قدّمت مؤخرا لجنة من الخبراء الفرنسيين تقريرا لعمدة باريس يحذرون فيه من أن المدينة ستكون غير قابلة للعيش سنة 2050 نتيجة ارتفاع الحرارة في الصيف إلى ما فوق 50 درجة مئوية، مما سيؤدي لذوبان أسفلت الشوارع وضرر فادح في أسلاك الكهرباء والإنترنت واستحالة السكن في الطوابق العليا في كل العمارات.. إلخ.
تصوروا ما ستكون عليه أوضاع الناس في مدن مثل بغداد والقاهرة والقيروان وقسطنطينية (إسطنبول) ومراكش. أما مدن مثل طنجة ووهران وسوسة والإسكندرية وبيروت وطرطوس فمشكلتها مضاعفة لأن ارتفاع مستوى البحر قد يغرق الساحات الكبرى وسط المدينة.
ضع مثل هذه الحالة في إطار جائحة العطش والصراع على الماء داخل البلد الواحد وبين البلدان، مع نقص فادح في القمح الصلب والقمح اللين نتيجة الجفاف وانهيار الزراعة، والنتيجة كارثة تتهدد حياة مئات الملايين.
حتى دول الخليج الغنية لن تستطيع شيئا أمام الكارثة المناخية التي ستجعل بلدانها هي الأخرى غير قابلة للسكن قبل الخمسين سنة المذكورة. من أين لها تكييف الهواء في الشوارع أو حتى تحمل فاتورة تهوية عمارات سيتضح كم كانت بعيدة عن ملائمة تبعات التحول المناخي؟
نتصور الهجرات المناخية الجبارة المقبلة للفقراء فقط، والحال أنه يجب توقع هروب ملايين العرب الأثرياء أو من الطبقة الوسطى ثلاثة أرباع السنة لبلدان ما زال يمكن المشي في شوارعها ليلا.
أضف الآن لهذا الخطر الداهم تبعات الثورة المعلوماتية وخاصة الذكاء الاصطناعي، أي استفحال تبعيتنا العلمية التكنولوجية.
لا تنسى في قائمة المصائب والكوارث تزايد الفقر والبطالة وانهيار الطبقة الوسطى وتتابع الثورات والثورات المضادة، وتحول بلداننا إلى ساحات حروب بالوكالة كما هو الحال الآن في ليبيا والسودان واليمن وسوريا ولبنان، مما يعني أن الأهوال التي يعرفها الشعب السوري ليست حالة شاذة كما نوهم أنفسنا، وإنما هي أولى الحلقات في سلسلة انهيار أمة بأكملها.
مثل هذه المشاكل المرعبة تتطلب أدوات سياسية على مستوى ما تطرح من تحديات، وفي غياب الأدوات الملائمة -فما بالك إن كانت من النوع الذي يفاقم المشاكل المطلوب حلّها- تكون النتيجة معروفة مسبقا.
لنستعرض الشرط الهيكلي الأول الذي من دونه لا حلول للمشاكل وإنما كمّ هائل من مشاكل للحلول. ولنترك السياسات والبرامج لوقت لاحق.
أولوية الأولويات وأشد ما تحتاجه جل شعوبنا -إذا استثنينا البلدان الخليجية- هو النمو الاقتصادي لكي يجد عشرات الملايين من شباننا أبسط فرص العيش، وأيضا حتى لا يتسارع انهيار الطبقة الوسطى ويعمّ الفقر كما هو الأمر حاليا.
ما الشرط الأول الذي يجب توفيره حتى تستطيع الآلة الاقتصادية التحرك والنمو؟
أول الشروط وأكثرها أهمية بلا نقاش هو الاستقرار السياسي
إذا تمعنّا في تاريخنا القديم والمعاصر فسنجد أنه كان العنصر الغائب على الدوام إلا في فترات متقطعة كان يفرض بالقمع، متخذا شكل استقرار المستنقعات أو البراكين التي تغلي مراجلها بصمت ولا أحد يعرف متى تنفجر تحت أقدام الراقصين على أفواهها.
السبب الأساسي لعدم الاستقرار المزمن هذا هو الصراع على سلطة تفتك منذ بداية تاريخنا بالعنف وتمارس بالعنف وتنتقل بالعنف.
النتيجة ما نعانيه اليوم من استنزاف طاقات المجتمع بالقمع وهجرة العقول، وتبوئ أنصار النظام -غير الأكفاء- مقاليد السلطة، وانتشار الفساد، وتعطل الآلة الاقتصادية أو قصر منافعها على أقلية.
أي قدرة لمثل هذه المجتمعات التي تمرّ من استقرار مزيّف مفروض بأشد أنواع القمع، إلى فوضى الثورات والثورات المضادة، على توجيه طاقاتها العلمية والاقتصادية لمحاربة التصحر والعطش والفقر والبطالة والهجرة المكثفة لأدمغتها؟
وحدها الانتخابات الديمقراطية أثبتت في كل بلدان العالم قدرتها على إنهاء الصراع الدموي على السلطة، ومن ثم توفير الشرط الهيكلي للاستقرار السياسي.
كيف؟ إنها عبقرية الديمقراطية التي استطاعت نقل الصراع من المستوى المادي إلى المستوى الرمزي -بالضبط كما تفعل الرياضة أو لعبة الشطرنج- أي تنظيم حرب رمزية اسمها الانتخابات تضمن التمكن من السلطة وممارستها والخروج منها دون سفك الدماء وإهدار طاقات المجتمع. هكذا استطاعت البلدان الديمقراطية ضمان السلم المدني داخلها وتوجيه طاقاتها للبناء في إطار استقرار حقيقي غير مبني على القمع ومؤهل في كل لحظة للانفجار، بينما بقينا نحن في ظل الدكتاتوريات نواصل الصراع العبثي والمكلف نفسه.
مثل هذا الاستقرار السياسي المستدام غير ممكن حاليا خارج نظام ديمقراطي وحده القادر على تحقيق الشروط الثلاثة الأخرى الضرورية لإنقاد أمة منكوبة لم ينكبها أحد رغم كل معاذير التافهين والضعفاء بقدر ما نكبت نفسها بنفسها.
-
شعب من المواطنين
أكثر ما يشدّ الانتباه في طريقة التعامل مع ظاهرة الاحتباس الحراري في البلدان الغربية أن الاحتجاجات انطلقت من بين صفوف شباب وحتى مراهقين (نموذجا السويدية Greta Thun berg المولودة عام 2003 التي قادت ولا تزال ثورة شبابية عالمية ضد سياسات تضر بالمناخ)، وأن المبادرات المواطنية اليوم للاحتجاج والبحث عن البدائل لا تتوقف. كل هذا لأن أغلبية الشعب في بلدان مثل البلدان الإسكندنافية مكونة مما أسميه “شعب المواطنين”، وتعريفه بأنه الجزء من الشعب الذي لا يسلّم في أي من حقوقه السياسية والاجتماعية والثقافية مهما تعرض له من عنف من طرف الدولة، ولكنه يضطلع بواجباته المدنية والسياسية دون أدنى إكراه.
العكس بالضبط هو الموجود عندنا. فأغلبية شعوبنا مكوّنة من رعايا أي من أشخاص تخلوا عن جلّ حقوقهم السياسية والاجتماعية خوفا من القمع، وينتقمون لانتهاك حقوقهم بعدم الاضطلاع بواجباتهم إلا بأكبر قدر من الإكراه.
من البديهي أن كل الشعوب مزيج من المواطنين والرعايا حتى في أكثر البلدان تقدما. لكن الثابت أن في البلدان الديمقراطية توجها عاما، بفضل التعليم الجيد والإعلام التعددي وممارسة الحريات خاصة حرية التنظيم، نحو تزايد عدد المواطنين وتراجع نسبة الرعايا. على عكس الموجود عندنا.
إن أكبر جرائم الاستبداد، بسبب التعليم الرديء والإعلام الفاسد والقدوة السيئة للحاكم والتصدي للحريات، أنه حارب تبلور وتوسع شعب المواطنين ليسهر على خلق وتوسع شعب الرعايا.
لن يقدر أي نظام في المستقبل على مواجهة معارك البقاء بشعب تعلم الاتكال على السلطة واللامسؤولية والسلبية وانتظار “المخلّص من الانقلاب” المقبل و”الراعي الصالح” الذي ستجود به الأقدار. وأن تقوم أدنى مبادرة أو مشاركة فعلية في حلّ مشاكل المجتمع الحالية والتي تترصد بنا، والرعايا وعقليتهم أكبر جزء من المشكل، فكيف يكونوا جزءا من الحلّ؟
2. دولة القانون والمؤسسات
هل تقدر دولة فاسدة مستبدة يتحكم فيها شخص وعائلته على استنفار شعبها لمواجهة تبعات الكارثة البيئية، أو التصدي لفقدان مقومات الاستقلال والحرية والتقدم الاقتصادي؟
لقد أظهرت كل تجاربنا، وآخرها دمار العراق وسوريا وليبيا، واليوم ما نراه في روسيا، كم من الحمق والمغامرة الطائشة وانعدام المسؤولية أن يربط شعب بأكمله مصيره بأهواء شخص واحد يمكن أن يخطئ ككل البشر أو أن يكون غير سويّ أو غير كفؤ.
وحدها دولة القانون والمؤسسات قادرة على حماية شعوبنا من هذا الخطر الداهم الذي اسمه الحكم الفردي، ناهيك عن قدرتها على التعامل بالحد الأدنى من الفعالية مع مشاكل المجتمع، لا لشيء إلا أن فيها مقومات التشهير بالأخطاء مثل الصحافة الحرة والقدرة على محاربة الفساد عبر القضاء المستقل.
إذا تمعنّا في تاريخنا الحديث فسنجد أنه سلسلة متواصلة من الفشل في إدارة شؤون الدولة أساسا نتيجة تجمّع كل السلطات بيدي شخص واحد وشلّة محيطة به تتحكم في أجهزة غير مسؤولة إلا تجاهه. كيف يمكن لمثل هذه الدولة مواجهة مشاكل متصاعدة التعقيد؟ فما بالك بالتصدي لتحديات غير مسبوقة!
3. اتحاد شعوب عربية حرة
لم تشهد منطقتنا حالة من التشرذم والتمزق والتفرق كالتي تُعرَف حاليا، مما يجعل من شعوبنا لقمة سائغة لكل من هبّ ودبّ. كم من دول عربية تدّعي الاستقلال وهي تحت الوصاية المباشرة لدول إقليمية، مثل سوريا والعراق ولبنان واليمن؟ كم من دول على حافة الإفلاس مثل مصر وتونس؟!
كم من دول تستطيع الادعاء بأنها قادرة على الحفاظ على سيادتها ومستواها المعيشي المرتفع، مثل دول الخليج، وهي مكونة بـ80% من الأجانب، وخاصة من الآسيويين والهنود تحديدا؟ ربّما يجب التذكير هنا أن بلدان الخليج حُكمت في القرن التاسع عشر من قبل التاج البريطاني من مدينة “بومباي” الهندية. فهل يعيد التاريخ نفسه يوم تصبح الهند قوة عظمى، ويصبح مواطنوها يطالبون بحقوقهم السياسية، وليس فقط الاقتصادية، في البلدان التي يعتبرون أنها تدين لهم بازدهارها؟
بديهي أن مثل هذه الدول التي تتخبط في تبعات الثورات والثورات المضادة، والتي تفقد كل يوم مزيدا من مقومات الاستقلال، أعجز من أن تواجه “التسونميات” المقبلة، اللهم إلا إذا عاد مشروع الاتحاد بين دول لا تستطيع البقاء ومواجهة المستقبل دون شكل أو آخر من الوحدة.
انظر لخارطة العالم، وسترى أن خارطة الاندماج الحقيقي وليس على الورق هي خارطة الدول الديمقراطية سواء في أميركا الشمالية والجنوبية أو في أوروبا. انظر لحالة التشرذم في الوطن العربي، وستفهم لماذا سيبقى الاتحاد المغاربي في غرفة الإنعاش طالما لم تبن في دوله الخمس أنظمة ديمقراطية حقيقية؟
ما لم يفهمه القوميون العرب على امتداد خمسة عقود أن الأنظمة الدكتاتورية لا تتحد بينها ولو كانت من صلب أيديولوجيا واحدة مثل بعث سوريا والعراق. حيث لا يرضى كل دكتاتور إلا بحكمه المطلق على مزرعته الوطنية، ولا يفهم الوحدة إلّا سبيلا لتوسيع رقعة هذه المزرعة، وهو ما يجعله يصطدم بالرؤية الشبيهة المعاكسة لدكتاتور آخر، مما ينجرّ عنها تمزيق الأمم والشعوب والدخول في صراعات مدمّرة.
ولنا في تاريخ أوروبا الحديث أحسن مثال، حيث لم تبن أوروبا وحدتها بعد الحرب العالمية الثانية إلا عند انهيار الدكتاتوريات النازية والفاشية والشيوعية. ذلك لأن الأنظمة الديمقراطية لا تتحارب بينها ولا يضيرها في شيء التقارب والتنسيق والتشارك. وهو ما يعني أنه لا مجال لفضاء عربي مشترك مثل الذي صنعته أوروبا دون أن نمرّ نحن أيضا بنهاية الأنظمة الاستبدادية واستبدالها بأنظمة ديمقراطية.
نعم لكن أي نوع من الديمقراطية نريد تسويقه للأجيال القادمة من السياسيين والمثقفين والفاعلين في كل المجالات؟
الديمقراطية العراقية أم اللبنانية أم تلك التي كرهها التونسيون عقب الثورة وفضلوا عليها الارتماء في أحضان الشعبوية، حتى ولو كان الدواء أمرّ من الداء؟
ثم هل ما زال جديا الحديث عن الديمقراطية في ضوء انحسارها في العالم وثبوت نجاح النموذج الصيني في محاربة الفقر والتخلف والتبعية بل واقتراب القوة الصاعدة الثانية أي الهند من نموذج الصين تحت حكم تشي جين بينغ وهي “تتخفف” تدريجيا من ديمقراطيتها تحت حكم مودي واليمين الهندوسي المتطرف؟
الحلقة القادمة: عن أي ديمقراطية تتحدثون؟
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.