تعتبر دولة هاييتي مثالا صارخا للظلم الاستعماري الغربي الذي عانت منه الشعوب المستعمَرة في العالم على مدى القرون الخمسة الماضية، ظلم الاحتلال والبطش والاستعباد ونهب الخيرات والتآمر والأنانية والتمييز، وهي مثال صارخ على استكبار الدول العظمى وهيمنتها وأساليب فرض سياساتها وتحقيقها مصالحها على حساب أي شيء آخر مهما كان الثمن، وهي مثال صارخ كذلك على فشل المجتمع الدولي الذريع بمؤسساته الدولية في معالجة قضايا النزاعات والصراعات وتحقيق الاستقرار وبسط السلام وتحقيق التنمية، وعلى فشله في محاربة الجريمة والإرهاب وبسط الأمن والسلام والعدل والحرية وتحقيق التنمية.
هاييتي -التي كانت تسمى أيام الاحتلال الفرنسي لؤلؤة جزر الأنتيل، وكانت فرنسا تصدر منها 60% من إجمالي القهوة و40% من إجمالي السكر الذي تحتاجه أوروبا- أصبحت أفقر دولة في النصف الغربي من الكرة الأرضية بعد أن أرهقتها الديون والتحايل الاقتصادي والاضطرابات السياسية والأمنية وهيمنة الفساد السياسي والعصابات والجريمة المنظمة والكوارث الطبيعية.
ومع ذلك، فإن هذه الأوضاع لا تكفي لتفسير سبب قيام الإدارة الأميركية بإدراج هاييتي كأول دولة في قائمة الدول التي ستعمل فيها على إيقاف الصراع وتعزيز الاستقرار ضمن إستراتيجيتها للسنوات العشر القادمة.. فلماذا قامت الولايات المتحدة بهذه الخطوة؟
ثارت هاييتي ضد الاستعمار نهاية العام 1803، لتكون أول دولة للعبيد في العالم وأول دولة مستقلة في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وأول دولة ألغت العبودية والدولة الوحيدة في التاريخ التي شهدت ثورة عبيد ناجحة أدت إلى حكم الأشخاص غير البيض
لعنة الحرية
تعتبر هاييتي ثالث أكبر دولة في جزر الأنتيل الكبرى في البحر الكاريبي بعد كوبا والدومينيكان التي تكوّن معها جزيرة هسبانيولا، حيث تقع الدومينيكان في الجزء الشرقي من الجزيرة، فيما تقع هاييتي في الجزء الغربي، وتبلغ مساحتها نحو 27 ألف كلم مربع، ويسكنها حاليا حوالي 12 مليون نسمة.
استعمر الإسبان هاييتي في الفترة بين 1492 و1625 ثم الفرنسيون (1625-1804)، واحتلها الأميركيون في الفترة من 1915-1934، لكن ما لا يعرفه معظم الناس عن هاييتي هو أنها صاحبة أول ثورة عبيد ناجحة ضد الاستعمار أسفرت عن هزيمة الاستعمار الفرنسي بقيادة نابليون وإعلان دولة هاييتي مطلع العام 1804، لتكون أول دولة للعبيد في العالم وأول دولة مستقلة في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وأول دولة ألغت العبودية والدولة الوحيدة في التاريخ التي شهدت ثورة عبيد ناجحة أدت إلى حكم الأشخاص غير البيض.
بعد عامين من الثورة الفرنسية انطلقت ثورة العبيد الهايتيين ضد الاستعمار الفرنسي حتى تمكنت من هزيمة جيش نابليون بونابرت في نوفمبر/تشرين الثاني 1803، واضطر نابليون على إثر هذه الهزيمة إلى بيع لويزيانا الفرنسية للولايات المتحدة، والتي تعادل نحو نصف مساحة الولايات المتحدة حاليا.
دعمت إسبانيا وبريطانيا ثورة العبيد في هاييتي لإضعاف نابليون، كما دعمها الرئيس الثاني للولايات المتحدة جون آدمز دبلوماسيا وماليا وعسكريا طوال فترة رئاسته (1789-1798) بسبب معارضته للعبودية، لكن هذا الدعم سرعان ما توقف بمجيء توماس جيفرسون الذي تولى الرئاسة في الفترة من 1801-1809 خوفا من تأثير الثورة على عبيد الولايات المتحدة.
بعد نجاح الثورة وهزيمة القوات الفرنسية وإعلان جمهورية هاييتي بدأت الجمهورية الوليدة تواجه تحديات المجتمع الدولي آنذاك، خاصة من الولايات المتحدة التي لم يكن قد مضى على استقلالها من الإمبراطورية البريطانية سوى 28 عاما.
ويذكر المؤرخون أنه لولا هذه الثورة لما كانت مساحة الولايات المتحدة على ما هي عليه، ومع ذلك رفضت الولايات المتحدة الاعتراف بهذه الثورة لمدة 60 عاما سعيا لفرض هيمنتها على هاييتي، بل سعت جاهدة إلى إفشالها سياسيا واقتصاديا وأمنيا.
ورفضت فرنسا كذلك الاعتراف بهاييتي، واشترطت لذلك تعويضها عن الخسائر التي تكبدتها بسبب الثورة، ووافقت الولايات المتحدة على ذلك، حيث استمرت هاييتي في دفع هذه التعويضات حتى عام 1947، مما أرهق الاقتصاد الهاييتي وأغرقه في الديون.
تقول الدكتورة ليزلي ألكساندر أستاذة التاريخ في جامعة أريزونا بالولايات المتحدة ومؤلفة كتاب “الخوف من الجمهورية السوداء” إن “المشاكل التي واجهتها هاييتي بعد الاستقلال لم تكن لأسباب داخلية، وإنما بسبب الدور المستمر للتدخل الأجنبي، وفي المقام الأول من قبل الولايات المتحدة”.
وقد ذكر المؤرخ لوران دوبوا من جامعة ديوك الأميركية في كتابه “هاييتي.. ما بعد صدمات التاريخ” أنه “بحلول عام 1898 ذهب نصف ميزانية حكومة هاييتي بالكامل لتسديد الديون الفرنسية، وبحلول عام 1914 بلغت هذه النسبة 80%، وقد استغلت الولايات المتحدة هذا الظرف الذي تمر به هاييتي لتقدم لها قرضا يوحد ديونها ويساعدها على سداد بقية الديون الفرنسية، فاستبدلت هاييتي بذلك دائنا بآخر، وفتحت المجال للولايات المتحدة والبنوك الأميركية للتحكم باقتصادها والسيطرة المالية عليه حتى عام 1947، حيث تمكنت من سداد ديونها لفرنسا مقابل استنفاد احتياطيها من الذهب الذي نقلته القوات الأميركية من البنك الوطني الهاييتي إلى بنك نيويورك بترتيب من روجر إل فارنهام الذي أدار أصول بنك المدينة الوطني في هاييتي، وقام بإقناع الرئيس الأميركي وودرو ويلسون -الذي حكم في الفترة بين 1913 و1912- بالتدخل العسكري في هاييتي من أجل تحقيق الاستقرار في البلاد وإجبار حكومتها على سداد ديونها، وأنه إذا لم يفعل ذلك فإن فرنسا أو ألمانيا قد تقدم على غزوها”.
تقول الدكتورة ليزلي ألكساندر أستاذة التاريخ في جامعة أريزونا ومؤلفة كتاب “الخوف من الجمهورية السوداء” إن “المشاكل التي واجهتها هاييتي بعد الاستقلال لم تكن لأسباب داخلية، وإنما بسبب الدور المستمر للتدخل الأجنبي، وفي المقام الأول من قبل الولايات المتحدة”
لقد أثر النفوذ الأجنبي -خاصة من فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة- كثيرا على هاييتي، حيث استثمرت كل دولة بشكل كبير في سياسات وتجارة الدولة، مما أدى إلى تدهور الاقتصاد واضطراب الوضع الأمني.
وقد شهدت الدولة 7 رؤساء بين عامي 1911 و1915، جميعهم اغتيلوا أو أزيحوا عن الحكم، وكان من بينهم فيلبرون غيوم سام الذي قتل عام 1915 في أحداث شغب دفعت الولايات المتحدة إلى التدخل عسكريا لاحتلال هاييتي حتى عام 1934، ليتحقق بذلك لأميركا السيطرة السياسية والاقتصادية والعسكرية الكاملة مستخدمة العنف الشديد لقمع الهايتيين المعارضين للاحتلال الأجنبي، حيث تتحدث المصادر عن سقوط أكثر من ألفي قتيل من المعارضين في مواجهة واحدة فقط مع قوات الاحتلال الأميركي.
وتذكر صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في عددها الصادر في 2021/12/9 أن الاحتلال العسكري الأميركي لا يزال أحد أحلك فصول السياسة الأميركية في منطقة البحر الكاريبي، حيث نصبت الولايات المتحدة نظاما دمية أعاد كتابة دستور هاييتي ومنح الولايات المتحدة السيطرة على الشؤون المالية للبلاد، وتم استخدام السخرة في أعمال البناء وغيرها لسداد الديون التي عليها للبنوك الأميركية، فضلا عن قتل آلاف الهايتيين على أيدي قوات البحرية الأميركية.
وعندما انتهى الاحتلال في عام 1934 -في ظل سياسة حسن الجوار التي أعلنها الرئيس فرانكلين روزفلت- اندلعت أعمال شغب في العاصمة بورت أوبرانس ودمرت الجسور وقطعت خطوط الهاتف وأعلن الرئيس الجديد الأحكام العرفية ووقف العمل بالدستور.
لم يكن هذا آخر فصول التدخل الأميركي في هاييتي، فقد استمرت سياسة الولايات المتحدة وتدخلاتها على غرار ما عايشناه ونعايشه في العديد من دولنا، وكانت هذه السياسات لا تتجاوز سقف المصالح العليا لها بغض النظر عن مصالح هاييتي وما يعانيه شعبها بسبب هذه السياسات، فبعد الحرب العالمية الثانية ودخول النفوذ الشيوعي إلى جزر البحر الكاريبي عن طريق كوبا عاد النفوذ الأميركي من جديد، ليدعم الرئيس فرانسوا دوفالييه وابنه جان كلود دوفالييه الذي استمر حكمهما من 1957 إلى 1986 بالقبضة الحديدية والقمع العنيف وترهيب المواطنين والمعارضين السياسيين، وكان سبب دعم الولايات المتحدة لهما هو مناهضتهما الشيوعية، لكن تصاعد المعارضة الشعبية اضطر الولايات المتحدة في النهاية إلى الضغط على دوفالييه الابن لمغادرة البلاد عام 1986، وهكذا دواليك حتى يومنا هذا.
نجحت ثورة العبيد في هاييتي في التخلص من الاستعمار وإقامة جمهورية حرة وألهمت العديد من الثورات حول العالم، في أوروبا وأميركا اللاتينية، خاصة في فنزويلا وكولومبيا والإكوادور، حيث كانت تجارة العبيد حينها رائجة ومربحة للغاية.
وتعهدت هاييتي بأن تكون ملاذا آمنا لجميع العبيد الذين يحتاجون إلى حماية، وأن تكون حليفة لهم في جميع أنحاء العالم، لكن لعنة هذا النجاح ظلت تلاحقها حتى اليوم بعد أن فشلت في مواجهة تدخلات ومؤامرات العالم الذي يسمي نفسه “الحر”، لتعود على يديه مرة أخرى إلى عبودية الارتهان لمصالح الاستعمار الجديد وسياسات الهيمنة والاستحواذ التي ينتهجها مع الكثير من الدول الضالة التي تبحث عن الاستقرار والأمن والكفاف دون جدوى.
فشلت هاييتي في تحقيق ذلك رغم مليارات الدولارات التي أنفقتها الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية عليها تحت شعار تحقيق إيقاف الصراع وتحقيق الاستقرار والدعم الإنساني والتنموي.
يتبع “هاييتي.. صراع المصالح الكبرى”
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.