(1)
ربما لو شاهدتم حكايتي فيلمًا سينمائيا لظننتم أن هذا لا يحدث إلا في الخيال، غير أن الحقيقة أن هذا هو ما حدث معي، أود أن أحكيه لكم؛ لعلكم تجدون فيه حكمة في هذه الدنيا العاصفة.
(2)
اسمي “آنا ماري روبرتسون”، ولدتُ عام 1860، وكنت طفلة ثالثة لعائلة تعيش في الشق الريفي من نيويورك، قبل أن نصبح -في ما بعد- 10 أطفال، ولظروف أسرتي التحقت بمدرسة من فصل واحد مخصصة للفقراء في المقاطعة، تعلمت فيها القراءة والكتابة، غير أن أحلى ما كان فيها هو دروس الرسم.
كل ما كان يحيط بي -من خضرة وطبيعة وجمال- يغريني بأن أرسمه وأقلده على الورق بطريقة ما، استخدمت عصارة الليمون والعنب لألون رسوماتي، في الوقت الذي اعتاد فيه الرسامون على استخدام العشب والجير ونشارة الخشب للرسم.
لكنَّ رحلتي التعليمية -للأسف- لم تطل كثيرًا، فما أن بلغت 12 من عمري، حتى طلب مني أهلي أن أنتقل لمزرعة مجاورة يمتلكها أثرياء لأعمل فيها خادمة تقوم بالشؤون المنزلية مثل الطهي والتنظيف.
ظللت أتنقل بين عائلة وأخرى، حتى لاحظتْ إحداها اهتمامي بالرسم، وعدم قدرتي على شراء أدواته، فأحضروا لي الطباشير والشمع، واشترطوا عليَّ ألا يؤثِّر ذلك على مهامي في العمل.
أبلغ 27 من عمري، أكبر ويكبر معي حلمي بالرسم، أنتقل للعمل في إحدى المزارع، وهناك ألتقي أحد العاملين، ونقع في الحب ونتزوج.
يخبر أحدهم زوجي أن عمليات إعادة الإعمار في الجنوب تمثل فرصة ذهبية للحصول على عمل وكسب الكثير من المال، فلا نضيِّع وقتًا ونتوجه إلى الجنوب، تحديدًا إلى ولاية كارولينا الشمالية، لكننا لم نجد ما قيل لنا، وتنقذنا خبرتنا بالعمل في المزارع، فحصل زوجي على وظيفة في مزرعة خيول.
لا نستطيع أحيانا أن نحقق أحلامنا في موعدها المأمول، لكن واجبنا أن نستمر في سقياها من حين لآخر، فمن كان يظن أنني سأبلغ 101 عامًا حين أُتوفى في العام 1961، وقد تحول حلمي من مجرد أمنية صغيرة إلى واحدة من أكبر النجاحات في تاريخ عالم الفن
(3)
ننجح في ادخار بعض المال، نشتري بقرة، ونبدأ في بيع الزبدة من حليبها، كنوع من التجارة وإضافة دخل لمدخراتنا، تقسو الحياة علينا، ولم يعد دخلنا يكفينا، إلى أن تستقر أمورنا بعد جهد كبير، وننجب 10 أطفال يعيش منهم نصفهم.
في العام 1905، يخبرني زوجي أنه مشتاق بشدة للعودة إلى الديار، نحمل حقائبنا كالمجانين ونعود، ولأول مرة في حياتنا نتملك مزرعة، وأصبحنا -أخيرًا- ملاكًا ولسنا عمالا أُجراء.
في عام 1927، يتوفى زوجي إثر أزمة قلبية، ويصبح عليَّ أن أواصل حياتي منفردة، فقررت السفر إلى مقاطعة بينينغتون لأعتني بابنتي التي تعاني من مرض السل، وهناك تعرض عليَّ قطعة من القماش مطرزة بالخيوط على شكل جمالي، وتطلب مني أن أطرِّز مثلها تمامًا، ففعلت وكانت النتيجة رائعة، لكن يدي تألمت، فاقترحتْ عليَّ أختي أن أرسم بدلا من الخياطة والتطريز.
كان الأمر عرضيًّا لكنه أعاد لي ذكريات الماضي القديم وأحلامي بالرسم، وبالفعل رسمت عدة لوحات من وحي الطبيعة التي أحبها، وأرسلتها إلى معرض كامبريدج الريفي، وأرسلتُ معها بعض المعلبات التي أصنعها من المربى والعصير؛ فقبلت المعلبات ولم تقبل رسوماتي!
(4)
تمر الأيام وتشاء الأقدار أن أتلقى دعوة من جارة لي لحضور معرض التبادل النسائي الذي تنظمه، وهو معرض تشارك فيه النسوة بما يملكن من أشياء ذات قيمة للمبادلة مع الآخرين.
تحصل إحدى المشاركات على لوحاتي وتعلقها في صيدليتها، وتشاء الأقدار مرة أخرى أن يمر بالمحل أحد المهتمين بجمع الأعمال الفنية، الذي يشاهد اللوحات فيقوم بشرائها كلها، ثم يبحث عن الفنانة التي رسمتْها ويأتي لي.
يعدني الرجل بأن أصبح -وأنا الجدة- فنانة مشهورة، وأنَّ ما عليَّ سوى أن أكمل مسيرتي، اتهمه أصحابه بالجنون، لم يكترث للأمر، وفي معرضه -الذي أقامه في العام نفسه- قدَّم لوحاتي لرواده، الذين ما أن عرفوا أني قد بلغت من العمر 78 عامًا حتى تجاهلوا اللوحات؛ معتقدين أن الأمر لن يكون مربحًا ولا يستحق الاستثمار فيه.
غير أن الرجل كان مصرًّا على دعمي، فكرر المحاولة، وأقنع آخر بإقامة معرض لي تحت اسم “ما رسمته زوجة الفلاح” من دون الإشارة إلى اسمي، اعتقادًا أنه لن يكون لافتًا للنظر.
يحصل المعرض على دعاية جيدة، وعلى هامشه يُجري صحفي حوارًا معي وينشره ليذكر أن اسمي هو الجدة موسى؛ نسبة للقب زوجي: توماس سالمون موسى.
يُقام معرض آخر بعدها في نيويورك وأُدعى إليه، ويحضره عدد أكبر من الصحفيين، يطلبون مني أن أُلقي كلمة، أرتبك، وكان مضحكًا ألا أجد ما أتحدث عنه سوى المربى والفواكه المحفوظة، وبقدر بساطة حديثي فإنه أعجب كثيرين وقتها، واشتهرتُ بعدها، وصار كثيرون يعرفون اسم “الجدة موسى”.
ثم أتتني فرصة أخرى حين عَرض عليَّ معرض سانت إتيان والمركز الأميركي البريطاني للفنون تولي مهمة الترويج للوحاتي في مختلف الولايات بعدما كانت شهرتي مقتصرة على نيويورك فقط.
تستمر النجاحات أكثر فأكثر، وأزداد شهرة، وتُقام للوحاتي معارض متنقلة بين الولايات المختلفة، ثم لاحقًا في 10 دول أوروبية.
في عام 1949، يكرمني الرئيس الأميركي ترومان، ثم ينتج لاحقًا فيلم وثائقي عن سيرتي؛ حياتي، ثم تنشر قصة حياتي في كتاب يُحقق مبيعات ضخمة.
(5)
كان ما يجري أشبه بحلم، لكنه كان الواقع، وإنما الحلم هو ما لازمني منذ صغري لأكون رسامة، وها هو يتحقق.
لا نستطيع أحيانا أن نحقق أحلامنا في موعدها المأمول، لكن واجبنا أن نستمر في سقياها من حين لآخر، فمن كان يظن أنني سأبلغ 101 عامًا حين أُتوفى في العام 1961، وقد تحول حلمي من مجرد أمنية صغيرة إلى واحدة من أكبر النجاحات في تاريخ عالم الفن.