الجذور الفكرية لظاهرة الإسلاموفوبيا وانعكاساتها على المجتمع الإنساني (2) | آراء


تعد ظاهرة الإسلاموفوبيا أحد العناصر التي تتحدد من خلالها صورة المسلمين في الواقع الغربي، فتكون إما تجليا للقبول والاعتراف بهم كمكون من مكونات النسيج الاجتماعي الغربي، واعتبار الإسلام  من التعبيرات الثقافية التي تبلورت في السياق الأوربي والغربي عامة خلال العقود الأخيرة، أو تكون عنصرا ودافعا للرفض والاستبعاد، فيتم النظر إليهم؛ أي إلى المسلمين، باعتبارهم غرباء، يجسدون الآخر المختلف حضاريا وثقافيا، ومن ثم عدم إمكانية مد الجسور والاندماج حسب المصطلح التقليدي، والاعتراف بالتعبير الفلسفي.

وتلك الصورة السائدة، والتي تتأرجح بين الاعتراف بالمكون الإسلامي في السياق الغربي أو استبعاده،  تكشف عن طبيعة التمثلات التي تشكلت حول الإسلام، والتي غذتها أسباب تاريخية وفكرية وسياسية واجتماعية، أي أن للظاهرة جذورا تغذيها في تجلياتها السلبية، ولا يتوقف الأمر على العوامل الراهنة التي تنسج على منوالها علاقة الإنسان في أوروبا والغرب عامة بالإسلام والمسلمين، والتي يقف فيها الإعلام الأداة الفعالة في توجيه الوعي، وإنما تتحدد بالترسبات الكامنة في ثنايا التاريخ وفي الصراع الفكري والسياسي، وهي التي تكون مادة خصبة للاستخدام من الأطراف التي تستثمر في الإسلاموفوبيا وتوظفها في السياق الراهن لإبقاء حالة من المفاصلة مع الإسلام والمسلمين، وتوظيف تلك الحالة توظيفا سياسيا كما تجلى في المقالة السابقة، لكن الظاهرة تتغذى على أكثر مما هو ظاهر، حيث يجد خطاب المعاداة مشروعيته في صيرورة من التراكم التاريخي القائم على التباين بين الغرب والشرق والحروب والنزاعات، إلى حدود الاستعمار، ثم من جانب آخر مع البعد الفكري، حيث تمت صورة المسلمين على مرحلتين، مع الدراسات الاستشراقية -الفرنسية بالأساس- ونظرية صدام الحضارات.

ما الأسس الفكرية والتاريخية التي تشكل مصدر استمداد للإسلاموفوبيا؟

المصادر والمحددات الفكرية والتاريخية للإسلاموفوبيا

لقد كان الإسلام وعالم الشرق تاريخيا في العلاقة بالآخر يختلف عن علاقة الغرب بالشرق، أو عن النظرة السائدة للإنسان والمجتمع الشرقي، وأعم من ذلك الرؤية المتشكلة حول الإسلام المسلمين، فـ “لا يوجد ما يشوب العلاقات بين الشعوب أكثر ما هو الحال بين أوروبا والعالم العربي” وذلك عبر عدة قرون.

وعلاقتنا بالعرب وبالمسلمين أكثر تعقيدا وأعمق كراهية بعكس علاقتنا مع شعوب أخرى بعيدة وغريبة عنا وذات ديانات أخرى” (زيغريد هونكه، الله ليس كما تروجون). وتتساءل الكاتبة “أين تكمن الأسباب وما هي العوامل التي تحول بين تفهمنا لحضارتهم، لثقافتهم، لديانتهم، ولتاريخهم. لابد أن التشويه للتاريخ حال بيننا وبين تخطي العقبات”.

ولقد حمل التاريخ في فصوله تشوهات أسهمت في تشكيل مواقف مسبقة سلبية بحق الإسلام والمسلمين، من ذلك الآراء السائدة التي لها جذور تاريخية تتحدد في عدة محددات شكلت -وما تزال- المستند التي من خلاله محاكمة تذهب للقول:

انتشار الإسلام بالسيف

الإسلام وفق هذا المنظور انتشر بالسيف، فيتم حصر آيات الجهاد وتفسيرها بشكل مجتزأ عن سياق المعنى الدلالي للمفهوم كما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية ووضع أصوله الفقهاء، فالمعنى الجزئي يضيع معه المعنى الأصيل والكلي للمفهوم، بحيث يصبح بالمعنى الدلالي للحرب المقدسة السائدة كما فهمها اللاهوت المسيحي تاريخيا في الصراعات الدينية والسياسية في أوروبا والغرب عامة، والتي تؤثث جزءا من المخيال الغربي. لكن هذا المفهوم السلبي للمفهوم تغذيه نزعات العنف السائدة باسم الدين، والإرهاب الذي مارسته الجماعات المقاتلة العابرة للحدود، التي تنافي في حقيقة مزاعمها وممارستها الصبغة الأصيلة للإسلام، كما أنها تبتعد اسما ورسما عن المفهوم الحقيقي للجهاد.

النبي المحب للغزو والنساء

يظهر النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم بمظهر الشخص الدموي المحب للغزو، أو الشخصية الإيروتيكية المحبة للنساء والمتعة،  وبخصوص الطابع الأول الموروث من العصور الوسطى عن النبي الكريم، استحضر البابا بنديكت السادس عشر في محاضرة شهيرة له بمدينة ريجنسبورغ بألمانيا، يوم 12 سبتمبر/أيلول 2006، مقتطفا من حوار حاكم بيزنطي مع مثقف فارسي في سياق جدل الإيمان والعقل بين القرآن والعهد القديم بقوله: “أرني ما هو الجديد الذي أتى به محمد، وسوف تجد أشياء كلها شريرة وغير إنسانية، من مثل أمره بنشر الدين بالسيف” (ينظر نص محاضرة البابا).

وقد أثارت تلك المحاضرة جدلا واسعا في حينه، لكنها تعبر عن جانب من الفهم السائد بخصوص شخصية النبي الكريم، والتي استمرت في الحضور بأشكال مختلفة، مما يجلي عدم المعرفة الحقة لسيرة النبي بجوانبها المختلفة والتي توضحها كتب الشمائل. ويبرز ذلك الجهل بشكل أكبر بعلاقة النبي بالنساء، أو علاقته بالمرأة، والتي لا يمكن أن تقرأ خارج سياقها، بل إن ثورة كبرى أحدثها صلى الله عليه وسلم في المجتمع العربي بخصوص مفهوم الزوجية والعلاقات الزوجية ومكانة المرأة داخل الأسرة والمجتمع على السواء.

وكل هذا، سواء في السياق الغربي أو غيره من السياقات، بحاجة لقراءات جديدة، تقدم النبي الكريم في طبعه الإنساني المتفرد، ولا يمكن ذلك في واقع الأمر، إلا بتجاوز منطق التأليف في السيرة النبوية والتعريف بها، بغير النمط الذي ظل سائدا، وهو نمط ظل يركز في تأريخ التجربة النبوية على الغزوات والسرايا، مما أدى إلى إغفال الجوانب الأخرى الملهمة، والتي شكلت القاعدة في حياة النبي الكريم واتساع قاعدة المجتمع الإسلامي، والمقصود بذلك نظام القيم الذي غرست مبانيه ومعانيه في الجيل الأول، فكان مثل بذرة أصبحت شجرة وارفة الظلال، اتسعت أغصانها بفعل الأخلاق الإسلامية والمعاملة الحسنة، وليست بمنطق القوة، فإنما القوة كانت وسيلة لحماية النظام العام كما هو شأن كل الأمم التي انتقلت إلى وضعية الدول أو الإمبراطوريات.

ولم تكن القوة جوهر الرسالة النبوية، إنما الرحمة مع مطلق الإنسان أيا كان أصله ومعتقده بصريح الآية القرآنية “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، وأن التفاضل بين الخلق ليس كما كان سائدا وما يزال، إنما تفاضل قيمي “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، فلم يكن المحدد اللون أو الجنس أو المعتقد، إنما روح القيم التي شكلت معالم الرسالة الإسلامية في الوجود مع سائر الخلق، وذلك في واقع الأمر كان تحريرا للإنسان من بنى الهيمنة والقهر والاستعباد التي مورست بحق الإنسان، وما تزال تحمل وعودا لبث المعنى في الحياة المعاصرة، وإنقاذ الإنسان والكون من نزعة الخراب.

المرأة المستعبدة المنتهكة الحقوق

يشكل هذا الموضوع إحدى القضايا الرئيسية التي يقع بشأنها نزاع حاد وتشكل المخيال الغربي بخصوص الموقف من الإسلام والمسلمين، سيما أن النموذج السائد حاليا يرتكز على منظومة حقوق الإنسان وما تتلبسه من خطاب المساواة، ومن خلاله يتم نقد التشريعات الإسلامية في الموضوع، أو وضع المرأة في الواقع الإسلامي، وهذا نفسه كما أشرنا سابقا يشكل إغفالا لطبيعة التحول الذي أحدثه الإسلام في قضايا المرأة. وبالمقارنات مع تطور النظم التشريعية، فإن جزءا من الخطاب السائد حاليا حول المرأة جديد على هذه المجتمعات، لكنه أصيل في الرؤية المعرفية الإسلامية. وإنما حدث الخلل في البنى الثقافية، حيث تلبس التدين لبوس الثقافة والعوائد الاجتماعية والقبلية التي أضرت بموقع المرأة، وقد عمل الفكر الإسلامي المعاصر في كثير من اجتهاداته على تجاوز تلك المشكلة (ينظر على سبيل المثال: تحرير المرأة في عصر الرسالة، عبد الحليم أبو شقة)، بل إن قضية المرأة أصبحت موضوعا للانتهاك، ومعها الإنسان برمته، من خلال الانتقال مع منظومة الاستهلاك من مفهوم المساواة إلى التسوية (المسيري عبد الوهاب، المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى)، حيث تلغى الفروق بين النوع، وذلك خطر حقيقي يواجه في التحولات الجذرية التي يعرفها مفهوم الهوية على مستوى الفرد.

تلك العناصر تجد صداها في الصورة التي تشكلت تاريخيا عن الإسلام والمسلمين، وصور “المحمديون” بالعبارة الدراجة في الأدب وكتب التاريخ، وأخيرا بعض الدراسات الاستشراقية وعلم الاجناس والأنثربولوجيا لما كانت في سياق التشكل، التي مدت الاستعمار بصورة سلبية عن الإنسان والمجتمعات العربية والإسلامية ورموزها الثقافية. فبينما يربط الرأي التقليدي للاحتكاك بعالم الشرق -الإسلام والمسلمين والعرب- بنزعة التحريف والعدوانية، أو الإرادة المسلوبة، مما يعكس صورة مشوهة وغير حقيقية لطبيعة الإسلام والحضارة الإسلامية، وفي ذلك تحريف لحقيقة التاريخ وطبيعة السلام والحضارة الإسلامية، فإن الزمن الحديث شاهد على تقديم صورة سلبية للعرب والمسلمين والمجتمع الشرقي في عمومه، في الدراسات الإثنولوجية، حيث تم وسم المجتمعات العربية بالتخلف الذي يستمد جذوره من المعتقدات والثقافة السائدة، وأن هذا التخلف ليس عارضا في سياق تراجع حضاري، وإنما هو طبع أصيل له جذور جينية غذتها الثقافة والمعتقد الديني الإسلامي، فالتقدم العلمي إفراز طبيعي حسب المستشرق الفرنسي إرنست رينان  للروح المسيحية المتصالحة مع العلم، على خلاف الإسلام الذي يعادي العلم والروح العلمية، بل إنه حسب رأيه يعادي التفكير الفلسفي، حيث نزع إلى اتهام أبو حامد الغزالي بتوجيه الضربة القاضية للفلسفة في السياق الحضاري الإسلامي، وهي المقولة الأيديولوجية التي ما تزال سائدة إلى الزمن الراهن لدى شريحة واسعة من المفكرين العرب وغيرهم في دراستهم لتاريخ الفلسفة والتفكير العقلاني في السياق الحضاري الإسلامي، وإن كانت قد عرفت نقدا في حينه من جمال الدين الأفغاني، بالإضافة إلى النقد الراهن لعدد من الباحثين في مجال الفلسفة الإسلامية.

صدام الحضارات وإذكاء شعور الخوف من الإسلام

ما تزال تلك المقولات التي لها علاقة بنزعة العنف والعدوانية، أو شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، أو العلاقة مع العلوم والمعارف والتفكير العقلاني، مادة أساسية للشبكات التي تغذي الإسلاموفوبيا وللإعلام  المتحيز  في توجيه الوعي بخصوص الإسلام والمسلمين، ومن ثم فإن تفسير العنف باسم الدين تعود جذوره إلى مقاربات ثقافوية، تضع اختلافات حادة بين الغرب والشرق، وتعمل على تأويل وإرجاع كل مظاهر التشدد والتطرف إلى الإسلام والتفكير الديني الإسلامي، وهذا يعيدنا إلى نظرية صدام الحضارات، أي إلى منظور المحافظين الجدد ابتداء من هنتنغتون، حيث تم رسم العالم على شكل خرائط ثقافية ودينية بعد انتهاء صراع القطبين الرئيسيين الذي عمر قرابة نصف قرن، ليكون الخطر المستقبلي في حينه محددا في الإسلام، باعتبار عدم قابلية المنظومة الدينية والثقافية الإسلامية الانصهار في بوتقة الحداثة.

وقد أحدثت أطروحة صدام الحضارات ضجة واسعة في سياق عالمي كان أحوج ما يكون إلى الاشتغال بتجسير الهوة بين الثقافات وليس البحث في الفروق وإذكاء نار الصراع من خلال تلك الفروق والاختلافات، وتكمن أهمية أطروحة الصدام من حيث مؤلفها الذي يعتبر قريبا من صنع القرار بالبيت الأبيض الأميركي حينها، ثم مما ورد فيها من تقسيم للعالم على أسس وقوالب وتخويف من عدو مستقبلي مفترض، وهو ما شكل جوهر خطاب جورج بوش الابن في مرحلة لاحقة وظل متحكما في صياغة العلاقات الدولية، التي كانت السياسة الدينية والثقافية في جوهرها تحت ما يسمى الحرب على الإرهاب، وفي جو الصراع والتوتر أضحى الخوف من الإسلام والرموز الدينية الإسلامية التعبير الأبرز، كما ساهمت الكيانات المتطرفة على نشر تلك الصورة السلبية، فخفت صوت الحوار وتجسير العلاقة بين الثقافات، لتحضر المقاربات الهوياتية المغلقة، وهو ما انعكس على تفسير الظاهرة الدينية بطريقة سلبية، انعكست على موقف لفيف عريض في السياق الأوربي والغربي على الإسلام والمكون الإسلامي، سيما أن عددا من الدول تعرضت لأحداث إرهابية استدعت مقاربات عدة لفهم دواعي العنف وأسبابه.

وتعد التفسيرات التي نزعت إلى الربط بين الدين والعنف، وعدم التوافق بين الإسلام والحداثة، امتدادا لذلك التصور الذي تشكل على مدار التاريخ عن الإسلام والمسلمين إلى حدود ماكسيم رودنسون وهنتنغتون، فتقسيم العالم إلى قوالب جاهزة مغلقة، تستبطن هذا المنظور الذي تنشط فيه الصراعات الثقافية والدينية، وهو منظور يغفل الجوانب الأخرى للتقاطعات الثقافية والحضارية التي شكلت جوهر الاجتماع الإنساني وباعث الاقتراض بين الثقافات والحضارات، ومن ثم فإن تلك القراءات التي ما تزال مستمرة إلى حدود اللحظة الراهنة مع الشعبويات واليمين، تتسم بكثير من السطحية والتعميم، ومن ثم عدم القدرة على فهم الظواهر وتفسيرها. ومثال هنتنغتون في ذلك أن مقاربته كانت عرضة للنقد من مثقفين محسوبين على المحافظين أنفسهم، حيث يرفض فرانسيس فوكوياما ذلك الربط الميكانيكي بين الدين والعنف، مستندا في ذلك إلى مقاربة “أوليفيه روا” لما أسماه “الإسلام المنتزع من المحلية” (فوكوياما، أميركا على مفترق الطرق، ما بعد المحافظين الجدد)، وهي مشكلة غربية خالصة، حيث لم يتم العمل على تبيئة الإسلام والثقافة الإسلامية، أو الاعتراف بالمكون الإسلامي داخل النسيج الثقافي الغربي، والسماح له بالتبلور في مناخ من القبول والحرية، مما خلق جملة من التوترات، أحدها انسياق عدد من الشباب المسلم في الدول الغربية بكيانات إرهابية، وهذا في واقع الأمر يجلي أن شعور الخوف والرفض ينتج ردود فعل سلبية، وهو ما يحتاج الاستيعاب والاحتواء بتجاوز الموقف التقليدي من الرموز الدينية الإسلامية، من خلال توطينها والتعرف عليها والاعتراف بها، أما النبذ كما هو حال النموذج الفرنسي مع ما سمي “الانعزالية الاسلامية”، فإنه يحمل مشكلات للمستقبل، ويعمق الانقسام الثقافي بينما الحاجة ماسة إلى الحوار، فالتطرف والرفض على مستوى الموقف، أو صناعة حالة العداء والخوف من الإسلام، قد تنتج طبيعيا رفضا وتشددا في الاتجاه الآخر، وهو رفض وتشدد لا يعبر عن الصبغة الأصيلة للإسلام.

صبغة الإسلام وتسامح المسلمين

تتغذى الإسلاموفوبيا، باعتبارها ظاهرة تحرض على العداء والكراهية بحق المسلمين والرموز الثقافية الإسلامية، على التاريخ الملتبس بين الشرق والغرب، وهو تاريخ أحداث ووقائع يحتفظ بالكثير من أوجه النزاع بين كيانين حضاريين، شكل المعتقد فيه من الجهتين محددا رئيسيا في المواقف المتبادلة والصورة المتشكلة في مخيال كل مكون وطرف في حق الآخر، على الرغم من الاختلاف البين بينهما في إدارة الاختلاف والتنوع والتعددية، التي يحتفظ فيها التاريخ والنسيج المجتمعي العربي الإسلامي على مدى متسع من التسامح في العلاقة بباقي المكونات الدينية تحت يافطة الحرية على مستوى المعتقد، كما هو حال معظم الملل والنحل التي استمر وجودها لسياقنا الراهن في الشرق، أو الصبغة التي اصطبغ بها الوجود الإسلامي في الأندلس والمجتمعات ويشكل الإسلام ديانة غالبية أهلها.

فقد ظل حضور المسلمين في الأندلس لقرون طويلة، تجلى حضورهم الذي حمل إرادة التعمير في معالم إبداع حضاري وثقافي، واستيعاب للتعددية والاختلاف، كما هو حال كل المجتمعات التي تسرب إليها الإسلام وأضحى ديانة غالبية أهلها بفعل المعاملة والقيم الأخلاقية التي حملها معهم المسلمون في التجارة والرحلات، وذلك في واقع الأمر يعكس بعدا معرفيا وأخلاقيا أصيلا في الإسلام تجلى تجليا واقعيا في حضارة المسلمين، مما دفع بأحد الكتاب إلى اعتبار المكون المسيحي في الشرق أحد بناة الكيان الحضاري الشرقي، فهم بعبارته “مسيحيون ثقافة مسلمون حضارة” (محمد عابد الجابري، حوار المشرق والمغرب).

إن موضوع الأخلاق والقيم المنظمة للعلاقات مع الذات والآخر (والكون-البيئة) يشكل جوهر الرسالة التي يحملها الإسلام، سواء كان ذلك في السلم أو الحرب، مع الموافق أو المخالف، فيما له علاقة بالحقوق الفردية أو الجماعية، فذلك عبارة عن نظام من القيم والمبادئ التي تنتصر لمطلق الإنسان وتحفظ كرامته، ولا عجب أن سجلت المستشرقة زيغريد هونكه -وغيرها كثير من الكتاب والمؤرخين- بإعجاب شديد بعضا من تلك المعالم في معاملة المسلمين لغيرهم الغزاة الذين دفعهم تجييش البابا أوربان الثاني سنة 1095 بدعوى تحرير القدس وكنيسة القيامة والإخوة المسيحيين من “الكفار” المسلمين، والتي أسفرت عن مجازر يحزن المرء لذكرها لمدى وحشيتها ودمويتها بحق المسلمين والعرب حينها في القدس وغيره من البقاع، وتنقل لنا المستشرقة تلك الرسالة على لسان فارس ألماني اسمه “أوليفيروس” عن الأخلاق التي عبر عنها صلاح الدين الأيوبي:

عبر الزمان القديم لم نسمع ليومنا هذا عن كرامة الخلق تجاه الأسرى الأعداء حين وضعنا الله تحت رحمتك وأخضعنا لحصارك، لم نتعرف عليك كحاكم وظالم بل كأب حنون ومنقذ من المحن. من لا يصدق ويشك أن هذا الخلق وهذه الرحمة أتيا من الله. الرجال الذين قتلنا آباءهم، إخوتهم، إخوانهم، بوحشية وعذاب، تقاسموا معنا خبزهم وغذاءهم وعاملونا أحسن معاملة رغم أننا خاضعون لتصرفهم. (زيغريد هونكه، الله ليس كما تروجون)

ختاما: بهذا المعنى يكون الخوف من الإسلام ليس مما يكتنزه المنظور الإسلامي ويستدعي الخوف، وإنما يتشكل الخوف والفوبيا في معين عدم الوعي بحقيقة وأصالة الإسلام، أو في نبع التعصب والانغلاق، أو بفعل تدخل عناصر أخرى سياسية واجتماعية تستحث شعور الخوف، ليبرز للوجود في سلوك الرفض والعداء، فتوظف في ذلك السرديات التاريخية والفكرية التي تقسم المجتمع الإنساني إلى جزر، كي تعدم إمكانات اللقاء أو الفهم والتفهم البعيد عن التزييف الذي يمارسه الإعلام بحق صورة المسلمين والإسلام، وهي صور في العادة تكون معدة للتوظيف والاستعمال لإبقاء حالة التوتر دائمة ومستمرة، وهو ما يحتاج وعيا في الجهة الأخرى لصياغة خطاب ومبادرات، تنتصر للتنوع والتعددية والاختلاف، وتؤسس للمستقبل الإنساني المشترك.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post وزير التجارة: نسعى لتطوير القدرات الإنتاجية والتصديرية للدولة مع القطاع الخاص
Next post بريطانيا تخطط لإرسال صواريخ كروز بعيدة المدى إلى أوكرانيا 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading