الشيخ محمد عبده وفتاوى قضايا الإعدام | آراء


كثيرا ما نسمع القاضي في مصر -عند الحكم في قضية قتل يريد فيها الحكم بإعدام المتهم- يقول: تحال أوراق المتهم إلى فضيلة مفتي الجمهورية؛ أي: تحال أوراق القضية لإبداء الرأي الفقهي والشرعي من المفتي، حول موافقته أو رفضه تنفيذ حكم الإعدام في المتهم، وهذا تقليد قضائي جرى منذ الاحتلال البريطاني لمصر، استبدل المحاكم الشرعية بالمحاكم الأهلية، وجعل رأي المفتي استشاريا لا ملزما كما كان من قبل.

وبيّن الدكتور عماد أحمد هلال -في موسوعته القيمة “الإفتاء المصري” بأجزائها السبعة- مراحل الإفتاء، وعالج في الجزء السادس منها علاقة الإفتاء بقضية الإعدام، وعرض إحصاءات لعدد قضايا الإعدام منذ عهد المفتي الشيخ محمد البناء، وصولا إلى الدكتور علي جمعة، وعدد من تمت الموافقة على إعدامهم، وعدد حالات الرفض، لكنه لم يذكر -للأسف- عدد حالات الإعدام في عهد المفتي الحالي الدكتور شوقي علام، رغم الترجمة له في الجزء الأخير من الموسوعة!

أهمية فتاوى محمد عبده في قضايا الإعدام

ولفت نظري بين فتاوى المفتين المصريين فتاوى الإمام محمد عبده، التي صدرت مؤخرا في جزأين كبيرين، وبدأتُ أطلع على ما تناوله من قضايا القتل، التي كان في بعضها لا يفتي بإعدام المتهم رغم أن سؤال المحكمة الموجه له يقول: إن فلانا قتل فلانا، عمدا مع سبق الإصرار.

ولدراسة هذا الجانب في فتاوى محمد عبده، ومقارنته بالمفتين الآخرين، أهمية خاصة؛ فقد خلت القضايا المعروضة على الشيخ محمد عبده من حوادث القتل السياسي، لكن فتاوى آخرين لم تخل، وستكشف هذه المقارنة موقف المؤسسة الدينية من الاغتيالات السياسية بين عهدي الملكية والجمهورية، أو الحكم العسكري، كما ستلقي الضوء على مؤسسية وحياد الفتوى الرسمية.

أحيل للشيخ محمد عبده نحو (30) قضية قتل لإبداء الرأي الشرعي، وتنوع أبطال هذه القضايا بين طوائف القاطنين للقطر المصري آنذاك: مصريين مسلمين، أو مسيحيين، أو يهود، وأجانب، وبين مسلمين وديانات أخرى، وتنوعت بين رجال ونساء، وأب قتل ابنه، أو أشقاء وقع القتل بينهم. ودارت الوقائع والفتاوى في المرحلة الزمنية من عام 1899م، حتى عام 1904م.

منهج محمد عبده في قضايا الإعدام اتسم بعدة ميزات، جعلت فتاواه تتسم بالدقة والاطلاع على جميع نواحي القضية، ولا يغفل في ذلك التفاصيل الدقيقة

وكانت الفتاوى ترسل ويمهل المفتي 8 أيام أو أكثر قليلا، ولا يحتكر المفتي العام للبلاد الفتوى في هذه القضايا، فقد كانت المحاكم ترسل لاستفتاء المفتين بالأقاليم كذلك، ولذا نجد استفتاءات مرسلة لمحمد عبده لأن مفتي الإسكندرية في إجازته مثلا.

ولم يذكر في جلّ القضايا التي أرسلت لمحمد عبده اسم القاضي الذي أرسل الفتوى، بل يذكر موقعه (رئيس محكمة كذا)، عدا فتوى واحدة كانت من رئيس دائرة الجنايات الكبرى، وذكر اسمه في السؤال، وهو: قاسم بك أمين، المفكر المصري المعروف، وصديق محمد عبده.

منهجه في قضايا الإعدام

اتسم منهج محمد عبده في قضايا الإعدام بعدة ميزات، جعلت فتاواه تتسم بالدقة، والاطلاع على جميع نواحي القضية، ولا يغفل في ذلك تفاصيل دقيقة مثل عدد أوراق القضية التي وصلته للاستفتاء، فإذا أعدّ رأيه زاد في الاحتراز فأعاد إرسال الأوراق التي بنى عليها رأيه قائلا: وطيّهُ الأوراق كما وردت.

  1. كثرة القرائن لا تكفي للحكم بالإعدام
    كثيرا ما رأينا في فتاوى محمد عبده هذه العبارة: “كثرة القرائن لا تكفي للحكم بعقوبة الإعدام”، فقد كان يتهيب أن يحكم بالإعدام إذا داخلت قلبه مساحة من الظن والشك والريبة، رغم وجود قرائن كثيرة، فيذهب إلى عقوبة أخرى غيرها، رغم أن صيغة السؤال الوارد من المحكمة في بعض الأحيان قد تدفع للإفتاء بالإعدام من لم يقرأ تفاصيل أوراق القضية بدقة، ولكن الشيخ لم يكن من هؤلاء.
    من ذلك نموذج وقفت أمامه كثيرا؛ ففي إجابته عن قضية قتل عمد، قال “اطلعت على أوراق القضية نمرة (156 جنايات)، المتهم فيها طه رشدي، ومن معه بقتل حسن إبراهيم الجنايني عمدا مع سبق الإصرار والترصد، وقد رأيت أن فعل القتل غير ثابت قطعا على طه رشدي، وغاية ما يظن أنه اشترك مع الآخرين، وحضر الجناية معهم، فلا يجوز الحكم عليه بالإعدام، ولو دقق النظر في شهادة شهود الإثبات لصعب الأخذ بها بالنسبة إليه حتى في ثبوت الاشتراك.
    وأما الباقون فالذي يمكن أن يؤخذ من شهادة علي داود هو أن فرج محمد خليفة هو الذي قبض على عنق القتيل فيكون هو القاتل لو صحت تلك الشهادة، ولكن يوجد في الشهادات ما يزعزع اليقين بثبوت الجناية على الوجه الذي انساقت إليه التهمة، وغاية ما يمكن أن يحصل منها هو غلبة الظن بوقوعها من المتهمين الثلاثة، وغلبة الظن لا تسوغ الحكم بالقتل على أحد خشية أن يظهر خطأ الحكم بعد تنفيذه فلا يمكن تداركه، فالذي أراه: أن يحكم على الثلاثة بالعقوبة التي تلي عقوبة القتل لا غير، هذا إن صحت المرافعة، وانطبقت الأقوال على الأصول المرعية”.
    ووردت مثل هذه العبارة في نحو ربع القضايا التي عرضت عليه، فقد كان يتحرز في الحكم بالإعدام، لأنه إزهاق روح، ويرى أن الخطأ في العفو، خير من الخطأ في العقوبة. لكنه إذا تيقن بكل الدلائل والسبل على صحة نسبة جريمة القتل العمد إلى القاتل، يقر بعقوبته، مشترطا صحة إجراءات الدعوى.
  2. لا إعدام إذا لم يتعين القاتل
    ومن دلائل حرصه في فتاوى الإعدام، أنه يتوقف في القضايا التي لا يتعين فيها القاتل بوضوح، ومن ذلك القضية التي أرسلت إليه من محكمة الاستئناف بتاريخ الثالث من أكتوبر/تشرين الأول 1900، وتحمل رقم 1010، وتستفتيه بشأن قضية النيابة العمومية ضد محمود مكاوي، ومن معه.
    أجاب محمد عبده: اطلعت على القضية المذكورة في رقيمكم هذا، ولم أر مساغا للحكم بالإعدام على واحد من المتهمين، لأنه لا يوجد دليل يوجب الجزم بأن أحدهما بعينه هو القاتل والآخر شريك، فإن كان يراد الحكم عليهما معا فذلك ليس مذهب أبي حنيفة، بل مذهب مالك في التأبين على القتل، والله أعلم).
  3. الخروج عن المذهب الرسمي تحقيقا للعدالة
    ورغم ما رأيناه في الفتوى السابقة من بيان موقفه المعتمد على المذهب الحنفي، وهو المذهب الرسمي، فقد عرضت عليه قضية قتل، كانت أداة القتل هي الخنق، فأجاب محمد عبده لأول مرة تفصيلا، فقد كان في معظم فتاواه لا يعنى بذكر الأدلة والتفصيل، فقال:
    “وقد رأيت أن الأدلة قائمة على أنه القاتل عمدا لا محالة، أما القصاص في مثل هذه الواقعة ففيه خلاف؛ فمذهب الإمام أن القتل بالخنق والتغريق مثلا لا قود (قصاص) فيه، ومذهب صاحبيه أن فيه القود كالقتل بآلة جارحة كما هو مذهب غير الحنفية أيضا، وهو الذي أرجحه لإطلاق القصاص في قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب). وقوله: (كتب عليكم القصاص في القتلى…) إلى آخر الآية، وإطلاق السنة في ذلك أيضا، فالذي ينطبق على الشريعة الغراء هو القصاص في مثل هذه الحادثة، بعد أن تتوفر سائر الشروط في دعوى طلب القصاص”.
  4. اعتماده على عمله السابق بالقضاء والطب الشرعي
    لا شك أن عمل محمد عبده بالقضاء -الذي سبق عمله بالإفتاء- أعطاه دربة ومكنة قوية للتعامل مع مثل هذه القضايا، فهو يعلم كيف يسير العمل في دهاليز القضاء، وكيف تثبت القضايا، والثغرات التي يمكن أن تحدث في سير القضية، وأدلتها وشهودها.
    وكان كذلك يستند إلى الطب الشرعي كعلم مصاحب للقضاء، الذي قد يتعارض أو يتوافق مع روايات الشهود، لذا رأيناه في إحدى القضايا، بعد استيثاقه من الأدلة والشهود، دعم وأكد موقفه بما ورد من التحليل الكيماوي كما ذكر، فاطمأن للحكم بإعدام القاتل في هذه القضية.
    وكان الطب الشرعي في مصر آنذاك في بداية عهده، لكن كان مشهودا له بالكفاءة عالميا، وقد كتب الدكتور البريطاني سيدني سميث (وهو أحد أبرع مؤسسي هذا العلم) كتابا عن تجربته في مصر -بعد محمد عبده بسنوات قليلة- عنوانه “قارئ الجثث، مذكرات طبيب تشريح بريطاني في مصر الملكية”.
    من العبارات المهمة في الكتاب التي تدلنا على سر الثقة التي كان يوليها محمد عبده للطب الشرعي، قوله “وكان من أهم ما تعلمته في مصر هو أنه عندما يتحدد أمر ما عن طريق دليل علمي، وتعارض هذا الأمر مع شهادة شاهد عيان، فإن شاهد العيان لا بد أن يكون مخطئا، أو متعمدا للكذب”.

هناك مساحات أخرى في فتاوى قضايا الإعدام تحتاج للمقارنة بين محمد عبده ومن سبقوه، ومن تلوه، وأوجه الاتفاق والافتراق، لكننا أردنا في مقالنا هنا الإشارة إلى دقة وتحري الإمام في إزهاق أرواح الناس، ولو كانت في جرائم قتل، وهو ما كانت تتسم به الفتوى في مصر لفترات طويلة، لا تشذ عنها إلا في حالات معدودة، تحتاج لدراستها منفردة.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post سعر الدولار اليوم الثلاثاء 29-8-2023 أمام الجنيه المصرى
Next post المصرى يواجه الكوكب المراكشى فى أولى وديات معسكر المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading