ينشغل العالم اليوم بالتطور المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي الذي بات محط اهتمام الجميع بعد أن أصبح التواصل المباشر معه متاحا من خلال منصات الدردشة مثل Chat GPT وغيرها.
والجدير بالذكر أن هناك منظورين لموضوع الذكاء الاصطناعي، الأول هو أن الذكاء الاصطناعي ببساطة شيء جديد انبهر به العوام و لن يتجاوز كونه “الترند” أو “الهبة” كما تسمى بالعامية الدارجة ثم تستقيم الأمور فلا تستطيع الآلة مهما بلغت من ذكاء أن تحل محل العقل البشري المبدع والمبتكر.
أما المنظور الثاني يصرخ بأعلى صوته محذرا من خطورة ما يحدث، بل ويذهب إلى حدود أنها بداية النهاية للجنس البشري بالكامل، مدعوما بكم هائل من أفلام الخيال العلمي منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم التي تتنبأ بسيطرة الذكاء الاصطناعي على البشر وغيرها من السيناريوهات التي ترى أن تفوق الآلة على الإنسان هي نتيجة حتمية لما يحدث.
ولعل الحقيقة هي في مكان ما بين هذا المنظور وذاك، فلا يوجد خلاف على أن الذكاء الاصطناعي يعد تحولا تكنولوجيا ثوريا يؤثر على حياتنا المعاصرة في العديد من الطرق ويساعد في تحسين الأنظمة الذاتية والأتمتة، مما يزيد من كفاءة الإنتاج ويقلل من الأخطاء البشرية، كما يمكن استخدامه في تحليل كميات ضخمة من البيانات واستخراج رؤى قيمة لاتخاذ القرارات الذكية والقائمة على المعرفة والأدلة.
الثلاجة الذكية تستطيع أن تدرك محتوياتها ولديها اتصال بالإنترنت فتقوم تلقائيا بطلب الحاجات التي تنقص من المتجر الإلكتروني، والغسالة الذكية تقوم بالخطوة ذاتها بشكل دوري لشراء مسحوق الغسيل ومنعم الأقمشة
غير أن تطويره الذي تطلب مهارات تقنية عالية أنشأت وظائف جديدة في مجالات مثل تطوير البرمجيات، والتحليلات البيانية، والذكاء الاصطناعي المتخصص، وإدارة البيانات، فقد أصبح اليوم يمثل خطرا على وظائف أخرى لم يعد من المجدي من حيث التكلفة أو الكفاءة أن يؤديها الإنسان في وجود بديل مثل الذكاء الاصطناعي.
تمتد تلك الوظائف من مستوى بسيط مثل العمالة غير الماهرة والترجمة والتدقيق اللغوي وخدمة العملاء الآلية، لتصل إلى مستوى متقدم مثل التحليل المالي من خلال تحليل البيانات المالية والاستثمارات مما يساعد في اتخاذ قرارات استثمارية ذكية وتوفير توصيات للمستثمرين، أو التحليل القانوني من خلال تحليل النصوص القانونية والبحث عن معلومة قانونية معينة، مما يساعد المحامين في تجهيز القضايا وإيجاد الثغرات.
فضلا عن أن الذكاء الاصطناعي أصبح جزءا لا يتجزأ من روتين الحياة اليومية في العديد من الأشكال والتطبيقات في يومنا هذا، وهو ما يغفله الكثيرون. فعندما تتصفح الإنترنت وتتنقل بين التطبيقات والمواقع ويعترض طريقك إعلان ما لشيء تحتاجه بشكل شخصي تتساءل بكل براءة عن المصادفة التي وضعت هذا الإعلان أمامك. دعني أخبرك أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تستخدم فيما يسمى تحسين تجربة التسوق عبر الإنترنت تستعمل منذ عشرات السنين، حيث تقوم المنظومة الذكية بتحليل البيانات الخاصة بك وتاريخ التصفح لديك لتوفير توصيات مخصصة وإعلانات مستهدفة وتجربة شراء شخصية، ولكي أجيبك على السؤال المهم الذي يدور في ذهنك، نعم هاتفك يستمع إليك، ولك أن تتخيل ما يمكن لنفس تلك الخوارزميات أن تفعل أيضا.
لا يمكن إغفال دور التطبيقات الصوتية المدمجة مثل Google Assistant وAlexa وSiri التي توفر كافة المعلومات التي يحتاجها الشخص من خلال أوامر صوتية بسيطة، وتمكن الأفراد من التفاعل مع الأجهزة الذكية وتتحكم بنظم الأتمتة المنزلية، بل تتعلم من عادات الشخص وتوائم الأجواء وفقا لها، وهو ما يتم من خلال عمل التطبيقات المدمجة مع التطبيقات الأخرى داخل الأجهزة الذكية في منزلك، وهو تعاون يعمل في صالحك ويخدمك، حتى الآن.
وللذكاء الاصطناعي استخدامات هامة جدا في مجالات الصحة والرعاية الصحية والروبوتات الجراحية وأنظمة الأمان والمراقبة والتعرف على الوجوه والترجمة الفورية. يعد الذكاء الاصطناعي من أساسيات تشغيل السيارات الذاتية القيادة، حيث يقوم بتحليل البيانات من الأجهزة المتطورة مثل حساسات الاستشعار والكاميرات والرادارات لاتخاذ قرارات ذكية وآمنة أثناء القيادة.
ومن تجربتي الشخصية وضمن نطاق عملي، حضرت عرضا قدمته شركة سامسونغ في بداية عام 2009 لاستعراض ما وصلوا إليه من تقدم في مجال المدن الذكية التي تعتمد بشكل شبه كامل على الذكاء الاصطناعي، في هذا العرض قدمت سامسونغ تجربة تم تنفيذها بالفعل ضمن المدن السكنية للشركة في ذلك الوقت وليس عن تصور تخيلي تأمل في تحقيقه يوما ما.
تخيل معي أن حياتك تدار من خلال خادمك الافتراضي على النحو التالي، تستيقظ من النوم على أنغام موسيقاك المفضلة وفقا لموعدك اليومي المعتاد أو وفقا لجدول مواعيدك في ذلك اليوم. النوافذ مزودة بفيلم شفاف بحيث تكون إطلالتك تفاعلية ومختلفة كل يوم، فاليوم غرفتك تطل على البحر وغدا أنت تسكن في قمة جبل وهكذا، لا يحدك سوى ما تستطيع أن تتخيله.
بمجرد أن تستيقظ يبدأ الذكاء الاصطناعي بتنفيذ الروتين اليومي الخاص بك من حيث تجهيز الحمام بدرجة حرارة الماء التي تفضلها وتشغيل آلة القهوة وكي ملابسك بالبخار وتجهيزها وفقا لحرارة الطقس المتوقعة.
ترتدي ثيابك وتتناول الإفطار الذي تم إعداده في جهاز الطبخ الذكي ثم تخرج فتجد السيارة قد تم تشغيلها مسبقا لارتباطها بحساسات استشعار تحدد خروجك من المنزل، وهو بالمناسبة ما يحدث عند عودتك أيضا فبمجرد اقتراب السيارة من المنزل يبدأ الروتين الخاص بعودتك من إعدادات أجهزة التكييف والإضاءة وغيرها.
الثلاجة الذكية تدرك محتوياتها ولديها اتصال بالإنترنت فتقوم تلقائيا بطلب الحاجات التي تنقص من المتجر الإلكتروني، والغسالة الذكية تقوم بالخطوة ذاتها بشكل دوري لشراء مسحوق الغسيل ومنعم الأقمشة، والتلفاز يبحث عبر القنوات عن برامجك ومسلسلاتك المفضلة أو ما يمكن أن ينال إعجابك وفق منظومة تفضيلاتك ويسجلها لك. وما هذا إلا غيض من فيض، ولا يسعني سوى أن أتخيل مدى التقدم الذي وصل إليه الحال اليوم بعد قرابة 15 عاما.
باختصار، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دورا حاسما في تعزيز الابتكار وتطور الصناعة ورفاهية الحياة للإنسان، ولكن يجب أن نكون حذرين ونتعامل بحرص ووعي مع تحديات الأخلاق والخصوصية التي ترافق تطور الذكاء الاصطناعي، بالاستخدام المناسب فقط يمكن أن يكون للذكاء الاصطناعي تأثير إيجابي كبير يغير شكل العالم كما نعرفه.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.