أصالة وشاعرية مترجمة من العربية.. مقتطفات أدبية باللغة الإيطالية تحلق بالقصة القطرية للعالمية | ثقافة


باريس- تحت عنوان “ميلاد جديد.. قصص من قطر” صدرت في العاصمة الإيطالية روما في مايو/أيار الماضي أول نصوص مقتطفات أدبية (أنطولوجيا) للقصة القصيرة القطرية باللغة الإيطالية لتحلق بها من المحلية إلى العالمية.

المقتطفات الأدبية التي جاءت ضمن سلسلة “أصوات من الخليج” التي تصدرها جامعة الدراسات الدولية بروما المعروفة باسم “أونينت”، بالتعاون مع وزارة الثقافة القطرية، خصصت أول كتبها لترجمة القصص القطرية للغة الإيطالية، إيمانا منها بأهمية السرد القطري وتنوعه، وبالثراء الثقافي في منطقة الخليج العربي التي تعنى بها هذه السلسلة المتميزة.

وتحتوي هذه المقتطفات -التي أشرفت عليها أستاذة الأدب العربي في جامعة الدراسات الدولية بروما نجلاء كلش- على 17 قصة قصيرة، لأجيال وحساسيات إبداعية مختلفة من الكتاب القطريين، بدءا بجيل الرواد مثل إبراهيم صقر المريخي ويوسف النعمة، ومرورا بجيل الوسط الذي تميز بالنضج وظهور الصوت النسوي، مثل الكاتبة كلثم جبر الكواري التي تعد أول امرأة نشرت مجموعة قصصية في قطر عام 1978، وآمنة محمود الجيدة وفاطمة التركي وعائشة إبراهيم، وصولا إلى المرحلة الثالثة وجيل الشباب التي بدأت منتصف التسعينيات، ونذكر منهم الكاتب جمال فايز.

جانب من الندوة التي انتظمت بجامعة روما للاحتفاء بصدور أنطولوجيا القصص القطرية المصدر : Università degli Studi Internazionali di Roma - UNINt
جانب من الندوة التي نظمت بجامعة روما للاحتفاء بصدور أنطولوجيا القصص (جامعة الدراسات الدولية بروما)

من الشفوي إلى المكتوب

وأسهمت عدة أسباب وتحولات وديناميات تاريخية وثقافية واقتصادية مهمة عرفتها قطر في النصف الثاني من القرن العشرين في تسريع ظهور القصة القصيرة في المجتمع القطري والخليجي بصفة عامة، وانتقال ثقافة الحكي من المخيال الشعبي الشفوي إلى السرد المكتوب.

حيث اتسمت الحياة بالبساطة البدوية والاقتصاد التقليدي المعتمد أساسا على التجارة وصيد اللؤلؤ، ثم أدت طفرة النفط والغاز الطبيعي إلى تحول المجتمع الرعوي القطري إلى مجتمع حضري، وظهرت المدن وتطورت بشكل متسارع؛ مما أدى إلى تطور الكتابة السردية وترسيخ ثقافة التعبير من خلال القصة القصيرة، أليس فن القصة و”الرواية ابن المدينة”، حسب تعريف الناقد جورج لوكاتش.

وفي هذا السياق، يقول أستاذ الأدب العربي في جامعة قطر عبد الحق بلعابد -في مقدمة المختارات الصادرة بالإيطالية- “إذا رجعنا إلى بدايات القصة القصيرة في الأدب القطري نجدها حديثة الولادة في الأدب القطري، وظهرت نتيجة تحولات اجتماعية وثقافية مرت بها قطر بعد اكتشاف النفط وما أحدثه من تغير وتحول ونمو. ووفق كثير من النقاد، فإن البداية الفعلية والجادة للقصة القصيرة في قطر كانت مع بداية السبعينيات من القرن الماضي، وتحديدا عام 1970”.

وألقت هذه التحولات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة للمجتمع القطري بظلالها على المواضيع المطروقة والأساليب الفنية للكتابة في القصص القصيرة القطرية المضمنة في هذه المختارات، فترددت مواضيع مثل الصراع بين الأجيال والمراوحة بين التقاليد والتراث والأصالة وبين الحداثة والمعاصرة.

كمائن النص الأصلي

وقالت الدكتورة نجلاء كلش إن العنوان الرمزي “ميلاد جديد” الذي وقع اختياره لهذه المختارات مستوحى من قصة “ميلاد جديد” للكاتبة المبدعة كلثم جبر الكواري، التي تعد أول امرأة قطرية نشرت مجموعة قصصية في قطر عام 1978 بعنوان “أنت وغابة الصمت والتردد”، وهذه الرمزية مهمة للغاية لأن الأدب القطري “ولد من جديد” وازدهر تحديدا عندما زادت المشاركة الإبداعية للكاتبات القطريات، خاصة خلال فترة الثمانينيات.

وأضافت كلش -في حديثها للجزيرة نت- أن “رمزية العنوان مرتبطة كذلك بازدهار البلد بفضل الطفرة الاقتصادية التي غيرت الواقع. لقد “ولدت” دولة قطر من جديد وشهدت تطورا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا كبيرا، واستطاعت في  الوقت نفسه أن تحافظ على تقاليدها وأصالتها العميقة. وجاء غلاف المختارات في هذا السياق من خلال الصورة الرمزية التي تجمع المواءمة والمزاوجة الجميلة بين الماضي (مراكب الصيد التقليدية) والحاضر (الأبراج)”.

الدكتورة نجلاء كلش المشرفة على ترجمة الأنطولوجيا والناشر فابريزيو بجاتي من دار نشر جامعة أونينت بروما
الدكتورة نجلاء كلش والناشر فابريزيو بجاتي من دار نشر جامعة أونينت بروما (جامعة أونينت)

وعن المقاييس الفنية التي اعتمدتها لاختيار القصص المترجمة في الأنطولوجيا، أوضحت أستاذة الأدب العربي في جامعة “أونينت” أنها أجرت بحثا علميا خاصا مكنها من التعرف على أهم الكتاب القطريين الأكثر حضورا في المشهد الأدبي المحلي والخليجي والعربي، ومن ثم تحديد القصص القصيرة المتميزة أسلوبيا وفنيا لكل مبدع.

أما بالنسبة للتقسيم الفني للمختارات التي تحتوي على 17 قصة قصيرة وتجمع 14 مبدعا قطريا، فلفتت إلى أن ترتيب القصص جاء حسب تاريخ نشرها في الساحة بدءا من الأقدم (عام 1978) ووصولا إلى الأحدث في العقد الأول من القرن 21 تقريبا. ونوهت إلى أن مشروع ترجمة المختارات حاول منح القارئ الإيطالي لمحة عامة متنوعة قدر الإمكان عن القصة القصيرة في قطر من أجل فهم تطورها.

وشددت في الوقت نفسه على أن الساحة الأدبية القطرية ثرية وتتطور كل يوم، لذلك من الضروري ترجمة المزيد من المختارات لمواصلة اكتشاف هذا العالم السردي والأدبي غير المكتشف في إيطاليا، لأن كتابا واحدا لا يستطيع أن يأتي على كل الإنتاج الأدبي في قطر.

بدوره، أشار فرانشيسكو ليجيو المترجم وأستاذ الأدب العربي والترجمة بجامعة الدراسات الدولية بروما “أونينت” بهذه التجربة معتبرا أنها كانت فرصة جميلة له ليتعرف على عينة مهمة من الأدب القطري المعاصر.

الدكتورة نجلاء كلش المشرفة على ترجمة المختارات رفقة رئيس جامعة الدراسات الدولية بروما الأستاذ فرانسيسكو ماتي بون المصدر : Università degli Studi Internazionali di Roma - UNINT
الدكتورة نجلاء كلش رفقة رئيس جامعة الدراسات الدولية بروما الأستاذ فرانسيسكو ماتي بون (جامعة أونينت)

وأوضح ليجيو -الذي أسهم في ترجمة 5 قصص من هذه المختارات- أن هذه القصص أشبه بوميض البرق في الليلة الدهماء عندما يأتي ضوؤه على عوالم سردية فردية تستدعي اهتماما خاصا، وشيئا من الإتقان لتطويع لغة المترجم للمعايير المتعددة التي يطبقها كل مؤلف في هذه المختارات.

وقال أستاذ الأدب العربي في جامعة “أنينيت” للجزيرة نت “لقد تعرضت إلى ما يشبه المطبات والعقبات في بعض القصص التي ترجمتها، مثل قصتي “السد” لدلال خليفة و”الخطوة الأخيرة” لأم أكثم، اللتين كتبتا بتنقيط وإيقاع وأسلوب خاص تأثرا بما كان سائدا في سبعينيات القرن الماضي من نزوع إلى التجريب في الكتابة وإيجاد طرق تعبيرية بديلة وهجينة مثل قصيدة النثر في الشعر مثلا. وفي هذا السياق حاولت أنا أيضا كمترجم أن أجرب لأصل إلى الطريقة المثلى في نقل معاني القصص إلى القارئ الإيطالي”.

وخلص ليجيو إلى أن هذه العملية التي تتراوح بين الترجمة من جهة والتأويل من جهة أخرى، تمثل جانبا أساسيا من روعة حرفة المترجم التي تكمن في هذه الفخاخ التي ينصبها النص الأصلي له لعله ينجو منها ويخرج سالما غانما.

الأصالة والشاعرية

من جانبها، أوضحت المترجمة وأستاذة الأدب المعاصر في جامعة “تورينو” بولاندا غواردي أن هذه الأنطولوجيا تعد فرصة كبرى للتعريف بالإنتاج القصصي القطري في إيطاليا بوصفه غير مكتشف ومعروف حتى الآن.

وأضافت غواردي للجزيرة نت “رغم أنني واجهت بعض الصعوبات فإنها كانت تجربة مفيدة ومهمة في الوقت نفسه؛ فالقصص القصيرة التي ترجمتها تمثل تطور الكتابة القصصية في قطر. والعقبة الأساسية تبقى دائما ثراء المفردات اللانهائي للغة العربية، فهي محيط مترامي الأطراف ولا تكفي حياة واحدة لمعرفتها بالكامل، ومع ذلك فإنها تثير في نفسي روح التحدّي والاستمرار وتجذبني أكثر في كل فرصة تسنح لي للقيام بترجمة عمل أدبي مهم من العربية إلى الإيطالية”.

ونوهت غواردي إلى أن من بين أهم خصوصيات الأعمال القصصية القطرية التي ترجمتها أن الكتاب القطريين يكتبون من دون تأثير الأساليب الأجنبية والغربية عليهم، لذلك تتميز أساليبهم ولغتهم بالأصالة والشاعرية، وهذا ما يميز الأدب القطري بوجه خاص والأدب الخليجي بوجه عام، عن أدب البلدان العربية الأخرى التي يظهر عليها تأثير الأساليب الغربية واضحا.

أما المترجمة وأستاذة الأدب في جامعة الدراسات “غبريلي دانونزيو كياتي بيسكارا” فيديريكا بيستونو، فأكدت أنها وجدت تجربة ترجمة الأدب القطري ممتعة ورائعة ومحفزة للغاية، لأنها لم تقم من قبل بترجمة كتاب من قطر، وكان لديها فضول لاكتشاف أدب هذا البلد، غير المعروف كثيرًا في الغرب.

ولاحظت أن مواضيع القصص شبيهة بتلك التي تناولها كتاب خليجيون آخرون، خاصة من المملكة العربية السعودية والكويت. وتتعلق المواضيع الرئيسية بالصراع بين الحداثة والتقاليد ووضعية المرأة. ويختلف المعجم والأسلوب من كاتب إلى آخر، ويعتمد ذلك أيضا على العصر الذي يكتب فيه كل منهم.

فيديريكا بيستونو المترجمة و جامعة الدراسات غبريلي دانونزيو كياتي بيسكارا المصدر : Università degli Studi Internazionali di Roma - UNINt
المترجمة فيديريكا بيستونو (جامعة أونينت)

القصة صنيع أنثوي

والملفت في هذه الأنطولوجيا القصصية هو وجود 9 كاتبات من مجموع 14 كاتبا ترجمت قصصهم، فضلا عن قصص قصيرة لكاتبات قطريات من مختلف الأجيال، وهذا يبرز المكانة الكبيرة التي تحتلها الكاتبة والمبدعة القطرية وريادتها في فن السرد.

وتلخص قصص مثل “الخطوة الأخيرة” و”المكحلة” و”في مخدعي أخرى” زخم القضايا النسوية المطروحة، مثل غرار توق المرأة للاستقلال والزواج القسري وتعدد الزوجات.

وتعود هذه الطفرة الكبيرة في الكتابات النسوية القصصية -حسب كلش- إلى الرغبة القوية للكاتبات القطريات في التعبير عن أنفسهن من خلال الأدب أكثر من الكتاب، فضلا عن الحراك الثقافي الكبير الذي مكنهن من قبول أعمالهن ونشرها في وقت مبكر في قطر من دون قيود، وكذلك المعدل المرتفع للنساء القطريات المتعلمات.

وخلصت المشرفة على ترجمة هذه المختارات في حديثها للجزيرة نت إلى أن القصة القطرية صنيع أنثوي بامتياز مثلما يشير النقاد، ومثلما ذكر ذلك أيضا في مقدمة الكتاب التي كتبها الدكتور عبد الحق بلعابد.

من المحلية إلى العالمية

من جانبه، قال محمد حسن الكواري مدير إدارة الإصدارات والترجمة بوزارة الثقافة القطرية التي كان دورها جوهريا في صدور هذه الأنطولوجيا القصصية؛ إن الوزارة رحبت بهذا المشروع منذ كان فكرة ودعمته، وقامت بالتكفل بكل متطلباته المادية والمعنوية.

وأضاف الكواري في حديثه للجزيرة نت “لا شك أن ترجمة القصص القطرية إلى اللغة الإيطالية سيعرف القارئ الإيطالي بالأدب والثقافة القطرية. كما سيطلع من خلال هذه القصص على الهموم والمواضيع الحارقة في وجدان الكتاب القطريين، ويكون نظرة مباشرة عن الثقافة القطرية والخليجية والعربية، بعيدا عن النظرة النمطية الأخرى التي حصلت له من السماع أو الإعلام أو من وسائل التواصل الاجتماعي”.

وتابع أن الأعمال القطرية السردية فازت بجوائز مهمة ومرموقة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 7 لغات عالمية مثل التركية والألمانية والفرنسية والروسية والإنجليزية.

وخلص المثقف والكاتب القطري إلى أن اللغة الإيطالية يتكلمها الملايين حول العالم، وبالتالي هؤلاء سيطلعون من خلال هذه المختارات القصصية على المجتمعات القطرية والخليجية وما لديها من أدب وأفكار وطموحات وتراث وعادات وخصوصية وهواجس، وهذا سيسهم في انتشار هذه القصص من المحلية إلى العالمية.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post الضرائب: متابعة مستمرة لوزير المالية لكل إجراءات توحيد معايير الأجور والمرتبات
Next post الاشتباكات تتجدد في السودان.. وتحليق للطيران في كردفان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading