الفوز المزدوج بالرئاسة وأغلبية البرلمان للرئيس التركي وتحالفه يحمل معنى تجديد الشرعية الانتخابية له لقيادة البلاد ولاية إضافية، لكنه لا يعني بالتأكيد حل المشاكل والتحديات التي تواجه البلاد، إذ ثمة ملفات أساسية ما زالت تحتاج للتعامل معها، بل لعل الانتخابات الأخيرة أضافت تحديات جديدة أمام الرئيس وحزبه الحاكم.
تحديات سابقة
كانت الانتخابات الأخيرة الاستحقاق الانتخابي الأصعب الذي واجهه أردوغان وحزبه منذ تأسيسه عام 2001 وتسلمه حكم البلاد في أول انتخابات يخوضها في نوفمبر/تشرين الثاني 2002. ولعله ليس من قبيل المبالغة القول إنه باستثناء المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، فإن الانتخابات الأخيرة كانت التحدي الأكبر الذي واجهه الحزب خلال العقدين الماضيين، إذ كانت ثمة فرصة معقولة لأول مرة للمعارضة بأن تفوز بالرئاسة وكذلك أغلبية البرلمان.
هناك سببان رئيسان لهذا الاختلاف الجوهري للانتخابات الأخيرة وحساسيتها؛ الأول طول فترة حكم أردوغان والعدالة والتنمية، بكل ما يصاحب ذلك من ضعف وترهل وتراجع في الأداء بالنسبة للحزب، ومطالب التغيير والتجديد ورفع سقف التوقعات بالنسبة للشعب. والثاني يتمثل في التحديات والمشاكل التي كانت تعانيها البلاد قبل بدء مسار الانتخابات وخلاله.
إذ لم تكن المؤشرات الاقتصادية في أفضل أحوالها في السنة الأخيرة على وجه التحديد، فبلغ التضخم مستوى قياسيا وارتفعت الأسعار وتراجعت الليرة وضعفت القوة الشرائية. صحيح أن الحكومة حاولت تخفيف الضغط عن المواطنين بزيادة الإنفاق الحكومي وتقليل الجباية، إلا أن الاقتصاد بقي بالتأكيد التحدي الأصعب في وجهها والورقة الأقوى بيد المعارضة.
كما مثّل ملف الأجانب -وخصوصا السوريين منهم- خاصرة رخوة للحكومة، حيث تبنت المعارضة التقليدية وكذلك بعض التيارات العنصرية خطابا ركز عليه بشكل لافت، وهو ما اضطر الرئاسة للإعلان عن مشروع لإعادة مليون سوري بشكل طوعي وآمن للشمال السوري إضافة لإجراءات أخرى.
وفوق كل ذلك، أتى زلزال فبراير/شباط بتكلفة بشرية واقتصادية فادحة كان من الصعب لأي حكومة تجنب دفع جزء من فاتورتها. وأخيرا، فقد أجريت الانتخابات الأخيرة في ظل منظومة جديدة من التحالفات، إذ ضمت المعارضة لأول مرة أحزابا شبيهة بالعدالة والتنمية وترأسها قيادات سابقة فيه، ومن ثم قادرة على السحب من رصيده الجماهيري والانتخابي، وهو أمر لم يواجهه الحزب الحاكم سابقا.
سيكون التحدي الأبرز لأردوغان والعدالة والتنمية على المدى البعيد هو مسألة خلافته في الرئاسة على وجه التحديد، وربما الحزب كذلك، إذ هذه هي الولاية الدستورية الأخيرة له
تحديات لاحقة
مع انتهاء الاستحقاقات الدستورية مثل اختيار الحكومة وأدائها اليمين وانتخاب رئيس البرلمان، تلتفت الأنظار للتحديات الرئيسة المستمرة في البلاد، وفي مقدمتها الاقتصاد. وقع اختيار أردوغان على الوزير الأسبق ذي المصداقية في الخارج محمد شيمشك لوزارة الخزانة والمالية، ومن ثم إدارة الملف الاقتصادي. وبالنظر إلى أنه عقد معه عدة اجتماعات -قبل الانتخابات وبعدها- قبل أن يوافق الأخير على الوزارة، يمكن التوقع بأنه حصل على تفويض بتطبيق سياساته الاقتصادية.
ليس واضحا بعد إذا ما كان التفويض كاملا، أم وصل الطرفان لحل وسط، وليس واضحا ما إذا كان سيُمنح الفرصة كاملة وعلى مدى طويل أو سيتدخل أردوغان في نقطة ما، لكن الأكيد أن تعديلات مهمة ستطرأ على إدارة الملف الاقتصادي. وقد تابعنا الإشارات الأولى على ذلك، مثل تصريح الوزير عن حاجة تركيا “لسياسات اقتصادية عقلانية” واختياره محافظة المصرف المركزي وتراجع الليرة نسبيا مؤخرا.
من نافلة القول إن معالجة مشاكل الاقتصاد ليست بالأمر اليسير ولا يمكن الوصول لها بسرعة، وهو ما أكده شيمشك نفسه الذي أشار إلى “حاجته للوقت” لإخراج الاقتصاد من أزمته. لكن في العموم، يمكن القول إن الرئيس التركي قد انتهج في السابق سياسات اقتصادية ومالية لتخفيف وطأة الأوضاع الاقتصادية على المواطنين، ومن ثم تعظيم فرصه في الانتخابات، بينما يبدو الآن بعد تجاوز الاستحقاق الانتخابي أكثر انفتاحا على سياسات مختلفة تسعى لمعالجة المشاكل البنيوية في الاقتصاد.
ورغم مرور أشهر عليها، ما زالت كارثة الزلزال ذات أولوية قصوى في البلاد، من الناحية الإنسانية أولا والسياسية ثانيا، إذ قدم أردوغان وعدا واضحا بإعادة إعمار المناطق المتضررة ومحددا بزمن مداه عام واحد فقط، ومن الناحية الانتخابية كذلك إذ سيكون أداء الحكومة في هذا الملف تحديدا عاملا مهما في الانتخابات البلدية المقبلة.
الانتخابات البلدية في حد ذاتها أحد أهم تحديات المرحلة المقبلة للعدالة والتنمية والرئيس أردوغان، إذ كانت حاضرة في خطابه ليلة ظهور النتائج وتكرر حضورها في تصريحاته منذ ذلك الوقت. وكان تركيز أردوغان واضحا على فكرة استرداد بلدية إسطنبول على وجه الخصوص من المعارضة، إذ كان حزبه قد خسرها مع مدن أخرى، في مقدمتها أنقرة في الانتخابات المحلية الأخيرة عام 2019.
لن تكون المواجهة القادمة في البلديات سهلة على العدالة والتنمية، وهذا ما تقوله نتائج الانتخابات الأخيرة التي أظهرت استمرار تراجع تأييد العدالة والتنمية من جهة، وتقدم كليجدار أوغلو على أردوغان في عدد من المدن الكبرى -بأصوات تحالفه وداعميه- من جهة ثانية.
وبالتالي، سيكون على العدالة والتنمية أن يقدم مرشحين أقوياء -وهو المتوقع- وأن يدير حملة انتخابية ناجحة، فضلا عن رهانه على تفتت تحالف المعارضة قبل الانتخابات البلدية، أو عمله على ذلك.
على المدى البعيد، ثمة 3 تحديات رئيسة ماثلة أمام الرئيس التركي، أولها إعادة هيكلة حزب العدالة والتنمية نفسه ليتناغم مع التعديلات والتغييرات في الحكومة البرلمان ومؤسسة الرئاسة من جهة، ويرسل للشارع رسالة ضمنية بالتجاوب مع نتائج الانتخابات المقبلة من جهة ثانية، ويكون قادرا على الاستعداد للانتخابات المحلية المقبلة من جهة ثالثة، وبالتأكيد ليحافظ على فرصه ووجوده في مشهد الحكم في الانتخابات التشريعية المقبلة عام 2028، خصوصا أنه سيخوضها على الأغلب من دون عامل أردوغان المرجّح لكفّته.
وأما الثاني فهو إعداد دستور مدني جديد للبلاد ليحل مكان الدستور العسكري المقر عام 1982 وما زال مطبقا حتى اليوم رغم التعديلات الكثيرة التي تعرض لها قبل العدالة والتنمية ومعه. لا يملك تحالف الجمهور الحاكم أغلبية في البرلمان (الثلثين) تؤهله لإقرار الدستور، ولا حتى لعرضه على استفتاء شعبي (%60)، ومن ثم فهو يحتاج لدعم المعارضة له في هذا المسعى. ولئن كان مستبعدا أن يقدم الشعب الجمهوري دعما في هذا الإطار، إلا أن العشرات من نواب الأحزاب الصغيرة المتحالفة معه -وفي المقدمة منها الأحزاب المحافظة- يمكن أن تدعم مشروع دستور جديد لا سيما إذا ما أرضتها صياغته، أو تعديلات على النظام الرئاسي الحالي على أقل تقدير.
أخيرا، سيكون التحدي الأبرز لأردوغان والعدالة والتنمية على المدى البعيد هو مسألة خلافته في الرئاسة على وجه التحديد، وربما الحزب كذلك، إذ هذه هي الولاية الدستورية الأخيرة له. ومن اللافت للنظر أن الأمر لم يكن مطروحا حتى اللحظة في أروقة الحزب الحاكم، ولذلك كانت التقييمات السابقة تعزى لباحثين وصحفيين يبحثون في الشخصيات القوية في الحزب والحكومة، وبالتالي الشخصيات “المحتملة” لخلافته.
بعض المؤشرات الأولية تشي بأن الأمر كان في بال الرئيس على الأغلب وهو يختار مرشحي حزبه للبرلمان ثم أعضاء الحكومة الجديدة. فإخراج كل من وزير الدفاع خلوصي أكار ووزير الداخلية سليمان صويلو من الحكومة لعضوية البرلمان فقط، حتى اللحظة في انتظار إعادة هيكلة الحزب، واختيار نائب رئيس الحزب نعمان قورتلموش لرئاسة البرلمان، مقابل دخول رئيس جهاز الاستخبارات السابق هاكان فيدان عالم السياسة من باب وزارة الخارجية، لا تبدو مجرد سلسلة من المصادفات بخصوص الشخصيات القوية في الحزب والحكومة.
وفي العموم، كخلاصة، يبقى الاقتصاد الملف الأكثر حضورا بالنسبة للشارع والحكومة الجديدة، وذا الأولوية على غيره من الملفات، بل والمفتاح الأهم لقياس مدى نجاح الرئيس والحكومة في الملفات الأخرى وفرصه فيها، لا سيما الانتخابية منها.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.