إعادة الاعتبار للدراما التلفزيونية كنص أدبي | آراء


يقتحم عدد كبير من رجال الشرطة بملابس مدنية وعسكرية غرف نوم رشيد أثناء نومه بجوار نجله في منزله في مدينة حلوان المصرية فيفزع الأب وابنه. تسحب القوات الأمنية رشيد بعنف وهو في حالة ذهول ويقيدون معصمه من الخلف قبل أن يقتادوه إلى مخفر الشرطة. لم يتمكن رشيد من حضور حفل زفافه الذي كان مقررا يوم القبض عليه، ويجد نفسه متهما في جريمة قتل رئيسه في العمل ويحكم عليه بالسجن 16 عاما، بينما يُوضع نجله من زواج سابق في ملجأ للأيتام في مسلسل “رشيد” للمخرجة المصرية مي ممدوح وإنتاج 2023.

قصة المسلسل مأخوذة من الرواية الشهيرة الكونت دي مونت كريستو Le Comte de Monte-Cristo للكاتب الفرنسي ألكسندر دوما الأب عام 1844، التي تدور حول شاب يتعرض للسجن بتهم ملفقة ويهرب من السجن ليعلم بخيانة أصدقائه ويعد خطة للانتقام. لم يفقد هذا العمل الأدبي بريقه منذ اختراع السينما والتلفزيون، ولا يزال مقتبسا في قصص الأفلام والمسلسلات منذ عصر السينما الصامتة عام 1912 في الولايات المتحدة وحتى يومنا هذا.

وهو نموذج من أعمال روائية عديدة عرفت طريقها نحو السينما والدراما التلفزيونية في طريق ذي اتجاه واحد من النص الروائي إلى النص الدرامي، بحيث يصبح هذا الأخير محاكاة أو ظلا للعمل الأصلي. ومهما بلغت حرفية القائمين على العمل الفني فإنهم لا يستطيعون أن يخرجوا منتجا يضاهي أو ينافس العمل الأدبي الأصلي، وحينئذ يدور النقاش حول قدرة الصورة على التعبير عن جماليات الأدب من عدمه، وليس هذا صلب النقاش في هذا المقال الذي يتعامل مع النص الدرامي كنص أدبي مستقل.

في حديث إذاعي بين الممثل المصري الراحل عبد الوارث عسر والكاتب الراحل نجيب محفوظ، يسأل عسر إن كان على الكاتب أن يدرس شيئا من السيناريو ليتولى بنفسه كتابة سيناريو أعماله الأدبية أو على الأقل يشرف عليها، لتعبر بصدق ووضوح عن نصه الأدبي. أجاب محفوظ بأن السيناريو موهبة مستقلة بذاتها تختلف عن موهبة القصة والرواية والمسرحية، وأنه من أنصار التخصص، لأن لكل منه ذوقه وثقافته وطرقه المختلفة في التعبير. وأضاف نقطة مهمة تتعلق بالتخصص، إذ أشار إلى أن كل فن من هذه الفنون يستوعب حياة كاملة من الدراسة والاستيعاب والعمل.

يجيب هذا الحديث عن الأزمة التي تؤرق كل العاملين في الحقل الفني في العالم العربي من المحيط إلى الخليج التي يعبرون عنها بمشكلة الورق، أي النص الدرامي أو السيناريو الجيد الصالح للتجسيد فنيا على الشاشة. وعند الرغبة في الحصول على نص درامي جيد فإن الأنظار تتجه مباشرة للرواية في محاولة لاستنساخ نجاح النص الأدبي في العمل الفني، وهي محاولات إن لم تفشل فشلا ذريعا فإنها لم تنجح النجاح المرجو لها.

الأدب المقروء والأدب المنظور

نجاح الدراما التلفزيونية يعتمد على التعامل مع النص الدرامي كنص أدبي مستقل بذاته، وهو وإن كان جزءا من عملية إنتاجية أوسع يشارك فيها المخرج والممثل ومدير التصوير بنصيب كبير، إلا أنه يحافظ على مكانته بين هذه العناصر. فالدور القيادي الفني للمخرج مثلا لا ينفي أهمية وإبداع مدير التصوير ومدير الإضاءة، وكلاهما يمكن أن يؤدي إلى نجاح العمل الفني أو فشله.

إن مركزية دور المؤلف في العمل الروائي ومركزية دور المخرج في العمل الدرامي والسينمائي حجبت الرؤية عن تقييم جوهر الأعمال نفسها وتقييم بقية الأدوار الإبداعية للفريق. فنظرية المؤلف في السينما التي ظهرت في أربعينيات القرن الماضي كانت تريد أن يقوم المخرج بدور المؤلف الروائي وليس أن يقتبس منه، ولهذا عبر الناقد الفرنسي ألكسندر أستروك عن هذه الوظيفة بقوله “الكاميرا قلم”. وقد نجحت السينما إلى حد بعيد في أن تستخدم الكاميرا كقلم فعلا بينما دار المخرج الدرامي التلفزيوني في العالم العربي في فلك الاقتباسات الأدبية مع استثناءات قليلة.

يحسب للتجربة الدرامية العربية أنها قدمت محاولات عديدة في هذه المجال للتغلب على أزمة السيناريو، منها مثلا مسلسل ذاكرة الجسد المقتبس من رواية تحمل الاسم ذاته للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي للمخرج السوري نجدت أنزور وإنتاج عام 2010. وعلى خلاف معظم المسلسلات المقتبسة، حافظ المسلسل على اللغة العربية الفصحى في الحوار، بل وحافظ على رواية البطل كما هي. والمسلسل قدم محاولة جادة لكنها غير ناجحة، لأنه لم يستطع أن يطوع اللغة الفصحى لتخدم التعبير الصادق عن مشاعر الأبطال بشكل يقنع المشاهد بالأحداث، كما مر إيقاع المسلسل بطيئا جدا من دون توظيف جيد للحبكات الدرامية.

هناك محاولة أخرى نادرة لتحويل قصيدة شعرية لمسلسل درامي، وهي قصيدة أنشودة المطر للشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السياب التي تحولت إلى مسلسل يحمل الاسم ذاته للمخرج الفلسطيني السوري باسل الخطيب من إنتاج عام 2003.

ولأن القصيدة رغم دراميتها وشاعريتها لم تحمل أحداثا أو شخصيات واضحة، فقد استلهم النص الدرامي أجواء القصيدة المناخية من غيوم وأمطار ليطبع به المشاهد العامة للمسلسل، بالإضافة لطابع التراجيديا والحزن الذي يخيم على القصيدة وأحداث المسلسل. وبالتالي يمكن القول إن الاقتباس في هذه الحالة كان محدودا جدا لكنه محمود، والمسلسل أيضا لم يبلغ الشهرة التي حظيت بها القصيدة وبقي محاولة جادة تنهل من بعض نجاح العمل الشعري.

يقدم قاموس جامعة أوكسفورد البريطانية تعريفا واسعا للأدب يشمل التراكيب الشفوية والدرامية والمذاعة، ليفسح المجال لأجناس أدبية أخرى تنضوي تحت تعريف الأدب. وبذلك يمكن أن يدخل من ضمنها النصوص الدرامية التلفزيونية، وهي مواكبة جيدة لمتغيرات العصر، لأن فن الرواية نفسه من الفنون الأدبية المستحدثة التي انتقلت للغة العربية، وكان بعض الكتاب الكبار مثل عباس محمود العقاد يرونها في مرتبة أدنى من الشعر ومن البيان المنثور.

واليوم، وبعد أن تبوأت الرواية المكانة التي نراها في الأدب العربي، آن للنص الدرامي أن يحجز مكانه في عالم الأدب وأن يتم تحديث معايير تعليم وتقييم النصوص الدرامية التلفزيونية في هذا الإطار.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post مقتل فلسطينيين بينما تستهدف إسرائيل معقل النشطاء في الضفة الغربية بطائرات مسيرة وقوات
Next post “العملية لا تنتهي في يوم واحد”.. إسرائيل تقصف جنين بمسيرات هجومية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading