لصناديق الاستثمار المصرية قصة درامية حزينة مليئة بالتحديات ومحاولات الصمود والبقاء على قيد الحياة على مدى يقترب من نحو 30 عاما، ونحاول هنا أن نوثق محطات تلك الرحلة، ونرصد أبرز التحديات التي تواجه هذه الأداة الاستثمارية.
في النصف الثاني من عام 1996، دخلت البورصة المصرية مرحلة من الصعود المستمر؛ مما شجع البنوك على تأسيس صناديق استثمار جديدة، بلغت 4 صناديق في تلك الفترة، ومع استفادة تلك الصناديق من صعود البورصة وارتفاع قيمة وثائقها بشكل ملحوظ اتجهت أنظار كثيرين للاستثمار في الصناديق.
وشجع هذا الإقبال بنوكا أخرى على تأسيس صناديق جديدة، حتى أنه عند بيع وثائق صندوق بنك “أميركان إكسبريس” اصطفت طوابير من الناس أمام فروع البنك للشراء، وسعى بعضهم للحصول على “واسطة” من داخل البنك لشراء وثائق صندوقه.
وفي أواخر عام 1996، دعتني عضو مجلس إدارة جمعية سيدات القاهرة السيدة سعاد خالد -رحمها الله- لإلقاء محاضرة عن صناديق الاستثمار، ولاحظت أن أعمار العضوات لا تقل عن 65، وأغلبهن من أسر ثرية، وعلمت أنهن تعودن على استضافة الفنانين والفنانات لقضاء أُمسية مرحة، وهو ما فسر لي الأناقة الفائقة للحاضرات اللاتي فوجئن بموضوعها الجاف فكسا الوجوم وجوههن.
وألهمني الله أن أبدأ حديثي بسؤال إحداهن عن سعر الذهب في ذلك الوقت، فردت ببرود فكتبته على اللوحة، وسألت أخرى عن سعره في بداية السنة فردت بتجهم فكتبته أيضا، ثم سألتهن عن معدل الفائدة في البنوك وكتبته، ثم كتبت لهن من أوراقي سعر سهم مميز في البورصة وكيف تطور من بداية العام إلى يوم المحاضرة محققا نموا كبيرا، وشرحت لهن معنى السهم ببساطة، وبدأتُ مقارنة بين معدلات العائد على الذهب والودائع ومعدلات عائد ذلك السهم، فكانت النتيجة لصالح السهم، ثم قارنتهما بسهم ثان وثالث فظهر لنا أن معدل نمو الأسهم -في ذلك الوقت- أعلى كثيرا من الذهب والودائع.
ولاحظت أن علامات التجهم آخذة في التراجع، فتشجعت للانتقال إلى تعريف صندوق الاستثمار بوصفه وعاء يقوم بالاستثمار نيابة عن مُلاكه من خلال خبراء متخصصين، يحللون المراكز المالية للشركات، ويتابعون أداءها ويختارون الأكثر ربحية، مما يجعل الصندوق وسيلة لدخول أصحاب المدخرات الصغيرة إلى عالم البورصة المليء بالألغاز، وبعد المحاضرة وجدت بعضهن يحطن بي سائلات عن كيفية الاستثمار في البورصة وصناديق الاستثمار.
29 عاما على بداية صناديق الاستثمار
وتاريخيا لم تعرف مصر صناديق الاستثمار قبل صدور قانون رأس المال منتصف عام 1992، أي بعد عام من برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي التزمت به مصر مع كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
واستغرق الأمر 27 شهرا حتى أسس البنك الأهلي المصري (أكبر البنوك المصرية) أول صندوق استثمار في سبتمبر أيلول 1994، وتطلب الأمر الاستعانة بأحد الخبراء المصريين العاملين بالخارج، وهو ما تكرر في بنك مصر (ثاني أكبر البنوك) الذي استعان بمغترب مصري آخر، وتلاهما البنك المصري الأميركي مؤسسا صندوقا جديدا في الشهر التالي، ثم بنك الإسكندرية في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، وفي عام 1995 أعلن بنك مصر عن صندوقه الأول، وتلته شركة تأمين ثم بنوك أخرى، لينتهي العام وقد تأسست 5 صناديق.
لكن الرياح لم تكن مواتية تماما، إذ شهدت البورصة مرحلة هبوط سعري استمرت من أواخر أكتوبر/تشرين الأول 1994 إلى منتصف 1996، حيث تحسنت أحوالها وبدأت في صعود استمر حتى فبراير/شباط 1997، وعادت بعده للانخفاض فترة طويلة امتدت حتى عام 2001، مما انعكس على أحوال صناديق الاستثمار التي هبطت إلى أدنى من القيمة الاسمية التي صدرت بها.
الخسائر تتسبب في تنويع المحافظ
وهكذا أصبح المستثمر البسيط -الذي لجأ إلى الصناديق للحصول على ربح- في مأزق مع تآكل قيمة ما دفعه من دون الحصول على عائد، فاسترد كثيرون قيمة وثائقهم فانخفضت أصول الصناديق إلى أدنى من نصف ما بدأت به.
دفع هذا البنوك المنشئة للصناديق إلى تقليل الاستثمار في الأسهم، والاتجاه إلى توظيف جانب من أرصدتها في الأدوات ثابتة العائد لتحقيق التوازن، بل ظهر صندوقان يستثمران فحسب في الأدوات ثابتة العائد من أذون وسندات خزانة وودائع، ونتيجة لذلك حقق 19 صندوقا من بين 21 صندوقا موجودة في السوق خسائر في عام 2000 ونجا من ذلك الصندوقان النقديان.
استمر 18 صندوقا من تلك التي تستثمر في الأسهم في الخسارة خلال عام 2001، حتى تحسنت أحوال البورصة عام 2002 فتحسن أداء تلك الصناديق بنسبة 9%، ثم زاد إلى 30% عام 2003، وحفاظا على سمعة الصناديق المتدهورة، توسعت البنوك في تأسيس صناديق نقدية تستثمر في الأدوات ثابتة العائد وحدها (أي أنها بلا مخاطر)، وظهرت صناديق تضمن للمستثمرين أصل ما دفعوه، وظهرت صناديق إسلامية تستثمر في أسهم شركات تعمل في المجالات المباحة شرعا وأخرى إسلامية “نقدية”، وظهرت صناديق المؤشرات التي تستثمر في الأسهم التي يتضمنها مؤشر البورصة الرئيسي المكون من 30 سهما، وصناديق تستثمر فقط في وثائق استثمار الصناديق الأخرى، وصناديق تستثمر في الأدوات ثابتة العائد بالدولار أو اليورو، وصناديق عقارية وصناديق خيرية يتم التبرع بعائدها لأنشطة اجتماعية، حتى أصبح هناك أكثر من 11 نوعا من الصناديق في السوق.
الصناديق لا تزال تكافح لإيجاد مكان لها بين خيارات الاستثمار في مصر، في ضوء استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار، واستمرار البنوك في إصدار شهادات ادخار ذات عوائد مرتفعة
37 صندوقا نقديا و17 إسلاميا
قام أحد الصناديق أيضا بإتاحة ائتمان يصل إلى 90% مما دفعه المستثمر في الصندوق، وبدأت شركة في تأسيس صندوق يستثمر في الذهب وأخرى للاستثمار في الصكوك، وهكذا وصل عدد الصناديق مع نهاية عام 2021 إلى 122 صندوقا، بينها 34 صندوقا نقديا، و3 إسلامية نقدية و27 للأسهم، و10 إسلامية و7 ذات دخل ثابت و3 تحمى رأس المال، و2 يستثمران في الصناديق الأخرى و2 إسلامية متوازنة و2 يستثمران في العملات الأجنبية.
ولم تصدر بعد بيانات الصناديق لعام 2022، إلا أن صناديق أخرى تستثمر في مختلف المجالات تأسست بعد عام 2021، وأصبحت الصناديق “النقدية” تستحوذ على نحو 85% من إجمالي أصول كل الصناديق، فإذا كان البنك الأهلي المصري يملك 9 صناديق تبلغ أصولها 50.5 مليار جنيه، فإن قيمة أصول 8 من هذه الصناديق لا تزيد على 1.2 مليار جنيه، بينما تبلغ أصول صندوقه النقدي 49.3 مليار جنيه.
ورغم زيادة عدد الصناديق، فقد ظل عدد صناديق الأسهم ثابتا بين عامي 2013 و2021 بسبب تقلب أدائها مع تقلبات أداء البورصة التي تراجع أداء مؤشرها الرئيسي عام 2018 بنسبة 13%، وارتفع 7% فقط في العام التالي، ثم عاد للانخفاض في 2020 (عام كورونا) بنسبة 22%.
وعاد مؤشر البورصة للصعود عام 2021 بنسبة 10%، كما استمر مؤشرها الثلاثيني في الصعود العام الماضي بنسبة 22%، الأمر الذي حسّن أداء الصناديق، لا سيما مع بلوغ معدل نمو المؤشر السبعيني للبورصة 27%، فبلغ متوسط نمو الصناديق الإسلامية خلال العام 27.7%، وصناديق الأسهم 22.7%، والمتوازنة 22%، وضمان وحماية رأس المال 11%، والنقدية 10%، والإسلامية النقدية 9.6%، والدخل الثابت 8%، والعملات الأجنبية 0.6%.
ورغم تحسن عوائد الصناديق فإن معظمها جاءت أقل من معدل التضخم، الذي بلغ في الشهر الأخير من العام الماضي 21.9% وفقا لجهاز التعبئة الإحصاء، و24.4% وفقا للبنك المركزي، ومع ذلك لم تحقق الصناديق النقدية عائدا يزيد على 10%، في الوقت الذي طرحت فيه بنوك حكومية للمستثمرين شهادات ادخار بعائد 18% في مارس/آذار 2021، و17.25% في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ويقارن آخرون عوائد الصناديق بما حصلوا عليه من عوائد أعلى كثيرا، من خلال الاستثمار في العقار أو الأراضي أو الذهب أو العملات الأجنبية، فينصرفون عن الاستثمار في صناديق الاستثمار، حيث زاد سعر الذهب (عيار 21) بنسبة 114%، وزاد الدولار -حسب السعر الرسمي- بنسبة 57% خلال العام، لتظل مشكلة سعي الصناديق لإيجاد مكان لها بين خيارات الاستثمار المتاحة حاليا في الساحة المصرية قائمة، في ضوء استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار (الرسمي وغير الرسمي)، واستمرار البنوك في إصدار شهادات الادخار ذات العوائد المرتفعة.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.