مؤخرا أصبحت السياحة والسفر وسيلة أخرى لمواكبة الاتجاهات الشائعة أو “الترندات”، ولالتقاط الصور المثيرة للإعجاب التي تجلب المزيد من المتابعين. أثناء التخطيط للإجازات، لم يعد البعض يفكر فقط في الأماكن التي يرغب هو نفسه في زيارتها، بقدر ما يراقب تجارب الآخرين على وسائل التواصل الاجتماعي ويفكر في كل تلك الأماكن الرائعة التي يذهبون إليها.
في غضون ذلك، يبدو أننا محاصرون بطوفان من حسابات مواقع التواصل المتخصصة في السفر والسياحة، التي تنشر مقاطع “فلوجز” لا تتجاوز مدتها دقائق يتنقل فيها المؤثرون بين مختلف الوجهات السياحية الرائعة. تقفز أمامك صور ومنشورات تخبرك أن بإمكانك السفر إلى 10 أماكن في سبعة أيام، وأن هناك 100 وجهة سياحية لا يجب عليك أن تفوتها.
يجعلنا هذا كله نشعر أننا في سباق للذهاب إلى أكبر عدد ممكن من الوجهات في أقل وقت ممكن، ويخلق فينا جوعا للمزيد من التجارب، يدفعنا للقفز كالأرانب من وجهة إلى أخرى ومن تجربة إلى أخرى، فنخطط لإجازات محشوة بالتجارب والوجهات والمعالم بدلا من تركيز أوقاتنا وميزانياتنا على ما يمتعنا حقا. لذلك، ربما حان الوقت لإعادة التفكير في الطريقة التي نسافر بها من وجهة نظر مختلفة تمنحنا فرصة أكبر للمزيد من الاسترخاء والتعمق في تجربة السفر، وذلك من خلال “السفر البطيء”.
من الطعام إلى السفر.. في مديح البطء والتأني
في ثمانينيات القرن الماضي، وتحديدا عام 1986، افتتحت سلسلة مطاعم الوجبات السريعة ماكدونالدز فرعا جديدا في ساحة “Piazza di Spagna” أو المدرجات الإسبانية، أحد أشهر المعالم السياحية في مدينة روما بإيطاليا.
لم يرضَ كارلو بيتريني عالم الاجتماع والناشط الإيطالي عما يحدث، ونشر بيانا أعلن فيه عن انطلاق حركة الطعام البطيء بوصفها رد فعل على الوجبات السريعة التي صارت تتغلغل في الثقافات الغذائية من دولة إلى أخرى، وتترك تأثيرها السلبي على ثقافات الطعام والطهي المحلي وتحولها إلى “مسخ” متشابه وموحد.
أثار البيان الاهتمام حول العالم، وسرعان ما أدى إلى نشأة حركة ومنظمة عالمية يدعمها أكثر من 100000 عضو، وهي الحركة التي تطورت بمرور الوقت إلى أفكار فرعية في نطاقات أخرى مثل الحياة البطيئة والتصميم البطيء والسفر البطيء (1). ومن هنا ظهر مصطلح السياحة البطيئة، وهو نهج للسفر يوفر إمكانات وطرقا مختلفة لدعم السياحة المستدامة والسياحة منخفضة البصمة الكربونية، ويعتمد على تقليل التنقل باستخدام الطائرة والسيارة، والاعتماد بشكل أكبر على الدراجات أو السير على الأقدام. كما يعتمد على التواصل مع السكان المحليين والثقافات المحلية وتناول الطعام الشعبي المحلي، مع الاهتمام بالحفاظ على البيئة (2).
قبل أزمة جائحة “كوفيد-19” كانت السياحة العالمية قد سجلت ارتفاعا قياسيا بلغ نحو 671 مليون سائح دولي. ورغم الآثار الإيجابية لرواج السياحة فإن لها جانبا سلبيا لا يمكن تجاهله. في دراسة صدرت بدورية “جورنال أوف ساستينبول توريزم” (Journal of Sustainable Tourism)، ركز الباحثون على إمكانات السفر البطيء في مواجهة تحديات التغير المناخي، حيث مثل الانتقال في وقت نشر الدراسة ما بين 50-97.5% من مقدار الانبعاث الحراري لمعظم الرحلات السياحية. وقد كان مفهوم السفر البطيء الناشئ في ذلك الوقت رد فعل على ممارسات السفر عالية الكربون، بحيث يصبح السفر البطيء جزءا لا يتجزأ من تجربة السياحة وليس مجرد اختلاف في وسيلة مواصلات (3).
لم يقتصر الأثر السلبي للرواج السياحي على البصمة الكربونية المتزايدة فقط، بل كانت له آثار بيئية أخرى لا تقل أهمية، على سبيل المثال اضطرت الحكومة الفلبينية لإغلاق منطقة بوراكاي السياحية عام 2018 مؤقتا أمام السائحين، بعد أن تحولت من جزيرة خلابة إلى بالوعة للصرف الصحي ومخلفات السائحين، مما أثر على الحياة المائية فيها (4).
كل هذه الآثار وغيرها أدت إلى اعتناق طريقة جديدة للسياحة، مع تبنّي قدر أكبر من المسؤولية نحو البيئة والمجتمعات المحلية، وفتح أفق آخر للاستمتاع الفردي واستكشاف الذات والعالم. وإليك مجموعة من آليات السفر البطيء ستساعدك في الاستمتاع بهذه التجربة المثيرة.
اسلك الطرق الأقل سفرا
الطريق غير المطروق أو الأقل سفرا (Off The Beaten Path) أو (The Road Less Traveled) هو واحد من المصطلحات المرتبطة بالسفر البطيء، وهو مقتبس من أبيات للشاعر الأميركي روبرت فروست، وهو يعني اختيار مناطق غير معتادة وطرق مختلفة غير الطرق المألوفة المزدحمة بالسائحين، ويرتبط بدرجة كبيرة بالبحث عن الجواهر المحلية الخفية وتجنب نمط السياحة الاستهلاكية.
ننصحك أن تبتعد عن مواسم الذروة السياحية، سوف تتمكن بذلك من تجنب الزحام، وكذلك ستحصل على إقامة وانتقالات أرخص. كما ستتمكن من استكشاف وجهتك ببطء وهدوء بعيدا عن حشود السائحين وزحامهم.
لا أحد يرى كل شيء
يقع الكثير من السائحين في خطيئة محاولة رؤية واكتشاف كل شيء، فتجد قوائم على شاكلة “أماكن لا تفوتها إذا ذهبت إلى دولة كذا” تحتوي على عشرات الأماكن التي يستحيل أن يستطيع إنسان عادي أن يزورها جميعا في إجازة قصيرة.
تعال نأخذ متحف اللوفر مثالا، وهو واحد من أشهر وأهم المتاحف في العالم، تبلغ مساحته نحو أكثر من 13 كم مربع تقريبا، وخريطته المعقدة تجعلك تتساءل هل ستتمكن من زيارة كل هذه القاعات؟ ورؤية أكثر من مليون قطعة فنية وتاريخية في يوم واحد؟ أو حتى عدة أيام؟ هنا سيكون عليك أن تختار بين القفز من قاعة إلى قاعة وتخطيط زيارتك بحيث تتمكن من مشاهدة أكبر قدر ممكن من القطع والتقاط عشرات الصور، أو اختيار القطع التي تهمك بالفعل، والتمعن في كل قطعة، وتأمل المعاني الكامنة فيها.
يمكنك اللهاث من قاعة إلى أخرى، أو يمكنك الاكتفاء بمجموعة معدودة من اللوحات، بل وإذا تطرفت في الاتجاه المقابل فبإمكانك أن تزور اللوحة نفسها لعدة أيام وتقضي أمامها ساعات دون أن تكتفي. وماذا عن الصور؟ الصور موجودة بالفعل على مواقع البحث، وصدِّقني إذا لم تكن فنانا محترفا استثنائيا فالصورة التي تلتقطها في اللوفر التقطها الآلاف من قبلك.
اختر ما يهمك أنت، وابنِ قائمتك الخاصة المعتمدة على أولوياتك. إذا لم تكن تستمتع بالفن، وتحب المغامرة في الأماكن المفتوحة، فما الداعي لأن تقضي ساعات في متحف وتشاهد لوحات لن تتمكن من التواصل معها بدلا من تسلق جبل على سبيل المثال. والعكس أيضا صحيح. فكِّر فيما يشغف قلبك حقا، هل أنت من محبي العمارة أم الطبيعة أم الفن والتاريخ؟ وما أولوياتك؟
اترك المصادفة تقودك
رغم أهمية التخطيط فإن التخطيط لكل دقيقة في رحلتك يحرمك من الكثير من المصادفات التي قد تمنحك فرصا لا تعوض. اترك مساحة للقليل من العشوائية، مساحة فارغة للمصادفة، جولات حرة تقودك فيها قدماك وحدسك نحو المجهول وما يحمله من مغامرة. ربما تُفضِّل أن تتخلى عن زيارة الأماكن السياحية المعتادة كي تستمتع بأمور أخرى، مثل تجربة العيش مثل السكان المحليين، واستكشاف الشوارع الجانبية البعيدة عن وسط المدينة.
لأن معرفة الناس كنز
وبالحديث عن الشوارع الجانبية بدلا من استئجار سيارة فإن المشي واستخدام المواصلات العامة سيُمكِّنك من التعرف على البلد بشكل أفضل، وكذلك ستحصل على فرصة للاحتكاك بالسكان المحليين. يقال إن “أهل مكة أدرى بشعابها”، وهكذا في كل مدينة، بعيدا عن الوجهات السياحية الرائجة يعرف أهل المدينة أفضل وأرخص الأماكن والمطاعم والمتاجر، ومنهم يمكنك أن تستكشف المدينة بأفضل الطرق الممكنة.
لا يقتصر الأمر على ذلك، في الأفلام كثيرا ما نشاهد الأبطال تتغير حياتهم بعد إجراء محادثة ملهمة مع شخص عابر في الطريق. ربما نتساءل لماذا لا نلتقي بمثل هؤلاء الملهمين، ولماذا لا تتغير حياتنا. ربما لا تتمكن من استقبال الإلهام إذا كان مَن تتحدث إليهم هم السائحين المتعجلين أو المرشد السياحي. لكن ماذا عن سكان المدن من أصحاب الثقافات المختلفة؟ أصحاب المتاجر والعجائز الذين يجلسون على المقاهي، هؤلاء المنتمون إلى أرض غير أرضك وزمن غير زمنك، أليس من الممكن إن فتحت قلبك وتحدثت بلا قلق أن تستلهم منهم شيئا؟
هناك متعة خفية في الحديث مع الغرباء الذين ربما لا تلتقيهم مجددا. ربما لن تقلب المحادثة حياتك رأسا على عقب كما في الأفلام، لكن إذا سمحت لروحك بما يكفي من الانفتاح فقد تكون فرصة لاستكشاف جانب جديد في نفسك أو في العالم.
تعرف على الأسواق والطعام المحلي
بدلا من شراء الهدايا التذكارية من البازارات السياحية أو المطارات، بإمكانك تجربة الشراء من الأسواق المحلية، حيث ستجد بضائع فريدة مصنوعة يدويا. يمكنك التعرف على العديد من الحرف اليدوية الخاصة بكل مدينة، ومنها تستكشف تاريخها، وتدعمها في مواجهة المنتجات المقلدة التي لا تحمل روحا.
احرص كذلك على تجربة الأطعمة المحلية، فهي واحدة من أهم التجارب التي لا ينبغي تفويتها عند السفر. ابحث عن الأطباق المحلية وجرب منها ما يناسبك، زُر الأسواق المحلية، تذوق الخضراوات والفواكه التي ربما تكون غير مألوفة في بلدك.
إذا كنت من عشاق الطعام فربما تُفضِّل أن تأخذ دروسا في طهي الأطباق المحلية، للتعرف على طرق إعدادها وفهم المزيد عن ثقافة وتاريخ المكان. وبدلا من البحث عن فروع سلاسل المقاهي والمطاعم العالمية اشرب قهوتك في مقهى محلي صغير، تعرف على الندل والرواد والتقط الحكايات المتناثرة من أفواههم، هذه هي ثروتك الحقيقية من الرحلة، وليست الصورة الفوتوغرافية اللامعة التي تشابه مئات الصور التي التقطها السائحون من قبلك.(5)
تخلص من إجهاد السفر
عندما تسرع في التنقل من مكان إلى آخر مع قائمة ممتلئة بالأنشطة التي تمارسها في كل دقيقة، تعود من الإجازة عادة مع شعور عميق بالإجهاد، وهو ما يسمى بإرهاق السفر. في تجربة السفر البطيء سوف تستمتع بالاسترخاء، بالسير على الأقدام في الغابات والحدائق، أو الاستلقاء في الصحراء ملتحفا بسماء رصعتها النجوم. تجاهل هاتفك ورغبتك في التقاط الصور. استرخ قليلا واستمتع بتجربتك.(6)
لا تحتاج إلى المزيد من الوقت أو المال
قد يقول البعض لا أستطيع أن أسافر ببطء، فإجازتي لا تتعدى 7 أيام. السفر البطيء لا يعني السفر لمدة طويلة، الأمر لا يرتبط بالإطار الزمني بقدر الطريقة التي تسافر بها وأسلوب تفكيرك. هكذا يُعيدنا السفر البطيء إلى الأسباب الحقيقية والجذرية للسفر، لماذا ننتقل من مكان إلى آخر؟ وما الذي نبحث عنه؟ هل نبحث عن المزيد من الصور لحساباتنا على مواقع التواصل الاجتماعي، أم نبحث عن الاسترخاء، أم عن التعرف على المزيد من الثقافات والتاريخ، أم أننا نرغب في التعمق والتواصل مع ذواتنا؟
فيما يخص الميزانية، فأبشر. هناك العديد من الطرق لخفض ميزانية سفرك، من الممكن أن تجرب العمل أثناء السفر، يمكنك العمل في إحدى المزارع أو الفنادق الصغيرة مقابل الإقامة، وهو ما توفره العديد من الأماكن، خاصة إذا قررت الاستقرار في مكان واحد لفترة كافية. وأيضا بدلا من البحث عن الفنادق الفخمة بإمكانك اختيار المنازل المشتركة أو العيش مع أحد السكان المحليين أو البحث عن أماكن إقامة مشتركة وفنادق محلية رخيصة.
وداخل مدينتك أيضا
إذا لم تمتلك فرصة قريبة لإجازة خارج مدينتك فيمكنك تطبيق هذه الأفكار في مدينتك أيضا، بدلا من لقاء أصدقائك في أماكن مكررة خلف جدران من زجاج، اذهبوا في جولة لاستكشاف المدينة، المناطق المجهولة منها، الشوارع غير المألوفة. التفت إلى المقاهي القديمة، للشجر الذي تمر به كل يوم في طريقك للعمل دون أن تراه أو تلحظ وجوده، للناس والأحجار. تذكر أن السفر البطيء ليس مجرد طريقة للسفر، لكنه رؤية مختلفة للعالم وطريقة للعيش والتفكير.
—————————————————————————————-
المصادر:
1- Carlo Petrini and the History of Slow Food
2- Slow Travel and Tourism
3- Slow travel: issues for tourism and climate
4 –philippines to shutdown tourist island boracay for six months
5- The Tourist’s Perception about Slow Travel – A Romanian Perspective
6- في ظل تفشي جائحة كرونا السفر البطيء أحدث اتجاهات عالم السياحة
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.