يايوي كوساما، فنانة تشكيلية يابانية، ولدت عام 1929، وتشتهر بلقب “ملكة التنقيط”، لأن النقط هي القاسم المشترك بين جميع أعمالها الفنية، التي تعرض عناصر من الحركة النسائية والسريالية والتقليدية.
امتازت بإتقانها فن البوب الأميركي، واستطاعت عن طريقه تفريغ وسواسها القهري تجاه “النقط” والتسلسل اللانهائي، ودخلت عالم الفن من أوسع أبوابه.
تعد يايوي من أهم رواد الفن المعاصر، فقد عملت في مجال الموسيقى والكتابة والموضة والسينما وكتابة الشعر، وتميزت بمعارضها الفريدة التي طافت بها العالم، وهي من أوائل الفنانين الذين قدموا الفن التجريبي المعيش، وألهمت كثيرا من فناني “الفن الحرفي” و”فن المينيماليزم”.
وخلال مسيرتها الفنية، استطاعت كوساما إقامة أكثر من 100 معرض فني وأنتجت 10 أعمال أدبية وسينمائية، وعملت مع كبرى شركات الأزياء والتصميم والماركات العالمية، حتى عُدت من أهم رواد الفن المعاصر الحديث.
تعبِّر كوساما عن فنها قائلة إنه “وسيلتي لإصلاح الضرر الذي أحدثته طفولتي”، وترى أن فنها هو “المرض والعلاج”، وتقول عنه إنه فن “سايكوسوماتي” (اضطرابات جسدية ناشئة عن اضطرابات عقلية أو عاطفية).
الولادة والنشأة
ولدت يايوي كوساما يوم 22 مارس/آذار 1929، لعائلة تجارية ثرية في مدينة ماتسوموتو بمقاطعة ناغانو اليابانية. وهي أخت صغرى لـ4 أبناء تركهم والدهم منذ الصغر، مع أم أشعرتها دائما أن مجيئها للدنيا “كان غلطة”.
عائلتها لم تكن مستقرة وعاشت طفولة صعبة، تعرضت فيها للتعنيف الأسري، وكانت أمها تستعملها للتجسس على والدها الذي كان زير نساء، هذه التجربة كونت في نفسها ازدراءً للذكور والعلاقات بين النساء والرجال، الأمر الذي يظهر جليا في أعمالها ونتاجها الفني.
بدأت هلوسات اليقظة وهوسها بالنقاط منذ الطفولة، ولم يسلم شيء من رسمها، فرسمت على الأشجار والصخور والأثاث والألبسة، وأنشأت فنا يتماشى مع بعضه في كل أركان المكان الذي تعيش فيه.
وبالرغم من ثقتها وحبها الكبير لنفسها، فإنها مؤمنة بأنها مصابة بمرض عقلي يوجب عليها المكث في مصحة، وقد وصفت نفسها في سيرتها الذاتية بأنها “وسواس قهري يمشي على الأرض”.
بدأت الرسم في سن العاشرة، ووقتها بدأت تدمج النقاط في رسومها بعدما كانت تأتيها على شكل هلوسات ودوائر تراها، ثم عملت في مصنع للدفاع الياباني عندما بلغت 13 سنة، كانت تخيط فيه مظلات الجيش الياباني في أثناء الحرب العالمية الثانية، وأثرت هذه التجربة على مفهومي الحرية والإبداع عندها.
تقول كوساما عن تلك الفترة “لم أستطع أن أهرب من هذا التجنيد، لأن هذا ما أرادته الحكومة، وما أرادته المدرسة. عانيت حتى قُتل دماغي”.
هلوسات كوساما
تذكر كوساما أنها في طفولتها كانت تسمع صوتها كصوت كلب أحيانا، وكانت تسمع زهور البنفسج تتكلم، وأنها في مرة شعرت “بقوة شريرة” في قاع بركة سبحت بها، حاولت إغراقها وأخذ روحها.
بالإضافة إلى شعورها بالهلوسات والرؤى النمطية في طفولتها، ومنها الشعور بالنقاط والشباك والورود المتكدسة، ودخلت في ما يعرف عموما بهلوسة “التسلسلات اللانهائية”.
وتقول عن إحدى هذه الذكريات “كنت أتأمل يوما الورود الحمراء الصغيرة المطبوعة على مفرش الطاولة، وعندما نظرت إلى أعلى رأيت الطبعة ذاتها تغطي السقف ثم تكسو النوافذ والجدران، ثم غطت الغرفة كلها وغطتني وغطت الكون بأكمله”.
وتشرح إحساسها وقتها قائلة “شعرت أني أندثر لألتحم مع أبدية الزمن ولانهائية الكون، ثم أتلاشى. أدركت أن الأمر يتخطى خيالي نحو الواقع الفعلي. ارتعبت، وعلمت أن عليَّ أن أهرب”.
هكذا وجدت كوساما أن هروبها يكون في الولوج إلى عالم الفن، وكانت هلوساتها وهذيانها الملهم الأول لأعمالها، فيه تعبر عن التكرار اللانهائي، والأشكال النقطية التي تغزو كل شيء تصل إليه عيناها من جمادات ومساحات وبشر، أشعرتها برغبة ملحة في تمثيلها واقعيا.
الدراسة والتكوين العلمي
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، وهي السنة ذاتها التي تخرجت فيها من الثانوية، التحقت كوساما بمدرسة كيوتو للفنون والحرف عام 1948، رغم رفض عائلتها ولوجها عالم الفن، لكنها لم تستمر كثيرا فأسلوب رسم “نيهونغا” الشعبي الياباني لم يناسبها وكذا أسلوب “يوغا”، لما وجدت فيه من تقييد أحبطها، فحوّلت دراستها إلى الأسلوب الحر المعاصر (الأسلوب الطليعي)، الذي ينتشر بكثرة في أوروبا وأميركا.
كانت أعمالها حينها تعد ضمن الفن السريالي، ودعمها الناقد الفني شوزو تاكيجوشي، وهو أول من نظم لها معرضا منفردا بداية عام 1955.
التجربة الفنية
“شِباك لامتناهية”
بحلول عام 1950، كانت كوساما قد طوّرت أسلوبها الفني الخاص بكل أداة رسم استخدمتها، منها الألوان الزيتية والغواش والمائية، وعلى أسطح مختلفة منها الورق واللوحات والأثاث والجدران وحتى الأشجار، فأي شيء كان يخطر ببالها كانت ترسم عليه.
عام 1957، هاجرت إلى الولايات المتحدة الأميركية وكانت وقتئذ في أواخر العشرينيات من عمرها، وهناك أقامت أولى معارضها الفنية عام 1959، الذي قدمت فيه “شبكات اللانهاية” ونالت اهتمام النقاد وإعجابهم.
وتقول كوساما إن منبع فكرة الشِّبَاك كان نفسيّا، وتعدها “ستارا يفصل بينها وبين الناس والعالم والواقع”، وكانت تعمل عليها ليلا ونهارا حتى تنهار جسديّا.
عام 1960، استطاعت كوساما المشاركة في معرض متحف “قلعة مورسبرويش” الألماني، وكانت أولى مشاركاتها في المعارض الأوروبية.
بدأت بعدها الرسم بالنقاط البيضاء على الأحذية، وهنا ولد فنها الذي غزت فيه عالم الفن المعاصر بسرعة كبيرة، فشاركت في معرض “بوب آرت” (شكل من أشكال الفن الأميركي المعتمد على النقاط) في “صالة نيويورك الخضراء”، وبدأت خلالها علاقتها مع الفنانين أمثالها.
رغم غزارة منتوجها الفني، فإنها لم تستطع الحصول على ربح كاف، وكانت تدخل المشفى باستمرار نتيجة الإرهاق والهلوسات التي تتعرض لها إثر عملها المتواصل لساعات طويلة.
فن البيئة والمحيط
بداية عام 1962، انتقلت كوساما من فن اللوحات إلى فن “البيئة والمحيط”، وأنتجت على إثرها سلسلة “التكديس والقهر”، وهي تتمحور حول تغطية جمادات بأقمشة محشوة بالقطن.
جسدت هذه الفترة من حياتها تمثيلا للعقلية التي آمنت بها، فيبدو أن طفولتها لاحقتها في كل عمل مادي، حتى كرهت العلاقات، واحتجت على ما وصفته بـ”النمطية للأدوار الأنثوية والذكورية”.
عام 1963، أقامت أولى معارضها في الفن التركيبي بعنوان “تجميع: ألف قارب”، ثم لحقته بآخر “عرض صور متحركة”، وفيه قدمت أرضيات وأغراضا مغطاة بالمعكرونة.
عام 1965، قدّمت معرض “غرفة مرآة اللانهاية- حقول فيللي”، الذي ابتكرت فيه غرفا مغطاة بالمرايا والأضواء تظهر انعكاسات لانهائية، وتعطي أبعادا وهمية غير محدودة للمكان، يشعر معها الزائر “بالتلاشي”، وهذا الابتكار عد أحد أعمالها الفريدة المميزة، ولاقى رواجا عالميا ارتبط باسمها وميزها عن غيرها من الفنانين.
عام 1968، أنتجت فيلمها الشخصي “كوساما: طمس الذات” (Kusama’s Self-Obliteration)، الذي مثلت فيه بنفسها، وعبّرت فيه عن فكرة أعمالها ومسيرتها.
ربح الفيلم الجائزة الأولى في المسابقة الدولية للأفلام التجريبية في بلجيكا، والجائزة الثانية في مهرجاني “ميرلاند السينمائي” و”آن آربور السينمائي”.
عام 1970، عادت كوساما إلى اليابان، ونظمت تجمعا “للعراة” فألقي القبض عليها، وكانت قد تأثرت بحركة في أميركا بعد مشاركتها في مظاهرات نيويورك ضد قضايا كثيرة، منها تدخل أميركا في حرب فيتنام و”حقوق المثليين”.
ونظمت كوساما بين عام 1967 حتى 1970 ما لا يقل عن 75 عرضا حيا، بين عروض داخلية وأخرى في الشارع، تعرض فيها تأثرها بالفكر الأميركي ومحاولة نقلها لليابان.
مستشفى الأمراض العقلية
قررت العودة إلى أميركا بعد 3 أشهر، لكنها أصيبت بوعكة صحية قررت على إثرها العودة إلى اليابان للعلاج، ودخلت طواعية عام 1977 إلى مستشفى “سيوا للأمراض العقلية”، الذي يعتمد الفن للعلاج.
استغلت كوساما وقتها في المصحة بكتابة روايات وأشعار بأسلوب سريالي، فأصدرت عام 1977 كتابا شعريا أسمته “7”، ثم عددا من الروايات منها “مدمن انتحار مانهاتن” عام 1978، ثم “مغارة محتال في شارع كريستوفر” عام 1983، ثم رواية “بين الجنة والأرض” عام 1988. وكتبت كتاب “الملائكة في كيب كوب” عام 1990.
من أجل ملء الفجوة التي أحدثها غيابها عن الساحة الفنية الأوروبية، عملت على لوحات فنية ضخمة عرضت في طوكيو وميلانو عام 1982.
ونظرا للاهتمام الشديد الذي طال أعمالها في أميركا في أثناء غيابها، عادت عام 1989 بعدة معارض بادئة من نيويورك، ثم مثلت بلادها في منظمة “بينالي البندقية”.
عادت كوساما إلى إقامة المعارض الفنية والمشاركة فيها بداية من عام 1995 على المستويين المحلي والدولي حتى عام 1998، ومع بداية الألفية ضمت مدينة ماتسومو الموطن الأصلي لكوساما عرضا لأكثر من 300 عمل فني لها، وبعدها عرضت في طوكيو.
أقامت معرض “مصفوفة كوساما” عام 2004، وعبرت فيه عن هوسها بالتنقيط، وعام 2009 عملت على 100 لوحة ضخمة وسمت المشروع “روحي الأبدية”.
بسبب منتجها الفني الغزير، استطاعت كوساما أن تترك لها مكانا في أرقى المتاحف وصالات العرض في العالم، وأنجزت منحوتات وأعمالا عرضت في حدائق خاصة وعامة، منها “يقطينة” التي أنتجتها عام 2006، و”توليب” بعدها بعام، وحافلة “ميزوتاما رانب” الموجودة في مدينتها.
عالم الأزياء
استطاعت كوساما ولوج عالم الموضة والأزياء، فبالإضافة إلى مظهرها الفريد الذي تحرص على أن يمثلها ويمثل عالمها وهلوساتها، أسست شركة “كوساما للأزياء” عام 1968 لبيع الملابس التي صممتها بنفسها.
عام 2011، عملت مع شركة “لانكوم لمستحضرات التجميل وصممت 6 أقلام شفاه بكمية محدودة. كما عملت مع مصمم الأزياء الأميركي مارك جاكوبز، وشركة “لويس فيتون” وصممت عددا من الإكسسوارات والنظارات والملابس الجلدية وغيرها.
وفي تعاونها الأول مع “لويس فويتون”، طرحت مجموعة حقائب (منها حقائب يد وسفر) مصممة بأسلوبها الخاص المبتدع من دوائر الهلوسة عام 2012.
تعاونت مع لويس فويتون للمرة الثانية نهاية عام 2022، وأنتجت تشكيلة أعمال فنية كُشف عنها في عرض “كروز 2023” في سان دييغو، وطرحت في الأسواق يناير/كانون الثاني من العام نفسه.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.