ لأن هذه حقوق ثبتت على الوالدين أو صدقة كان المتوقع من أحدهم الوصية بها، فقام مقامهم أولادُهم فيها أو تبرعوا عنهم، فهي ليست كقراءة القرآن التي ليست مفروضة على الأعيان في غير الصلاة، وليست من الأعيان المملوكة كالمال. فالعمل (الصوم والحج والصدقة) هنا مختلف عن قراءة القرآن، والعامل المأذون له به له خصوصية (وهو الولد حصرًا). ولبيان عدم تماسك كلام رضا ملحوظات نقدية. فما ذكره رضا (الحج والصوم والصدقة) إن كان حقوقًا ثبتت في الذمة؛ وجب أن يكون قضاؤها من الولد واجبًا عليه، ولم يقل بذلك أحد فيما أعلم!. وإن كان ذلك حقوقًا ثبتت في الذمة أن تصح من عموم أولياء الميت وليس فقط من الولد وهو ما لا يقبله رضا!. ثم إذا صحت النيابة عن الميت في أداء تلك الحقوق الثابتة في الذمة في الفرض (كالحج والصوم)؛ لزم أن تصح كذلك في القُربات التي هي سنة من باب أولى!.

النقطة الثانية

النصوص -كما يقول ابن القيم- متظاهرة على وصول ثواب الأعمال إلى الميت إذا فعلها الحي عنه، وهذا محض القياس؛ فإن الثواب حق للعامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يُمنع من ذلك، كما لم يُمنع من هبة ماله في حياته له وإبرائه له منه بعد موته. ووصولُ ثواب الصوم إلى الميت: فيه تنبيه على وصول سائر الأعمال بلا فرق. فالعبادات إما: مالية أو بدنية أو مركبة منهما.

وقد نبه الشارع -بوصول ثواب الصدقة- على وصول ثواب سائر العبادات المالية. ونبه -بوصول ثواب الصوم- على وصول ثواب سائر العبادات البدنية. وأخبر بوصول ثواب الحج المركب من العبادتين المالية والبدنية.

وبهذا صارت الأنواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار كما يقول ابن القيم.

أما مسألة إهداء ثواب العمل إلى الميت فلا تدخل في النيابة عنه، فالعامل هنا إنما عمل لنفسه لا عن الميت، والإنسان ليس له إلا ما سعى جزاءً واستحقاقًا، ولكن الحي استحق على عمله أجرًا من الله فتبرع به للميت كما يتبرع الأجير بأجرته لغيره، ولهذا كان أصحاب أبي حنيفة لا يجوّزون النيابة في العبادات البدنية ويجوّزون إهداء ثوابها، وكذلك أصحاب أحمد يجوزون إهداء ثواب العبادة حيث لا يجوزون النيابة، بل إنهم يجوزون إهداءها إلى الحي أيضًا، وهو المنصوص عن أحمد. وعدم تحرير هذه المسائل -أعني أن الإهداء ليس نيابة، وأن ثمة فرقًا بين الجزاء والانتفاع- أدى برضا إلى كل هذه الأغلاط في المسألة وأبرزها توهم تعارضها مع النصوص العامة واتهام المخالفين بالهوى!.

النقطة الثالثة

قال رضا إن “الدعاء لأموات المسلمين ولأحيائهم: عبادة لا ينتقل ثوابها من الداعي إلى المدعو له. ولم يُرو في إهداء ثواب الدعاء شيء” وهذا تكلف؛ فالإجماع على أن الدعاء ينفع الميت وهو المقصود من صلاة الجنازة أصلاً، والأحاديث في طلب الدعاء للميت ثابتة ولو لم تنفعه لكان الدعاء عبثًا!.

النقطة الرابعة

قال رضا: إن الثواب أمر مجهول لا مجال للعقل فيه، وليس في الأخبار الصحيحة ما يدل على أن العامل يملك ثواب عمله وهو في الدنيا كما يملك الذهب والفضة، ولو كان الثواب كالمال يوهب لكان يُباع ويشترى. والغريب أن ابن القيم نفسه أوضح هذه النقطة (وهو المصدر الرئيس لرضا)، فقال: “ثواب العمل حق للمُهدي الواهِب. فإذا جعله للميت انتقل إليه”، ثم قال في موضع آخر: “الثواب مِلك للعامل، فإذا تبرع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله إليه”، وقد نبه ابن القيم نفسه إلى أن من حجج المانعين: أن الإهداء حوالة وإنما تكون بحق لازم، والأعمال لا توجب الثواب فهي تفضل الله وإحسانه. أي أن ابن القيم يعي تمامًا الحجة المقابلة، ومع ذلك فإن رضا اقتنص هذه الحجة المضادة من ابن القيم ثم راح يرد بها عليه ويوهم أنه غفل عنها؛ في حين أن ابن القيم استوعب حجج المانعين كما استوعب حجج المؤيدين سواء بسواء، ولم يكن انتقائيًّا كرضا، وهذا فارق مهم بين النقاش العلمي الذي انطوى عليه التقليد الفقهي وبين النقاش الأيديولوجي الذي سعى إليه رضا في نهجه الموسوم بالإصلاحي.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post رئيس اقتصادية قناة السويس يتفقد ميناء روتردام ويبحث سبل التعاون المشترك
Next post بشرى للسيدات.. الموافقة على عقار جديد يخلصك من الهبات الساخنة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading