اتسمت السلفية المُحدثة -كما اتضح في المقال الأول من هذه السلسلة- بسمتين رئيستين:
- الأولى: أنها اتخذت موقفًا جذريًّا وحادًّا مما وصفته بالبدعة، وعزلت نفسها عن التقليد الفقهي المذهبي (ومنه الحنبليّ كما اتضح -مثلاً- في مسألة انتفاع الميت بعمل غيره)، ولم تتسامح مع التعددية الفقهية؛ فخالفت حتى نصوص ابن تيمية وابن قيم الجوزية.
- الثانية: أنها افتقرت -في تفقهها- إلى الاتساق المنهجي، سواء في تأويل النصوص أو في المشي على ظواهرها وعموماتها، أو في اتباع التعليلات العقلية التي تحفظ النظام والتماسك وتربط فروع المسألة الواحدة وتطرد المعاني في نظائرها، ومن ثم:
- افتقر حِجَاج رشيد رضا -في هذه المسألة على الأقل- إلى التماسك، وخرج على التقاليد الفقهية العلمية؛ طلبًا للغلبة ونصرة الرأي الواحد لا بهدف المباحثة العلمية والنقدية.
- بل خرج عن أساليب الحِجاج الفقهي إلى استعمال حجج خطابية؛ طلبًا للغلبة في النقاش وصولاً إلى اتهام أصحاب الرأي المخالف باتباع الهوى ومسايرة الأعراف الاجتماعية؛ بما يخدم حملته على “التقليد الفقهي”. بل إن هذه الطريقة تَسم اليوم عامة المنتسبين إلى السلفية ومدعي التنوير معًا؛ رغم ما بين الفريقين من اختلافات.
كان رشيد رضا -كما سبق وذكرت في المقال الأول- سبّاقًا في العصر الحديث إلى القول إن الميت لا ينتفع بالقربات التي تُهدى إليه، وأن ثوابها لا يصل إليه؛ إلا ما استثناه النص وفُعل من ولد الميت حصرًا. وقد أوضحت -في المقال الثاني- أوجه الخلل والقصور في حجج رشيد رضا وحِجاجه لإثبات هذا الرأي؛ بالمقارنة مع مصادره (ابن تيمية وابن القيم)، وخاصة كتاب “الروح” لابن قيم الجوزية. أما هذا المقال الثالث، فأوضح فيه 3 مسائل منهجية إضافية توضح أثر الأيديولوجيا في طريقة التفقه والخلاصات التي تنتهي إليها.
المسألة الأولى: إطلاق أحكام اعتباطية
فقد خلص رشيد رضا من حجاجه لإثبات بدعية القراءة عن الميت وهبة الثواب له والقراءة عند القبر إلى جملة من الأحكام المتسرعة وغير الدقيقة بالنظر إلى واقع الفقه المذهبي، بل بالنظر إلى عمل ابن تيمية وابن قيم الجوزية؛ الأمر الذي يُظهر أن رشيد رضا وإن توسل ببعض أدوات التقليد الفقهي لنصرة فكرته إلا أنه ليس استمرارًا له بل خارجا عليه.
من تلك الأحكام الاعتباطية قوله: “من قال بانتفاع الميت من كل عمل له وإن لم يكن العاملُ ولدَه؛ فقد خالف القرآن، ولا حجة له في الحديث الصحيح ولا القياس الصحيح” (8: 218). وليس النقاش هنا حول انتفاع الميت من كل عمل؛ إذ لا يمكن الجزم بذلك، وإنما في أنه قد ينتفع المرء بعمل غيره، وقد أوضح المقال الثاني -من هذه السلسلة- كيف أن ظاهر القرآن يتحدث عن عمل المرء لنفسه أما الانتفاع فيتعلق بعمل الغير، وهو ما لم يتناوله نصّ القرآن.
ولذلك قال ابن تيمية إن القرآن “لم يقل: لا ينتفع إلا بما سعى” وإنما نفى مِلك الإنسان لغير سعيه، والإنسان ينتفع بما يملكه وبما لا يملكه؛ فلا يَلزم من نفي المِلك نفيُ الانتفاع وهو ما غفل عنه رشيد رضا. وقد خلط رشيد رضا -أيضًا- بين الانتفاع والجزاء؛ فالجزاء لا يكون إلا على العمل أما الانتفاع فهو أعم من ذلك. والأحاديث النبوية متظاهرة على انتفاع المرء بعمل غيره، والقياس الفقهي يشهد لذلك كما أوضحه ابن تيمية وابن قيم الجوزية وبيانه في المقال الثاني.
ومن الأحكام الاعتباطية التي خلص إليها رشيد رضا، قوله: إن حجج المخالفين “أكثرها نظريات باطلة”، وقوله عن الأئمة القائلين بانتفاع الميت بعمل غيره: إن “سبب غفلتهم وتأويلهم أنهم يحاولون تصحيح كل ما فشا من البدع بين أقوامهم والمنسوبين إلى مذاهبهم وليسوا من أهل الدليل، ولكنهم لا يتركون ضلالة التأويل … وتابعهم على ذلك بعض علماء السنة من أهل الأثر والنظر” (8: 255-256)، وقد اتضح من المقال الثاني قصور استدلالات رشيد رضا واجتزاؤه للنصوص وتكلفه تأويلها؛ ما يُظهر أن مثل هذه الإطلاقات تفتقر إلى الدقة والتحلي بالمسؤولية، وأن ما غمز به رشيد رضا خصومه قد يَصدق عليه (كحديثه عن أنهم ليسوا من أهل الدليل، وحديثه عن ضلالة التأويل).
ومن ذلك -أيضًا- قول رشيد رضا: إن هؤلاء “حرفوا الكلم عن مواضعه” بالتأويلات السخيفة وبدعوى النسخ وغيرها (8: 255)، وهذا خروج عن محل النقاش؛ لأن المباحثة إنما هي في الجمع بين الأدلة المختلفة (عامّها وخاصّها) وتأويل النصوص وطرد معانيها بطريقة متماسكة، وإلا فإن ما رما به رشيد رضا خصومه يمكن أن يُرمى به (كتحريف الكلم عن مواضعه).
تأمل -مثلاً- كيف أنه فهم من “سعى” في قول الله تعالى: “وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى” (سورة النجم/ الآية 39) مطلق الانتفاع بالسعي سواء كان من الإنسان نفسه أم من غيره؛ رغم أن الآية تتحدث عن سعي الإنسان لنفسه فقط، أما إدخال ما عداها في نص الآية فتأويلٌ. وتأمل كيف أن رشيد رضا فهم أن الانتفاع هو نفسه الجزاء؛ رغم أن بينهما فرقًا بيِّنًا كما أوضح ابن تيمية.
تأمل كيف فهم أن حديث “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث” دليلٌ على انقطاع انتفاع المرء بعمل غيره؛ رغم أن الحديث يُخبر عن انقطاع عمل الإنسان بموته، أما عمل غيره فهو لعامله؛ وإدخاله في نص الحديث إنما هو تأويلٌ.
وتأمل كيف أن رشيد رضا زعم أن لفظ “وليُّه” -في حديث “من مات وعليه صوم صام عنه وليه”- معناه: “ولده”؛ رغم أنه قد جاء اللفظ في الحديث “إن أختي ماتت وعليها صوم” وفي رواية أخرى “قَرابة لي”، ثم إن تفسير “وليه” بالولد فقط يُفسد التعليل الذي جعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مسوِّغًا لجواز الحج والصوم عن الغير وهو أنه مثل الدَّين يُقضَى عن الميت، ولذلك قال: “فدَين الله أحق أن يُقضى” وهذا لا يختص فقط بالولد.
أجمع العلماء على أن الدعاء للميت ينفعه؛ سواء كان من ولده أم من غيره، وهذا ليس من عمل الميت. بل إن رشيد رضا -مع تكلفه في التأويل وعدم استقصائه للأحاديث ورواياته ومع رده مقتضيات القياس- اتهم ابن القيم بأنه “غفل عن كون الأحاديث التي جعلها حجة المثبتين الوحيدة على انتفاع أموات المسلمين بأي عمل يُهدى إليهم ثوابُه من عمل أحيائهم، قد وردت في أعمال خاصة ورُخّص للأولاد -وحدهم- أن يقوموا بها عن والديهم” (8: 257). فليست هي حجتهم الوحيدة ولا هي خاصة بالأولاد كما أثبت ابن تيمية وابن القيم.
ردد رشيد رضا أيضًا أن القراءة عند القبر وإهداء الثواب للميت اختراعٌ من “المقلدين من المتأخرين”؛ رغم أن انتفاع الميت بعمل غيره تظاهرت به النصوص، وأن القراءة عند القبر وردت عن بعض الصحابة وأنها كانت من عمل الأنصار، وهي قول بعض التابعين وقول الشافعي ومذهب أحمد وغيره.
فخلاصات رشيد رضا وأحكامه المطلقة توضح إحدى سمات السلفية المُحدثة، وهي النفي الجذري والحاد لوجود دليل يخالف ما هي عليه، والضِّيق بالخلاف الفقهي، وارتكاب التأويلات لنصرة رأيها، بل وإيهام أن النص لا يحتمل إلا معنى واحدًا هو ذلك الفهم الذي هم عليه، وهذا ما فعله رشيد رضا ومن تبعه، وهذا ما يفعله المنتسبون إلى التنوير اليوم، في حين أنك لا تجد مثل هذا السلوك لدى أهل التقليد الفقهي؛ ممن يسلكون مسلك الحجاج الفقهي وفق أصوله وقواعده ويلتزمون بأخلاقياته.
فالعقل العلمي يوسع حدود المعنى، بينما الإصلاحيّ أو من يزعم التنوير أيديولوجي لديه قناعة مسبقة يسعى للترويج لها، ولديه توجه وحيد يراه هو الصواب والمتعين، ولذلك لا يرى أي دليل أو شبهة دليل لمن يقول بخلافه. في حين أنك لو تأملتَ كلام ابن تيمية وابن القيم في هذه المسألة لرأيت حجاجًا فقهيًّا عاليًا، استوعب حجج الفريقين: المجيزين والمانعين باعتدال وإنصاف.
المسألة الثانية: استعمال حجج خطابية
استعمل رشيد رضا -في مناقشته للمسألة ورده على أصحاب الرأي المخالف- عبارات إنشائية تخرج عن أساليب الحجاج الفقهي العلمي؛ فقد افتتح النقاش بقوله: “أيها المسلم الحريص على دينه”، وكأنه يوهم أن النقاش هو بين من يحرص على دينه ومن لا يحرص عليه، وقال -في سياق الجدل- “وحيّا الله مرجحي اتباع السلف من هؤلاء العلماء كلهم، وليس هو الأحوط فقط؛ بل المتعين الذي يُرد كل ما خالفه، ويُضرب بأقيسة المخالفين عُرض الحائط” (8: 264).
فالمسألة ليست بين متبع للسلف ومخالف لهم، بل هي نقاش في تأويل الأدلة وقواعد الاستدلال كما أن الإمام أحمد اتبع السلف أيضًا. ثم ختم رشيد رضا النقاش بقوله: “فمن أراد أن يتبع الهدى، ويتقيَ جَعْل الدين تابعًا للهوى، فليقف عند النصوص الصحيحة ويتبع فيها سيرة السلف الصالح ويُعرض عن أقيسة بعض الخلف المروّجة للبدع” (8: 269)، وهذا اتهام للأئمة القائلين بذلك -ومنهم أحمد- باتباع الهوى وأنهم على غير هدى، كما أن القائلين بانتفاع الميت بعمل غيره متبعون لنصوص القرآن والحديث، وأدلتهم أقوى نصًّا وقياسًا، وقد أوضحت -في المقال الثاني- كيف أن النصوص متظاهرة على أن الميت ينتفع بعمل غيره، بل إن ابن تيمية بيّن “تواتر النصوص واتفاق الأئمة على أن الإنسان قد ينتفع بعمل غيره”.
المسألة الثالثة: نقد مصادر رشيد رضا
اعتمد رشيد رضا -في مناقشته للمسألة- على مصادر شحيحة؛ فقد كان عالة على كتاب “الروح” لابن قيم الجوزية. فرغم أنه تعامل معه بانتقائية واتهمه بالغفلة لم يُخف إعجابه به فقال: إنه “أطنب فيها وأطال كعادته بما لم يطل به غيره ولا قارب” (8: 257). ثم أضاف رشيد رضا -إلى ما نقله عن ابن القيم- بعض النقول عن ابن مفلح وابن عابدين وغيرهما، مع تقليد الشوكاني في المسألة؛ رغم أنه اتهمه بالاضطراب أيضًا.
فرشيد رضا لم يستوعب المسألة من مصادرها الفقهية المذهبية والحديثية، ولا سار فيها على نظام محدد، سواءٌ في البحث والمصادر أم في الحِجاج. ولاسيما أن هذه المسألة قد شَغلت -تاريخيًّا- كثيرًا من العلماء حتى صُنف فيها رسائل مفردة؛ فقد صنف فيها تقي الدين عبد الغني المقدسي (600هـ)، وأبو إسحاق بن البَرْني الحنبلي (622هـ)، وشمس الدين السروجي الحنفي (710هـ) وتقي الدين ابن تيمية (728هـ)، وكذلك زين الدين المَلَطي الشافعي (788هـ)، وصدر الدين المُناوي (804هـ)، وشمس الدين بن القطان المصري الشافعي (813هـ)، وابن حجر العسقلاني (852هـ)، وسعد الدين بن الدَّيري الحنفي (867هـ)، وأيضا شمس الدين السخاوي (902هـ)، ووجيه الدين الزَّبيدي (975هـ)، وابن بِيري الحنفي (1099هـ)، وعيسى بن عيسى السَّفْطي الحنفي (1143هـ)، وقد طُبعت بعض هذه الرسائل، وهي تدل على أهمية المسألة وثراء النقاش فيها على عكس ما يوهم كلام رشيد رضا.
وكنت قد نقدت -في المقال الثاني- طريقة رشيد رضا في استثمار مصادره في الحجاج، حيث افتقرت اقتباساته عن مصادره وفهمه لها إلى التدقيق واتسم بالتحيز؛ فحين راجع كتاب “الفروع” لابن مفلح الحنبلي (763هـ)، قال: “رأيت فيه خلافا كثيرًا في هذه المسألة عن علماء الحنابلة وغيرهم”، في حين أن نص ابن مفلح الذي يُحيل إليه كان صريحًا في أن مذهب أحمد ونصه هو جواز القراءة عند القبر، ونقل ابن قيم الجوزية أنه مذهب بعض المتقدمين كابن عقيل الحنبلي (513هـ) تبعًا لعلي بن الموفق الذي كان في طبقة الجنيد (298هـ)، وأنه كذلك مذهب أبي العباس محمد بن إسحاق السراج النيسابوري (313هـ)، وكل هذا نقله ابن تيمية أيضًا في رسالته (51).
ثم إن رشيد رضا نقل عن عز الدين بن عبد السلام الشافعي (660هـ) أنه من المجيزين للقراءة عن الميت (8: 263) وهذا خطأ؛ فالمعروف عن العز عكس ذلك؛ إذ جرى على قاعدة أنه لا ثواب ولا عقاب إلا بكسب أو تَسبب (لاحظ دقة العبارة: لا ثواب وليس لا جزاء)، وهذا ما قرره العز في كتبه، ونقله عنه أيضًا أبو عبد الله القرطبي (671هـ) في كتاب “التذكرة”.
ومن اللافت أن ابن قيم الجوزية أضاف نوعًا طريفًا من الاستدلال للمسألة إلى جانب الاستدلال بالقرآن والحديث والقياس والعمل المتوارث، وهو الاستدلال بتواتر الرؤى؛ وهو استدلال ثانوي للاستئناس ويوسع حدود النظر. قال ابن القيم: “وقد تواطأت رؤيا المؤمنين وتواترت أعظم تواتر على إخبار الأموات لهم بوصول ما يُهدونه إليهم من قراءة وصلاة وصدقة وحج وغيره” (الروح 401)، وهو مما لا يستقيم مع مسلك السلفيين المُحْدثين؛ رغم تعويلهم كثيرًا على كتب ابن القيم؛ فابن القيم طرد منهج الاستدلال بالنص والمعقول والعمل المتوارث والرؤى الصادقة على خلاف طريقة رشيد رضا القاصرة فهمًا ومنهجًا.
وثمة فارق مهم هنا بين طريقة تفقه الفقهاء وطريقة رشيد رضا والسلفيين المُحْدَثين، وهي أن تفقه الفقهاء مؤسس على حقل علمي متكامل وتقاليد راسخة، ومنظومة منهجية وفروعية يأخذ بعضها بحُجُز بعض حتى تشكل نظامًا معقولاً ومتماسكًا تتصل فروعه بأصوله، ويتحقق فيه الاتساق والمعقولية، بخلاف “التوجه الإصلاحي” الذي تحركه فكرة أو قناعة محددة يفرضها الواقع لا المنهج أو الحقل العلمي، ومن ثم فانشغالاته جزئية ومنتقاة، ولا ينشئ نظاما ويفتقر إلى الاتساق؛ لأن محركه هو ضغط الواقع أو قناعة مسبقة لفرد أو مجموعة، بينما التقليد العلمي تواردت عليه أجيال من العلماء عبر التاريخ، وطوّر حقلاً علميًّا، ومنهجية متماسكة وتراكمية.
بات واضحًا الآن الفرق بين المنهج العلمي والمنهج الإصلاحي من خلال هذه المسألة التي جعلتها مثالاً نموذجيًّا للنقد الفقهي، ولبيان أثر اختلاف المنهج في التفقه، ورشيد رضا هنا مجرد مثال ترك أثرًا على رموز الوهابية فيما بعد، وكان له موقف إيجابي من الشيخ محمد بن عبد الوهاب. في حين أن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم استمرار للتقليد الفقهي وإن كانت لهما آراء مستقلة ومنزع استدلالي بالنصوص (وقد توسع ابن القيم أكثر في هذا المسلك)، وهما أول من سبق إلى بيان فساد هذا الفهم القاصر الذي سلكه رشيد رضا، وكانا تعدديين استوعبا اختلاف مدارك النظر الفقهي واحتمالية الأدلة، ووجاهة كل مذهب.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.