عندما يسمع أحدنا مفردة “الفضاء السيبراني”، يكون ذلك في أغلب الأحيان مقترنا بإحدى الكلمات مثل: الأمن، والتهديدات، ونقاط الضعف، والثغرات، والاختراقات، والهجمات، والحرب.
فالفضاء السيبراني والفضاء الخارجي هما من المجالات المتطورة التي تثير قلق الأمن الدولي اليوم، وأحد الاختلافات الحاسمة بينهما أن لدينا قواعد معمولا بها للحفاظ على السلام في الفضاء الخارجي، بينما لا توجد مبادئ مماثلة للفضاء السيبراني على الأقل حتى الآن. يتبنى السلام السيبراني الفكرة الوليدة القائلة بأن هذا الفضاء ينبغي ألا يصبح ساحة معركة في ظل تطور تحديات الأمن المرتبطة به.
إذ إن إثارة السؤال حول إمكانية إيجاد السلام في عالم رقمي في وقت تزداد فيه الهجمات الإلكترونية بشكل أكبر قوة وتعقيدا وخطورة، تجعل تعريف “السلام السيبراني” أكثر صعوبة للباحثين والمهتمين. فثمة قطاعات كثيرة من البنية التحتية الحرجة المترامية في مساحة العالم التي تبلغ 510.6 مليون كلم مربع ويعيش عليها نحو 8 مليارات نسمة يتوقف عملها على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتخضع لسيطرة أنظمة الرقابة الإشرافية وحيازة المعلومات وغير ذلك من العمليات المعلوماتية المعقدة التي تتصل بطريقة أو بأخرى بالإنترنت التي تقوم عليها معظم وظائف الحياة اليومية.
ليس من المبالغة القول إن الفضاء السيبراني يعدّ أحد أهم وأعظم اكتشافات البشرية، وقضية حقيقية بالغة الأهمية وعلى أعلى المستويات في قيادات الدول بسبب سرعة انتشار واستخدام أسلحة الفضاء السيبراني بشكل واسع، لاسيما في ظل التقدم الكبير الحاصل في مجال الذكاء الاصطناعي والتطور في تقنيات تكنولوجيا المعلومات، وفي ظل نشوء نمط من الصراعات الدولية عبر هذا الفضاء وظهور مراكز استقطاب وقوى جديدة فيه.
إنّ شيوع الاعتماد على الفضاء السيبراني قد أنجب أنشطة إجرامية وأنشأ طرائق جديدة لجمع معلومات الاستخبارات والنزاع، وفتح نقاط الضعف التي تنطوي عليها أنظمة التشغيل والبرمجيات والأوضاع الأمنية، كما فتح الباب لإمكانية القيام بأعمال تهدد الخدمات الأساسية المقدمة للسكان المدنيين وتسهل التجسس الاقتصادي وتؤثر على أعمال حكومات الدول. فهناك أسلحة رقمية مثل الفيروسات والديدان وهجمات منع الخدمة الموزعة وسرقة البيانات المشمولة بحقوق الملكية والرسائل الاقتحامية والتدليس، وكل هذه الأفعال تقوّض مصداقية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وقدرة المجتمعات والاقتصادات على العمل.
أضحت شبكة الإنترنت جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية لمليارات الأشخاص في العالم (هناك أكثر من 5.16 مليارات شخص متصلون بالشبكة العنكبوتية بمعدل انتشار يبلغ 65%) وهناك ما يقرب من 2.5 كوينتيليون (واحد على يمينه 18 صفرا) بايت من البيانات تُنتج كل يوم. وأصبح الفضاء السيبراني أشبه ببنية تحتية لا يمكن الاستغناء عنها، وهي ضرورة ملحة لا يمكن لكثير من سكان العالم الازدهار أو حتى البقاء من دونها. ويمثل هذا الجانب اليوم ميدانا جديدا تقترن به تحديات متعاظمة للحفاظ على السلام والاستقرار السيبراني.
تأسيسا على هذا القول، فإن العالم يتجه بسرعة نحو الاتصال في كل مكان، والذي من شأنه أن يغيّر بشكل أكبر كيفية الحصول على المعلومات وجمعها ومشاركتها واستهلاكها. ونقول إن البشرية تعيش اللحظة الأكثر تطورًا وحداثة في خطّ الزمن البشري، التي تبدو فيها البيانات المتصلة بالفضاء السيبراني أثمن من أي وقتٍ مضى.
لماذا نقول ذلك؟ لأن عالم البيانات وصل حجم مبيعاته عام 2020 إلى ما يقارب 742 مليار دولار، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى نحو 1.6 تريليون دولار بحلول عام 2025 مع اتصال أكثر من 25 مليار جهاز حاسوب بالشبكة العنكبوتية. هذه المعطيات جعلت العديد من دول العالم تدرك أنها لن تكون بمأمن عن كلفة الحروب والهجمات الإلكترونية دون وجود نظام موثوق وقوي لضمان أمن مجالها وفضائها السيبراني؛ فهذا الأخير يمثل، في الوقت نفسه، فرصة عظيمة وواعدة وريادية، من دون إغفال جانبه المظلم والخطير، الذي ينبغي إدارته بشكل صحيح ومدروس وفاعل.
في ظل هذا المشهد تجري جهود دولية متواضعة أو خجولة، ولنقل أقل بكثير من الإستراتيجيات الوطنية التي وضعتها دول متقدمة للتصدي لتهديدات الهجمات السيبرانية، ولتحسين الأمن وضمان السلام السيبراني. فدعت بعض البلدان والأطراف ذات العلاقة إلى وضع معاهدة للحد من استعمال الأسلحة السيبرانية، في حين أصرت دول أخرى على أن هذه المعاهدة غير ضرورية أو سابقة لأوانها بمبررات تتصل بالسادة الوطنية.
على الرغم من أن هذه الاقتراحات قد تدل على خطوة نحو التعاون الدولي، فإنها أيضا أبعد ما تكون عن نهج شامل فعلاً وإستراتيجية واضحة للمضي قدما، أي إستراتيجية تشمل جميع أصحاب العلاقة والفاعلين المعنيين في حوكمة وإدارة الفضاء السيبراني. ورغم أن المعاهدات المتعددة الأطراف هي أكثر الوسائل العملية لمواءمة النظم القانونية الوطنية ومواءمة تفسير القانون الدولي الحالي، فإنه يبدو أن المناقشات حول التحرك نحو “السلام السيبراني” على المستوى العالمي لا تزال في مرحلة مبكرة للغاية، نظرا للغموض المعياري الحالي الذي يحيط بالقانون الدولي في سياق الأمن السيبراني والذي يعتبر التعاون الدولي بين مختلف الجهات الفاعلة حجر الزاوية للاستجابات الفعالة للتهديدات السيبرانية.
وما يبدو واضحا إلى الآن هو أن السلام السيبراني، الذي يجب أن يُبنى على مسؤولية الدولة وسيادتها، لا يعني عدم وجود هجمات أو عمليات استغلال وقرصنة.. إلخ، إذ إن المشهد الدولي أقرب ما يكون اليوم إلى معادلة “السلام السيبراني السلبي” بالتركيز على “الردع” دون القدرة على معالجة الأنشطة الهجومية العدائية في هذا المجال.
عودٌ على بدء، في ظل عدم وجود دعم من الدول العظمى والصاعدة التي استثمرت بالفعل وما زالت تستثمر بشكل كبير في مجالها السيبراني تحسبا لإمكانية نشوب حرب إلكترونية، مستغلة الفراغ القانوني الحالي في هذا الجانب، فإن التقارير الحالية بشأن “التسليح” المنتظم للفضاء السيبراني، واستحداث قيادات سيبرانية ووضع إستراتيجيات سيبرانية عدوانية وغير ذلك، لا تبشّر بالخير بأي شكل من الأشكال على هذا الصعيد، ما لم يبذل “أصحاب المصلحة” والفاعلون في الفضاء السيبراني الجهود من أجل كفالة الحد الأدنى من الاستقرار في الإنترنت وفي بنيتهم التحتية، والنهوض بمفهوم مُرضي ولو نسبيا للسلام السيبراني العالمي، ودون ذلك سيبقى التهديد بالحرب والهجمات الإلكترونية يلوح شبحها في العالم كله.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.