الكثافة الصينية في مواجهة الابتكار الأميركي.. القصة الكاملة للنهضة التكنولوجية في الصين


مقدمة الترجمة

لعقود طويلة، تفاخرت الولايات المتحدة بهيمنتها في مجال الابتكارات التكنولوجية الجديدة، لكن هذه الهيمنة تتعرض مؤخرا لتهديد واضح من قبل الصين. ليس الأمر أن الصين تفوقت على الولايات المتحدة في مجال الابتكار، لكن قاعدتها الصناعية الضخمة منحتها الريادة في تقديم الابتكارات الجديدة إلى الأسواق العالمية بأسعار منافسة. يسلط هذا المقال المطول من “فورين أفيرز” الضوء على القاعدة الصناعية الضخمة للصين، والطريقة التي تعزز بها النهضة التكنولوجية في البلاد.

نص الترجمة

في عام 2007، بدأت شركة “أبل” في تصنيع هواتف آيفون في الصين، وكان البلد الآسيوي حينها معروفا بالعمالة الرخيصة أكثر منه بالتكنولوجيا المتطورة. لم تكن الشركات الصينية في ذلك الوقت قادرة على إنتاج أي من مكوِّنات آيفون الداخلية، التي استُورِدت من ألمانيا واليابان والولايات المتحدة، واقتصر دور الصين في صناعة الأجهزة آنذاك على العمالة التي جمَّعت مكوِّنات آيفون في مصانع شركة “فوكسكون” بمدينة شِنزِن، وهو دور لم يتجاوز 4% من القيمة المضافة لإنتاج الهاتف.

حين طُرِح هاتف “آيفون إكس” بعد 11 عاما، كان الوضع قد تغيَّر جذريا، فلم يكن العمال الصينيون يقومون بتجميع معظم هواتف آيفون فحسب كما جرت العادة، بل إن الشركات الصينية كانت قد بدأت تنتج المكوِّنات المعقدة داخل تلك الهواتف، بما في ذلك المكوِّنات الصوتية وأجزاء الشحن وعبوات البطاريات. وبعد أن تمكنت من إنتاج تلك التكنولوجيا المعقدة، باتت الشركات الصينية قادرة على طرح منتجات أفضل من منافسيها في أوروبا وآسيا. اليوم، ونحن نشهد أحدث جيل من هاتف آيفون، تُنتج شركات التكنولوجيا الصينية أكثر من 25% من القيمة المضافة للجهاز.

نحن نشهد أحدث جيل من هاتف الأيفون، تُنتج شركات التكنولوجيا الصينية أكثر من 25% من القيمة المُضافة للجهاز. (غيتي)

يُعَد جهاز آيفون واحدا من أدق الأجهزة الموجودة في العالم، إذ يعتمد على مجموعة فريدة من التقنيات الدقيقة، ولكن ما جرى مع آيفون في الصين ليس حدثا استثنائيا، حيث إن توسُّع تصنيعه في الصين يشي لنا باتجاه أوسع يشمل أغلب السلع المُصنَّعة. لقد خطت الشركات الصينية خطوات واضحة من مرحلة تجميع المكونات المُصنَّعة في الخارج إلى مرحلة إنتاج التقنيات الأحدث الخاصة بها. وبالتزامن مع صدارته في مجال معدات توليد الطاقة المتجددة، فإن البلد الآسيوي الآن يتصدر في عدد من مجالات التكنولوجيا الصاعدة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكَمِّية. وكل هذه النجاحات تتحدى الفكرة القائلة بأن الريادة العلمية هي الطريق إلى الريادة الصناعية، فرغم مساهماتها المتواضعة نسبيا في البحوث الرائدة والابتكارات العلمية، نجحت الصين في الاستفادة من معرفتها بالعمليات الصناعية للتفوّق على الولايات المتحدة في عدد متزايد من التقنيات الإستراتيجية.

في خضم المنافسة المتعاظمة مع بكين، سعت الولايات المتحدة لتقييد وصول الصين إلى التقنيات الغربية الحساسة، ولتعزيز تقاليدها في البحث والابتكار العلمي. ولذا، فرضت إدارة بايدن عام 2022 قيودا واسعة جديدة على بيع تقنية الشرائح الإلكترونية المتطورة في الغرب لصالح الشركات الصينية، بالتزامن مع دعم صناعة التكنولوجيا في الولايات المتحدة عن طريق تشريع “تشيبس (CHIPS)” وقانون العلوم الجديد وتخصيص 280 مليار دولار لهما، وستساعد تلك التشريعات واشنطن على استعادة تفوّقها في مجال إنتاج أشباه الموصّلات ومجال الطاقة المتجددة.

إذا كانت واشنطن جادة في منافستها التكنولوجية مع الصين، فإنها ستحتاج للتركيز على ما هو أكثر من الابتكارات العلمية الرائدة، وسيتوجَّب عليها أن تتعلَّم الاستفادة من القوى العاملة الأميركية بالطريقة نفسها التي انتهجتها الصين. (شترستوك)

بيد أن القوة المتنامية للشركات الصينية تشير إلى أن نهج واشنطن لعله يفتقد عنصرا جوهريا، وهو الأخذ في الاعتبار أن صعود الصين ليس مجرد نتيجة نقل التقنيات من الشركات الغربية أو سرقتها، وأنه لا يعتمد على القفزات العلمية المهمة، بل إن صعود الصين إلى حد كبير أتى مدفوعا بالتحسُّن في القدرات الصناعية الصينية نفسها، وهو ما استفادته البلاد من عمالتها الصناعية الضخمة والمعقدة. إن نقاط القوة تلك لدى الصين تبدو واضحة في رد فعل الأخيرة على القيود الأميركية المفروضة طيلة الأعوام القليلة الماضية. لقد فضّلت الشركات الصينية في السابق تجنب الاعتماد على التكنولوجيا الصينية من أجل شراء التقنية الأفضل، التي كانت دوما أميركية، أما الآن، وبينما تَحُول الولايات المتحدة بينهم وبين التقنية الغربية، يبدو أنهم يبذلون جهدا أكثر من أي وقت مضى لتنمية صناعة صينية محلية مزدهرة في مجال الشرائح الإلكترونية.

إن دخول الصين عالم القوى التكنولوجية الكبرى ينطوي على عدة دروس للولايات المتحدة وحلفائها. على عكس الغرب، أسست الصين قطاعا تكنولوجيا ضاربا بجذوره، ليس في البحوث الجذابة والمجالات العلمية المتقدمة، بل في المهام الأقل جاذبية المرتبطة بتحسين الإمكانيات الصناعية ذاتها. وإذا كانت واشنطن جادة في منافستها التكنولوجية مع الصين، فإنها ستحتاج للتركيز على ما هو أكثر من الابتكارات العلمية الرائدة، وسيتوجب عليها أن تتعلم الاستفادة من القوى العاملة الأميركية بالطريقة نفسها التي انتهجتها الصين، حتى يتسنى لها توسيع نطاق تصنيع الابتكارات العلمية وبناء منتجات أفضل بسُبُل أكثر كفاءة. باختصار، كي تستعيد الولايات المتحدة الصدارة في مجال التقنيات الرائدة، عليها أن تنظر إلى عملية التصنيع نفسها بوصفها جزءا أساسيا من عملية التطور التكنولوجي، وليس على أنها مجرد كواليس تجري في الخلف مقابل صدارة البحوث والتطوير والابتكارات التي تجذب الأنظار دوما.

الابتكار ليس كل شيء.. حقيقة الطفرة الصينية

يُشكِّك عدد من متابعي المنافسة الأميركية-الصينية في الريادة التكنولوجية الصينية، وهم محقّون في ذلك، حيث أفرزت الصين عددا قليلا من الشركات الكبرى متعددة الجنسيات أو العلامات التجارية العالمية المعروفة. كما أنها لا تزال عاجزة عن تدشين أصناف جديدة كُليا من السلع في سوق الإلكترونيات، على غرار ما فعلته اليابان وكوريا الجنوبية سابقا مع الكاميرات الرقمية وألعاب الفيديو، ولم تستطع أن تنافس أوروبا والولايات المتحدة حتى الآن في مجال صناعة السيارات والطائرات. عوضا عن ذلك، ركَّزت الشركات الصينية على تصنيع المنتجات التي يمكن أن تُباع بأسعار أرخص في الدول النامية. أما غياب العلامات التجارية الصينية المتطورة فأكَّد على تصوُّر غربي مفاده أن الصين مصنع ضخم لا بيئة خصبة للابتكار.

لا تزال الشركات الصينية كلها متأخرة بحوالي 5 سنوات على الأقل عن شركة “TSMC” التايوانية الرائدة عالميا في مجال أشباه الموصلات المتطورة. (رويترز)

تظل الصين أيضا متأخرة عن الغرب في عدد من التقنيات المعقدة، فقد حققت صناعة الشرائح الإلكترونية في الصين عددا قليلا من الطفرات الجديرة بالنظر، بما في ذلك تصنيع شرائح الهواتف المحمولة وأنواع معينة من شرائح الذاكرة المتطورة. وفي مجال تصنيع الشرائح المنطقية (Logic Chips) الموجودة في كل المنتجات الرقمية في العالم، لا تزال الشركات الصينية كلها متأخرة بحوالي 5 سنوات على الأقل عن شركة “TSMC” التايوانية الرائدة عالميا في مجال أشباه الموصلات المتطورة، بل وتعاني الشركات الصينية من ضعف أكبر حين يتعلق الأمر بتطوير الأدوات الخاصة بتصنيع تلك الشرائح، مثل آلات الليثوغرافيا المستخدمة في طباعة أشكال محددة على رقائق السيليكون، ومعدات القياس المستخدمة في ضبط جودة عملية إنتاج الشرائح التي تشمل المئات من الخطوات، إذ تعتمد الصين في كل ذلك اعتمادا هائلا على الواردات اليابانية والأميركية والأوروبية. علاوة على ذلك، لا تزال الصين تخطو خطواتها الأولى في عالم ابتكار البرمجيات الضرورية لتصميم الشرائح المتطورة.

ثمة نمط مشابه في قطاع الطيران الصيني، ولننظر مثلا لشركة الصين للطيران التجاري (COMAC)، وهي المكافئ الصيني لشركتَي “إيرباص” و”بوينغ”، وهي شركة مملوكة للدولة مدعومة بـ71 مليار دولار من التمويل الحكومي، فبعد مرور 15 عاما على تأسيسها، بدأت الشركة بالكاد في إنتاج أول طائرة تجارية من صنعها. تدرك الشركات الصينية في مجالَي الشرائح الإلكترونية والطيران حقيقة مؤلمة مفادها أن العديد من المكونات الأساسية في تلك الصناعات تظل واردة من الغرب، مثل معدات الإنتاج والبرمجيات المتطورة ومحركات الطائرات وأنظمة الإلكترونيات الجوية، وهذا الاعتماد على التكنولوجيا الغربية يعني أن القيود الأميركية الجديدة على الشرائح بإمكانها أن تُلقي بالصين في نفق مظلم.

بعد مرور 15 عاما على تأسيس شركة الصين للطيران التجاري (COMAC)، بدأت الشركة بالكاد في إنتاج أول طائرة تجارية من صنعها. (غيتي)

غير أن الصين، وهي بصدد أوجه الهشاشة الجدِّيّة تلك، تُنجز تقدّما متسارعا في مجموعة كبيرة من التقنيات الأخرى. لقد نجحت الشركات الصينية في إثبات نفسها أمام منافسيها الأوروبيين واليابانيين في إنتاج أدوات آلية متقدمة، مثل الأذرع الروبوتية والمِضخّات الهيدروليكية وغيرها من معدات. وكما تكشف لنا قصة آيفون، فإن الصين تنافس اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان اليوم بتمرّسها في سلاسل إمداد الإلكترونيات. بالإضافة لذلك، ورغم جهود الرئيس الصيني “شي جين بينغ” مؤخرا لتشديد السيطرة الحكومية على شركات الإنترنت مثل “علي بابا” و”تِنسِنت” و”ديدي”، تبدو الصين قوية أيضا في مجال الاقتصاد الرقمي، وتبقى شركاتها قادرة على المنافسة بقوة في مواجهة عمالقة وادي السيليكون عبر تطبيقات مثل “تيك توك”، الذي ينافس “فيسبوك” منافسة حامية.

تتصدر الصين العالم أيضا في بناء البنية التحتية الحديثة، بما في ذلك خطوط نقل الأحمال الكهربائية العالية، والسكك الحديدية السريعة، وشبكات الإنترنت من الجيل الخامس. وفي عام 2019، أصبحت الصين أول بلد يرسل مركبة جوّالة إلى الجانب الآخر من القمر، وبعد عام واحد حقق علماء الصين طفرة أخرى بتطوير اتصالات مشفرة كميّا عبر الأقمار الصناعية، ما جعل بلادهم تقترب من تدشين مجال للاتصالات عصي على الاختراق. كل هذه الإنجازات تكشف جهود الصين الحثيثة للتمكّن من المهمات الصناعية والعلمية الأصعب يوما بعد يوم.

القوة الشمسية العظمى

شكّلت معدات الطاقة المتجددة واحدة من نجاحات الصين التكنولوجية الكبرى في السنوات الأخيرة. لقد نشأ سوق تجاري لتكنولوجيا الطاقة الشمسية مع مطلع القرن الحادي والعشرين، وأتت معظم الابتكارات حينها من الولايات المتحدة، وكان منطقيا أن تقود الشركات الأميركية ذلك المجال الصناعي. ولكن في عام 2010، أعلن مجلس الدولة الصيني أن توليد الطاقة الشمسية “صناعة إستراتيجية صاعدة”، ومن ثَمّ أطلق العنان لسلسلة من الدعم الحكومي وتأسيس الشركات في هذا القطاع، والتي اتجه معظمها نحو توسيع القدرات التصنيعية.

في غضون ذلك، اكتسبت الشركات الصينية الكثير من أسس تحويل الطاقة الضوئية إلى طاقة كهربائية، وبدأت تُطوِّر الأساليب المتاحة لديها لإنتاجها. واليوم، تهيمن الشركات الصينية على كل مرحلة تقريبا من سلسلة إمداد قطاع الطاقة الشمسية، بدءا من معالجة السيليكون الضروري لإنتاج الخلايا، وحتى تركيب الألواح الشمسية. وقد طورت الصين أيضا من التكنولوجيا نفسها، فلم تعد الألواح الصينية الأرخص سعرا في السوق العالمي فحسب، بل والأكثر كفاءة أيضا، أضف لذلك أن الانخفاض الشديد في تكلفة إنتاج الألواح الشمسية طيلة العقد الماضي أتى مدفوعا أساسا بالابتكارات الصناعية في الصين.

على مدار الأعوام القليلة الماضية، تبوأت الشركات الصينية مواقع قوية في إنتاج البطاريات ذات السعة الكبيرة المستخدمة في السيارات الكهربائية. فبينما يبتعد العالم رويدا عن محركات الإشعال الداخلي، باتت تكنولوجيا البطاريات المتطورة جزءا محوريا في صناعة السيارات. وقد احتلت الصين موقع الريادة في هذا المجال أيضا، على سبيل المثال، تُعَد شركة “CATL” الصينية التي تأسست عام 2011 أكبر مُصنِّع للبطاريات في العالم، وهي تتعاون مع كبرى شركات السيارات مثل “بي إم دَبليو” و”تِسلا” و”فولكس فاغِن”، علاوة على ريادتها في تطوير أنواع أحدث وأكثر كفاءة من المزيج الكيميائي، مثل ذلك المستخدم في بطاريات أيونات الصوديوم، التي يمكن إنتاجها دون اللجوء إلى مكونات شحيحة في الطبيعة مثل عنصر الليثيوم أو معادن الكوبالت.

لقد أقرّت إدارة بايدن بمخاطر الاعتماد على الصين في التقنيات الحساسة التي تحتاج إليها الولايات المتحدة من أجل الانتقال “الأخضر” (من النفط والغاز إلى الطاقة المتجددة)، غير أن سلسلة من الجمارك الأميركية، جنبا إلى جنب مع تحقيقات أميركية في استخدام الصين للعمالة القسرية داخل سلاسل إمداد قطاع السيليكون، لم يُزحزِحا بكين عن موقع الصدارة في قطاع الطاقة الشمسية. إن أحد هذه التحقيقات، الذي فتحته وزارة التجارة الأميركية وهدَّدت -بموجبه- بتطبيق الجمارك بأثر رجعي على واردات معدات الطاقة الشمسية بنسبة أكثر من 250%، سرعان ما ألقى بمُستهلكي المعدات الصينية الأميركيين إلى أزمة طاحنة، ومن ثَمّ وجد الرئيس بايدن نفسه مُجبرا في يونيو/حزيران 2022 على إصدار قرار رئاسي يوقف أي جمارك إضافية لمدة عامين من تاريخه.

في غضون ذلك، ورغم تمرير قانون تخفيض التضخّم في أغسطس/آب 2022، والذي يسعى لتسريع وتيرة التحوُّل نحو السيارات الكهربائية في الولايات المتحدة، فإن القانون اصطدم بعراقيل وضَعَها جعلت معظم السيارات الكهربائية المتاحة في السوق العالمي غير مؤهلة للدعم المالي الفيدرالي المخصص لذلك القطاع في أميركا. وفي الوقت الراهن، يبدو أن الولايات المتحدة والكثير من حلفائها الغربيين سيظلون معتمدين على الصين في خضم سعيهم للتحوُّل الأخضر وتقليص الاعتماد على الكربون.

لم تأتِ هيمنة الصين في قطاعات المكوِّنات الشمسية أو بطاريات السيارات الكهربائية أو الإلكترونيات من فراغ، إذ إن التقدُّم الصيني السريع وثيق الصلة بنقاط القوة الصناعية وضبط الجودة التي تمتلكها. منذ مطلع التسعينيات إلى اليوم، انتقلت العمالة الصينية من إنتاج ألعاب الأطفال والمنسوجات البسيطة إلى تنفيذ عمليات صناعية معقدة واستثنائية لا غنى عنها في إنتاج الإلكترونيات المتطورة مثل آيفون. وعلى مدار هذه المسيرة الطويلة، عادة ما حققت الشركات الصينية طفرات ملحوظة من صُنعها، حيث إن الابتكارات التكنولوجية في الصين لم تأتِ من الجامعات ومختبرات الأبحاث، بل أتت عن طريق التعلُّم الذي أفرزته عملية الإنتاج الضخمة نفسها. ولذا، فإن السعة الهائلة لصُنع الأشياء في الصين تقع في القلب من صعود البلاد سُلَّم التكنولوجيا المتطورة.

سر القفزة الصينية.. الخبرة الكثيفة

في مقابل كل صناعة صينية استفادت بالفعل من السياسات الحِمائية الحكومية، توجد صناعات أخرى لم تنفعها تلك السياسات حتى الآن، مثل صناعة السيارات. (شترستوك)

لقد تحقَّق التقدّم التكنولوجي الصيني بأثمان باهظة، إذ نجحت بكين في احتلال مكانتها الحالية عبر كمّ مذهل من الموارد الحكومية، وقد أدت حُزَم الدعم الحكومي الضخمة تلك إلى تأثير مُضلِّل، فقد نشرت الهيئة الوطنية للبحوث الاقتصادية بولاية ماساتشوستس الأميركية دراسة في ديسمبر/كانون الأول الماضي وجدت أن بكين لديها سِجل سيئ في انتقاء الفائزين بالدعم الحكومي، وأنهم يميلون عادة إلى تحقيق معدلات أبطأ في نمو الإنتاج. وقد جرت العادة، وفقا للعديد من نُقّاد النموذج الصيني، بأن تأتي القفزات الصينية مدفوعة بالحماية الزائدة التي توفرها الحكومة، علاوة على سرقة حقوق الملكية الفكرية واسعة النطاق في الصين.

رغم أن هناك بعض الحقيقة في تلك الادعاءات، فإنها غير كافية لتفسير صعود الصين، ففي مقابل كل صناعة صينية استفادت بالفعل من السياسات الحِمائية الحكومية (مثل منصة الإنترنت الشهيرة “بايدو”) توجد صناعات أخرى لم تنفعها تلك السياسات حتى الآن، مثل صناعة السيارات، حيث لا تزال الصين بعيدة عن امتلاك شركات تنافس بسياراتها كبرى الشركات العالمية. إن نقل التكنولوجيا دون موافقة أصحابها وسرقات الملكية الفكرية لعله ساعد بعض الصناعات الصينية، والولايات المتحدة وحلفاؤها مُحِقُّون في مكافحة تلك الظواهر، بيد أن تلك الظواهر وحدها لا تفسر لنا ريادة الصين لمجالات البطاريات والهيدروجين والذكاء الاصطناعي.

بدلا من ذلك، يكمن العامل الأهم في نهضة الصناعات التكنولوجية الصينية في المناخ المصاحب لها. على مدار العقدين الماضيين، خلقت الصين سعة إنتاجية لا يضاهيها أحد في مجال الصناعات كثيفة التكنولوجيا، وهي سعة تتسِم بوجود كم هائل من العمالة، وشبكات وفيرة من المُورِّدين، ودعم حكومي واسع. وتستند عناصر القوة تلك على تاريخ الصين الصناعي، ففي عقودها الأولى بعد تأسيس الجمهورية، أولت الحكومة اهتماما خاصا بالصناعة، وقد فعلت ذلك بشكل كارثي أثناء “القفزة الكبرى للأمام” التي دشّنها “ماو زيدونغ”، ثم فعلته مجددا بشكل أكثر كفاءة تحت قيادة “دِنغ شياوبينغ” الذي أطلق العنان لإصلاحاته الحديثة الأربعة. وبدءا من التسعينيات، انطلقت الإمكانيات الصناعية الصينية، وحفّزتها بالأساس طبيعة السوق العالمي أكثر من المبادرات الحكومية الصينية نفسها، وذلك إبّان انضمام البلاد إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001.

نقل الرئيس “شي جين بينغ” اهتمام بلاده بالصناعة طيلة العقد الماضي إلى حالة قصوى، فبعد أن وصل إلى منصبه بعامين، أطلق مبادرة “صنع في الصين 2025″، وهو إطار للسياسات هدَفَ إلى نقل القاعدة الصناعية الصينية من الصناعات ذات العمالة الكثيفة إلى قطاعات التكنولوجيا المتطورة. وفي عام 2021، في مُستهل خطتها الخمسية الأخيرة، أعلنت بكين عن حملة لتحويل الصين إلى “قوة صناعية عظمى”. ولم يكن ذلك مجرد شعار رنَّان، بل وجّهت الحكومة في الحال جهودا هائلة وكميات ضخمة من القروض لصالح شركات التكنولوجيا المتطورة، حتى وهي تعلم بأن أمامها سنوات طوال قبل أن تدرّ الأرباح.

يُدلِّل على ذلك ما جرى في قطاع الطاقة الشمسية، فقد أغرقت بكين جميع الشركات الناشئة بالدعم الحكومي، وشجعت عددا يفوق احتياجاتها للدخول في هذا المجال، لكنها أشعلت في تلك الشركات حِس المخاطرة، وخلقت صناعة ذات تنافس عنيف جدا تقدَّم فيه الأقوى على حساب الأضعف. ونتيجة لذلك، تهيمن الشركات الصينية على تلك الصناعة الإستراتيجية التي يعتمد عليها العالم كله. إن هذا النهج في تشجيع الإمكانيات الصناعية إلى حد يفيض عن الحاجة يناقض العقيدة الاقتصادية الكلاسيكية الموجودة في الغرب، التي تؤكد على الاهتمام بنشاطات تضيف القيمة مثل البحوث والابتكار وتسويق المنتجات، وتُقلِّل من شأن عملية الإنتاج المادية نفسها بوصفها جزءا يمكن تدبيره بتكلفة بسيطة خارج عُقر دارها، وعادة في بلد آسيوي.

نموذج شِنزِن.. وادي السيليكون الصيني

لقد أصبح نهج الصين المدفوع بالإمكانية التصنيعية نفسها محوريا لقدرتها على منافسة الغرب في مجال التكنولوجيا المتطورة. ولفهم السبب، من المهم أن ندرك طبيعة القوى التي تحرك الابتكارات الناجحة. إن إنتاج تكنولوجيا جديدة يشبه صنع البيض المخفوق، فهناك المكونات والخطوات ثم المطبخ المُجهَّز بالأدوات اللازمة. بيد أن الأدوات وحدها لا تكفُل الوصول إلى نتيجة جيدة، وحتى أولئك الذين يمتلكون أفخر الأدوات وأفضل الوصفات لا يمكنهم أن يصنعوا بيضا مخفوقا لذيذا إن لم يطبخوا قط في حياتهم. إن العنصر الإضافي هنا هو الخبرة العملية، والمهارات التي يمكن تعلُّمها فقط بتكرار التجربة مرات ومرات، وهي التي نشير إليها بـ”المعرفة العملياتية”، وهي جزء من التجربة التي ساعدت الصين على التحوُّل إلى قطب في الابتكار التكنولوجي.

معظم منتجات شركة أبل تُصنَّع عن طريق شركات أخرى مثل “فوكسكون” و”بِغاترون” التي تدير قوى عمالية خاصة بها في الصين. (شترستوك)

رغم أنه يصعُب علينا قياس المعرفة العملياتية تلك، فإنه بوسعِنا تقديرها عبر النظر في مستوى الخبرة الموجود لدى قوة عاملة بعينها، وفي نشأة الشبكات المتداخلة من النشاط الصناعي. وتمتلك الصين نقاط قوة واضحة على هذين المستويين، فقد حققت البلاد نجاحاتها التكنولوجية الأبرز في تطوير قوة عاملة ضخمة وعالية الخبرة يمكن تطويعها وفقا للاحتياجات في صناعات التكنولوجيا الكثيفة، فمثلا، لا تزال شركة أبل تعد الصين البلد الوحيد القادر على تعبئة مئات الآلاف من العمال المُدرَّبين تدريبا عاليا في وقت وجيز، والقادر على إتاحة الوصول إلى شبكات كثيفة من مُورِّدي المكونات المادية، وكذلك القادر على الاستناد إلى الدعم الحكومي لحل المشكلات الكثيرة المتداخلة التي تنشأ في خضم إنتاج الملايين من منتج بعينه سنويا، مثل آيفون.

بيد أنه يُذهلنا بالقدر نفسه كيف استخدمت الصين الشركات الأجنبية للمساعدة في بناء شبكاتها الصناعية المعقدة، أو ما يسميه الاقتصادي “براد دي لونغ” بـ”مجتمعات هندسة الممارسة”. لقد أصبحت شركات أميركية مثل “كاتربيلار” و”جنرال إلكتريك” وتِسلا” جهات توظيف كبرى في الصين، كما أن معظم منتجات شركة أبل تُصنَّع عن طريق شركات أخرى مثل “فوكسكون” و”بِغاترون” التي تدير قوى عمالية خاصة بها في الصين. وعلى العكس من اليابان التي حافظت على سوق مغلق نسبيا أثناء عقود النمو بعد الحرب العالمية الثانية، فإن الصين حفَّزت قفزتها الصناعية عبر التعلم المباشر من الشركات الأجنبية. ورغم حرب التجارة التي شنّها الرئيس الأميركي السابق “دونالد ترامب”، امتنعت بكين عن الرد بالمثل تجاه الشركات الأميركية في الصين، وينبع ذلك جزئيا من إدراكها للخبرة الإدارية التي تجلبها تلك الشركات، وما تنقله من مهارات صناعية للعمال الصينيين.

عبر التفاعل المستمر مع العمليات الصناعية لكبرى شركات العالم الرائدة في مجالاتها، اكتسب العمال الصينيون مهارات يمكن أن يأخذوها معهم إلى الشركات المحلية. ولننظر مثلا في إنتاج بطاريات السيارات الكهربائية، إن إنتاج البطارية يتطلب أكثر من 10 خطوات واضحة، وتحتاج كل خطوة منها إلى تسلُّم البطارية من الخطوة السابقة بشكل لا مجال فيه للخطأ. لقد اكتسب مُديرو الهندسة الصينيون المعرفة العملياتية الضرورية لهذه المهمة عبر خبراتهم في مجال الإلكترونيات التجارية. على المنوال نفسه، كان نقل المعرفة التصنيعية واحدا من مفاتيح هيمنة الصين في مجال الطاقة الشمسية، وهو قطاع شهد قفزات طيلة العقد الماضي، لم يكن الدافع لها الابتكار العلمي بحد ذاته، وهو تخصُّص الولايات المتحدة، بل النجاح في تخفيض التكلفة عبر زيادة كفاءة عملية الإنتاج، وهو نقطة القوة الصينية.

إن ظهور مدينة “شِنزِن” بوصفها معقلا للتكنولوجيا العالمية يُنبئنا بأهمية “المعرفة العملياتية”. في السنوات التالية لتوطين صناعة آيفون عام 2007، طوَّرت المدينة صناعة تكنولوجية محلية حيوية ومثالية لإنتاج الأجهزة المعقدة، وسرعان ما بدأ العمال يستخدمون خبرتهم الإنتاجية والهندسية لابتكار منتجات أخرى. وقد بُنيَت معامل للبحوث والتطوير إلى جانب منشآت التصنيع، ومن ثَمّ حظي مهندسو شِنزِن بوصول لا مثيل له للمورِّدين والعمال ذوي الخبرة والمُصمِّمين المهرة. واليوم، تتبوأ المدينة موقع الصدارة في الطائرات المسيّرة التجارية، وخوذات الواقع الافتراضي، وغيرها من الإلكترونيات المُستحدَثة، وتقف وراء هذه الصدارة عمالة ماهرة أمضت سنوات اختلطت فيها برواد الأعمال أصحاب الأفكار الجريئة، وفي عصر أصبحت فيه أسعار المكونات الإلكترونية زهيدة، مثل الكاميرات والبطاريات والشاشات. ولذا، تُشبِه شِنزِن اليوم منطقة وادي السيليكون في الولايات المتحدة، حيث يختلط أساتذة الجامعات برواد الأعمال، بالعمال، بالمستثمرين.

منحنى الابتسامة.. كيف تدهور التصنيع الأميركي؟

رغم التراجع النسبي لشركتَي “إنتِل” و”بوينغ”، تظل الولايات المتحدة رائدة صناعة معدات إنتاج أشباه الموصلات ومحركات الطائرات. (رويترز)

في العقود التالية على الحرب العالمية الثانية، استخدمت الولايات المتحدة ريادتها العلمية للهيمنة على الكثير من الصناعات التكنولوجية من الحواسيب وحتى الطيران، وقد رأت واشنطن أن هذا النهج منطقي في وقت مثَّلت فيه ابتكارات المعامل والنقلات الكبرى في التصميم ركنا رئيسا في سباق الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي. وبدا أن هذا النهج المدفوع بالعلم يُحبِّذه السوق أيضا، ففي التسعينيات رأى “ستان شيه”، رائد الأعمال التايواني، أن معظم أرباح الصناعات التكنولوجية تأتي من الجزء الأول في سلسلة القيمة -التصميم والبحوث والتطوير- ومن الجزء الأخير كذلك وهو تسويق المُنتَج، في حين أتى النصيب الأصغر من الأرباح من عملية التصنيع ذاتها، التي تقع في منتصف سلسلة القيمة (وهو ما عُرِف بمنحنى الابتسامة [The Smiling Curve]). جسَّدت أبل هذا النموذج بوضوح، حيث تقوم الشركة الأعلى قيمة في العالم اليوم بتطوير منتجاتها بنفسها وكذلك بتسويقها، تاركة أعباء التصنيع قليلة القيمة لشركائها في الصين وغيرها من بلدان آسيوية. وإيمانا بالحكمة ذاتها، أمضت الشركات الأميركية العقدين الماضيين في التركيز على البحوث والتطوير والتسويق، واعتمدت على الصين من أجل احتياجاتها التصنيعية.

كانت إحدى نتائج هذا التركيز هي استمرار الريادة الأميركية في بعض الصناعات التي تحتاج إلى تكامل معقد بين عدد من المجالات العلمية. فرغم التراجع النسبي لشركتَي “إنتِل” و”بوينغ”، تظل الولايات المتحدة رائدة صناعة معدات إنتاج أشباه الموصلات ومحركات الطائرات. على العكس من واشنطن، لا تمتلك الصين تقليدا طويلا في توسيع آفاق العلوم، كما أنها حتى اليوم تُنتِج بحوثا ابتكارية أقل بكثير في تلك الصناعات من الولايات المتحدة، ولديها سجلّ ضعيف نسبيا في الترويج للبحوث العلمية المفيدة.

بيد أن هذا لا يعني أن قطاع التكنولوجيا الأميركي على ما يرام، فقد انصاعت الكثير من الشركات الأميركية لمنطق منحنى الابتسامة أكثر من اللازم في العقود الأخيرة، وكرَّست موارد أكبر لطرفَي المنحنى (البحوث والتسويق)، وتركت قدرات التصنيع في مهب الريح. منذ عام 2000، خسرت الولايات المتحدة حوالي 5 ملايين وظيفة تصنيع -ما يكافئ ربع قوتها العاملة التصنيعية- بسبب هذا الاتجاه، ما نتج عنه فقدان مهارات كثيرة، لا في عمالة خطوط الإنتاج فحسب، بل وفي عمال الآلات ومديري المصانع ومُصمِّمي المنتجات. وعلى المدى البعيد، ترك هذا التدهور واشنطن في موقع ضعيف يعيقها عن الهيمنة على التكنولوجيا الجديدة الصاعدة.

وصلت واردات منتجات الطاقة الشمسية في الولايات المتحدة إلى 8 مليارات دولار عام 2022، وأتى معظمها من الشركات الصينية التي تنتج منتجاتها في دول جنوب شرق آسيا. (شترستوك)

على سبيل المثال، كان من المفترض أن تتصدر الولايات المتحدة قطاع الطاقة الشمسية مع ريادتها العلمية فيه، وقد أبدت استعدادا بالفعل لتحقيق ذلك الهدف، ففي عام 2012 فرض الرئيس السابق “باراك أوباما” جمارك على واردات منتجات الطاقة الشمسية الصينية في محاولة منه لحماية المُنتجين المحليِّين، ولكن حتى مع هذه الإجراءات الحِمائية، لم يتمكن مُصنِّعو الولايات المتحدة من المنافسة. لقد امتلكت الصين بالفعل وصولا جاهزا لقاعدة ضخمة من العمال والمُورِّدين المهرة، ومن ثَمّ أمكنها أن توسِّع نطاق الإنتاج بلا حدود، أما الولايات المتحدة، وبعد سلسلة من تسريح ملايين العمال، خسرت معظم مخزونها من المعرفة العملياتية، ولم تعد لديها سعة بناء قاعدة تصنيع فعّالة. نتيجة لذلك، وصلت واردات منتجات الطاقة الشمسية في الولايات المتحدة إلى 8 مليارات دولار عام 2022، وأتى معظمها من الشركات الصينية التي تنتج منتجاتها في دول جنوب شرق آسيا.

إن فشل قطاع الطاقة الشمسية الأميركي جزء من حكاية أكبر عن تدهور التصنيع الأميركي. لقد حفَّزت هذا التوجّه الأتمتة المتزايدة إلى حد ما، لكن مكامن الضعف الأخرى فيه جديرة بالنظر أيضا. ففي الأيام الأولى لجائحة كوفيد-19، وكغيرها من البلدان، احتاجت الولايات المتحدة إلى كميات ضخمة من لوازم الوقاية الشخصية والمعدات الطبية، لكن الشركات الأميركية عانت الأمرَّين للتكيّف مع تلك الاحتياجات وتكريس خطوط الإنتاج لصناعة أقنعة الوجه وعيدان القطن المستخدمة في المَسَحَات، وهي منتجات غير معقدة بأي حال. لقد حدث ذلك لأن تلك الشركات خسرت الكثير من المعرفة العملياتية الضرورية، في حين استطاع نظراؤها في الصين التكيف سريعا مع حالة الطوارئ حينها وأنتجوا العديد من اللوازم الطبية التي احتاجت إليها الولايات المتحدة وغيرها من البلدان.

حتى الآن، تبدو جهود الولايات المتحدة لإعادة توطين الوظائف الصناعية التي ذهبت إلى آسيا مخيبة للآمال، فقد دفعت شركة أبل نحو إنتاج المزيد من أجهزة الحاسوب الخاصة بها في ولاية تِكساس مثلا، لكن جهودها تراجعت بعد عام 2012 بسبب افتقارها لدعم بيئة صناعية تتوافر فيها المكونات الإلكترونية. أتت واحدة من الاستثناءات حين نجحت الولايات المتحدة في إنتاج لقاحات الحمض النووي الريبوزي (RNA)، التي أثبتت كفاءة أفضل من اللقاحات التقليدية التي أنتجتها الصين. غير أن المنافسة مع الصين وصناعاتها المتطورة في قادم الأعوام تحتاج من واشنطن إلى ما هو أكثر من مجرد الانتصار في سباق واحد صغير في مجال التكنولوجيا الحيوية.

سباق اكتشاف نقاط الضعف

(شترستوك)

في خضم تحديها للنهج الغربي في التطور التكنولوجي، لم تتوانَ الصين عن الإقرار بنقاط ضعفها في مجال إنتاج المعرفة العلمية، ففي تقرير للمؤتمر الوطني العام العشرين للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلن الرئيس “شي” أن العلوم والتكنولوجيا ستكون واحدة من أولويات الحزب القصوى، ورغم أن التحسّن الملحوظ في بيئتها البحثية سيستغرق بعض الوقت، تشهد الصين تقدما ثابتا في مجالات مثل استكشاف الفضاء والاتصالات الكمِّية. وتبدو بكين حريصة تحديدا على تطوير صناعة أشباه موصلات محلية، لا سيما وقد حُرِم عملاق الاتصالات الصيني “هواوي” وشركة تصنيع الشرائح الإلكترونية الصينية “SMIC” من الوصول إلى التقنيات المتقدمة الأميركية والأوروبية. إن واحدة من النتائج غير المقصودة لتقييد وصول الشرائح الإلكترونية الذي فرضته واشنطن هي الدفعة التي تلقتها الاستثمارات الصينية في العلوم والبحوث والتطوير.

على النقيض، لم تقف الولايات المتحدة حتى الآن على نقاط ضعفها فيما يخص المعرفة العملياتية، ولا شك أن تمرير قانون “تشيبس” وقانون تخفيض التضخّم العام الماضي يمثل خطوة كبرى للأمام في السياسة الصناعية الأميركية، بالنظر إلى ما يُخصِّصه من مليارات من التمويل الفيدرالي لصالح الصناعات المتطورة. غير أن الكثير من السياسات الأميركية ما زالت مُنصبَّة على توسيع آفاق العلوم وليس البناء على المعرفة العملياتية والبيئة الصناعية الضرورية لجلب المنتجات إلى الأسواق. ولذا، فإن نهج واشنطن للمنافسة التكنولوجية مع الصين يضعها في خطر تكرار الأخطاء التي ارتكبتها في مجال الطاقة الشمسية، حيث يضع العلماء الأميركيون أُسس تكنولوجيا جديدة ثم يرون بأم أعينهم الشركات الصينية وهي تتصدر سباق إنتاجها. على سبيل المثال، في مجال المُحلِّلات الكهربائية (Electrolyzers)، التي تفصل الهيدروجين عن الماء وتُعَد أداة محورية لإنتاج الهيدروجين الأخضر، تبدو الصين في طريقها للهيمنة على ذلك القطاع بكفاءة الإنتاج العالية لديها.

لقد وصل “أندي غروف”، المدير التنفيذي الشهير لشركة “إنتِل”، لهذا الاستنتاج منذ 10 سنوات، حين حثّ بلاده على تقليل هَوَسها بما أسماه “لحظة الابتكار الأسطورية” والتركيز أكثر على عملية طرح الابتكارات في الأسواق، وأضاف قائلا إن تلك المرحلة الأخيرة “هي المرحلة التي تكبُر فيها الشركات بحق، حيث تعمل على تفاصيل التصميمات، وتقرر كيف تنتج بأقل كُلفة، وتبني المصانع، وتُوظّف الناس بالآلاف”. إن تخصيص الأموال ليس سوى الخطوة الأولى لبناء قطاع تكنولوجي صلب، ويجب أن يصاحبه جهد أميركي لإنهاء التكاليف الزائدة التي عادة ما تصيب محاولات بناء بنية تحتية صناعية في البلاد. وسيتعيَّن على الكليات والجامعات المرموقة في الولايات المتحدة أن تُدرِّب الطلبة بشكل أفضل على عمليات التصنيع المتطورة، وسيكون لزاما على واشنطن أن تتعلم من ريادة بكين في هذا المجال، وأن تبحث بنفسها عن استثمارات أجنبية. وقد دَعَت إدارة بايدن بالفعل، مثلها مثل إدارة ترامب، العديد من الشركات اليابانية والكورية والتايوانية كي تبني مصانع لإنتاج الشرائح الإلكترونية في الولايات المتحدة، وهي شركات مُرحَّب بها بسبب خبرتها في سلاسل إمداد الإلكترونيات.

هناك واقع اقتصادي في نهاية المطاف يقضي بأن الولايات المتحدة ستظل دوما مكانا صعبا لإنتاج السلع، نتيجة لتعدادها السكاني الصغير نسبيا والأجور الأعلى المطلوبة فيها، أضف لذلك أن الدولار الأميركي بوصفه عملية الاحتياطي الدولي يزيد من الكُلفة النسبية لإنتاج السلع محليا، ومن ثَمّ ستظل الولايات المتحدة عاجزة عن منافسة الصين في معظم مجالات تصنيع السلع المطلوبة بكميات ضخمة. بطبيعة الحال، لا يجب أن تسعى الولايات المتحدة لإنتاج كل شيء، بل يجب عليها أن تستهدف الصناعات الإستراتيجية التي تتميز فيها بعنصر تفوُّق منطقي.

لقد تعرّض السوق الصيني لهزّة بسبب الإغلاقات المتكررة التي فرضتها جائحة كوفيد-19، وفي أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، يبحث مستثمرون كثيرون الآن عن تجنُّب المخاطر المرتبطة بالاستثمار في الصين، ومن ثَمّ يبدو أن هناك فرصة فريدة من نوعها للولايات المتحدة كي تستعيد بعضا من وظائف التصنيع التي خسرتها، بيد أن واشنطن بحاجة إلى سياسة صناعية جديدة تُركِّز على العمال والمعرفة العملياتية وليس على هوامش الربح، وإلا فإن الصين ستقود الثورة التكنولوجية القادمة، لا الولايات المتحدة.

_________________________

هذا التقرير مترجم عن Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post هيئة التنمية الصناعية تطرح 1.7 مليون متر موزعة على 14 محافظة
Next post 4 Snacks To Energise You With The High Spirit Of Independence Day

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading