كل يوم نجد أنفسنا متورطين في صخب الحياة اليومية وفوضى الحياة السياسية والبيئة التصادمية التي تنهك بعضنا ببعض. هذا الصخب والفوضى وهذه الصراعات تستنزف صفاء عقولنا، يكون أحيانا صخبا حادا لدرجة أننا لا نستطيع الخروج منه فندور بشكل مستمر في حالة من التيه، الأمر الذي يتبعه فشل في إدراك سبب وجودنا في هذه الدنيا وكيف نتعامل مع الآخرين وندير علاقتنا معهم بنجاح.
أصبح الضغط جزء من حياتنا اليومية، سواء كان إزعاجا بسيطا أو عبئا مهنيا ثقيلا يمتد معنا على مدى شهور وسنوات.
الإنسان في نظر التنويريين هو ذلك الشخص الأسطوري الذي لا يوجد سلطان فوق عقله، ولا حدود لقدراته
وجود الإنسان بين الأنس والنسيان
الإنسان كلمة تُشير إلى الأنس، أنس البشر ببعضهم البعض، ومن الأشياء اللافتة للانتباه التي تستحق الوقوف عندها في هذه الحياة أن وجود البشر مع بعضهم هو سلاح ذو حدين، فرغم أنه يخلق حالة تنافسية كبيرة بينهم فإن الناس في الوقت نفسه لا يستطيعون العيش من دون الاستئناس ببعضهم البعض. فدون أُنسنا ببعضنا لن يكون هناك وجود لكل تلك القصص البشرية ومن دون القصص لا يوجد حياة.
لا تشير كلمة “إنسان” إلى الأُنس والألفة فقط وإنما تشير أيضا إلى “النسيان”، فكوننا أناسا يعني أننا بالتأكيد سننسى كل شيء، مهما كان ما نواجهه في تلك اللحظة من أفراح أو ضغوط أو أحزان أو آلام، فإن مآلها لا محالة إلى النسيان.
بسبب هذه الطبيعة البشرية الأكيدة، يصبح جوهر علاقة الإنسان بغيره وهي “الأنس والألفة” معرضة أيضا للنسيان، فلا يتذكر الناس هذه الحقيقة إلا حين يختفي الآخرين من حولهم، فيما عدا ذلك الوقت فإن الحاضر بينهم هو الصراع والخلافات والتنافس والضغوط.
إن الشخص الذي أتنافس معه هو مثلي، ووجوده جزء من وجودي أيضا. لقد نشأنا من الوجود نفسه، وأتينا من المكان نفسه، ونسير نحو الوجهة ذاتها. وسبب كوني إنسانا هو أنني أستطيع أن أتعايش وأشعر بالألفة مع إنسان آخر. ومن دون هذه الألفة لا تكتمل صفتنا البشرية.
إننا ننسى خالقنا، وعهدنا له، وأننا قد خُلِقنا بيده، وأن كل ما نعتقد أنه لنا، مثل أجسادنا وجمالنا وحياتنا ورزقنا وشفائنا وطبيعتنا ووجودنا ولغتنا، فهو مملوك له وليس لنا.
إننا ننسى أننا وُلِدنا بظروف ليست بيدنا، وأننا نحمل بعض الخصائص التي أعطيت لنا، ونعتقد أن جميع تلك الخصائص هي ملكنا الخاص، ونغوص في غفلة الاستعلاء والتبجح بها أمام الآخرين، دون أن نتذكر أنها تنسب إلى النسيان والغفلة.
ومع ذلك، فإن معظم مناقشاتنا السياسية تعتمد على نسيان هذه المعلومات الأساسية، هذه المعرفة الحقيقية. تظهر لنا الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والأوبئة والفيضانات والأعاصير -بوجه واضح- أنه لا يوجد شيء في هذا العالم ينتمي إلينا ويكون ملكنا بشكل حقيقي. قد يتذكر بعضنا ذلك للحظة، ولكن بعد وقت قصير نسقط في النسيان ونستمر في غفلتنا.
رغم ذلك، في كل لحظة من حياتنا تأتينا تلك الإشارات والتحذيرات، وتذكرنا بواقعنا وتذكرنا بحقيقتنا. ندرك مدى صغرنا وعجزنا وضعفنا، وفي هذه النقطة نرى أيضا مدى تشابه بعضنا ببعض. هذه المعرفة، وهذا التشابه، يعلمانا أيضا أنه ليس علينا أن يخضع بعضنا لبعض، أو أن ينحني بعضنا لبعض، أو نلبّى كل ما نتوقعه من الآخرين.
بالطبع، تلك التذكيرات ليست بشكل كبير من منظور إنساني. كما أن التنوير، كمصدر عام وشائع للاعتقادات السائدة في عالمنا اليوم، يعمل منذ 250 على تأكيد عظمة وكبرياء الإنسان، وادعاء أنه المسيطر، فهل سيقع الإنسان، الذي يعرف كل شيء ويتعلم وينير، مرة أخرى في الغفلة؟
لم نر مثل هذا الإنسان، ذاك الشخص الرائع الذي يتصرف بعقله النقي، بعيدا عن كل أنواع مشاعر الغطرسة والجشع والنزوة والدونية والعظمة المعقدة، ويجمع المعرفة التي اكتسبها دون أن ينسى، وينير العالم بالذكاء الذي وصل إليه. هذا هو رجل الإنسانية، هذا هو الشخص الذي يرسمه التنويريون.
أتأمل الفرق بين الإنسان في نظر التنويريين، ذلك الشخص الأسطوري الذي لا يوجد سلطان فوق عقله، ولا حدود لقدراته وبين الإنسان في التصور الإلهي الكامل بحقيقته، بضعفه وقوته، بعقله القوي وزلاته الأكيدة الحدوث، وأرى كيف يغفل التنويريون عن حقيقة هذا الإنسان المستنير الواعي الصانع للحضارات والأمجاد، حقيقة أن العديد من الكوارث والحروب التي تحدث على ظهر الأرض هي بسبب هذا الإنسان الذي لا يخطئ ولا يذل عقله ولا يضعف.
هذه الحقيقة هي التي ينساها التنويريون دائما، والتي تسلب الإنسان الكثير من هذه الصفات الأسطورية التي يتخيلونها.
غالبا ما يغفل التنويريون عن التصوّر التاريخي لهذا الإنسان الأسطوري، ويقبلونه كما هو، عن الإنسان الذي يرويه لنا الكلام الإلهي بكامل حقيقته.
لقد غفل التنويريون أن الإنسان أخطأ في مهمته الأساسية التي كان مفترضا أن يقوم بها في تنمية الأرض وقام بإثارة الفوضى على سطحها. ومع ذلك، فإن الأمانة التي تم تكليفه بها ومن المفترض أن يؤديها قد عُرضت على السماء والأرض والجبال قبله، فقد عرفت بشكل أفضل ما هي، ولكن الإنسان قد طالب بهذه الأمانة وهذا الدور وهذه المهمة، لأن الإنسان ينسى ومحكوم عليه بالنسيان.
المعرفة في ذاتها ليست موضوعنا الرئيسي، بل موضوعنا هو معرفة أن الإنسان يميل إلى النسيان طوال الوقت. فمن منا لا يعلم أنه ولد من أم وأب وهو لم يكن شيئا؟ ومن منا لا يعلم أنه سيُخرج من هذا الدنيا رغما عنه في وقت لم يكن يريده ولا يعرفه؟ ومن منا لا يعلم أنه عند وفاته، لن يأخذ معه أي شيء جمعه من هذه الدنيا، وسيضطر لترك كل شيء وراءه؟ الجميع يعلم ذلك.
هذا يعني أن المعرفة موجودة ولكن معظم الناس يعيشون ناسين أو متناسين هذه الحقيقة الواضحة والأساسية. بعد الهداية، تكون الضلالة من أكثر الحالات التي يتعرض لها الإنسان، حيث إن الإنسان يعيش وكأنه لا يعرف أبسط المعلومات الأساسية، وأن يتصرف تجاه الآخرين كأنه لا يملك تلك المعرفة، هذا هي حالة الجهل التي مع النسيان.
نسياننا لعهدنا مع ربنا، ونسياننا للحكمة والحقيقة التي تم إبلاغنا بها بالتأكيد مع وجودنا في هذا العالم، له عواقب وخيمة لا تقتصر فقط على أنفسنا. فنسيان المعرفة يجعلنا ينسى بعضنا بعضا، ويجعلنا نبتعد عن الآخرين.
ما دورنا نحن البشر تجاه بعضنا البعض؟
من ينسى ربه ينسى نفسه، ومن ينسى نفسه، ينسى الآخرين أيضا، ومهمته تجاههم، ومسؤولياته، وموقعه. أليس من هنا تنشأ كل المشكلات؟ لذا يجب أن نبدأ السؤال من حيث بدأت المشكلة:
ما دورنا تجاه بعضنا البعض؟ هل يمكن أن تتركنا الألفة التي أوجدتنا لنسياننا الخاص؟
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.