القاهرة- “في ليلة الجمعة 9 ربيع الأول 1321 هجرية، الموافق 5 يونيو/حزيران 1903، صار عقد زواج هانم، البنت البكر المراهقة، على المكرم إبراهيم إبراهيم الجزار، على صداق عاجله 6 بنتو وآجله 3 بنتو”.
بالنسبة إلى كثير من المصريين، تبدو قيمة هذا الصداق (أو المهر) غير مألوفة وغامضة، وربما تزداد الحيرة إذا علموا أن القيمة السابقة التي تعادل أكثر من 52 غراما من الذهب الخالص، وردت في وثيقة عقد زواج أُبرم قبل 120 عاما في منطقة شعبية شهيرة في القاهرة، هي منطقة الحسينية بقسم باب الشعرية.
الوثيقة التاريخية التي يمتلكها أحمد حسن، وهو هاوي جمع وثائق مصرية، مع وثائق زواج أخرى، تقودنا في رحلة عبر الزمن إلى نهايات القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20، لنعاين جانبا مهما من مظاهر الحياة الاجتماعية للمصريين في العصر الخديوي.
ويقول حسن للجزيرة نت إن هذه الوثائق تنقل الكثير من الحقائق بشأن أمور الزواج في مصر في تلك الحقبة، وخصوصا قيمة المهور السائدة آنذاك، والتي وصلت في بعض العقود إلى نحو 220 غراما من الذهب الخالص، وهو ما يتجاوز 660 ألف جنيه مصري بأسعار الذهب الحالية في مصر.
وبلغ متوسط سعر غرام الذهب عيار 24 -في ختام تعاملات السبت الماضي- 3028 جنيها (الدولار يساوي رسميا حوالي 31 جنيها)، بينما استقر متوسط سعر الغرام من عيار 21 (الأكثر شعبية في مصر) عند 2650 جنيها، بعدما سجل يوم الجمعة سعرا قياسيا وصل إلى 2800 جنيه.
وبينما يخطف بريق الذهب ألباب الفتيات اللواتي يتطلعن إلى “الشبْكة” (حلي ذهبية يقدمها الخاطب لعروسه وتعد حاليا جزءا من مقدّم المهر)، يؤدي الارتفاع الجنوني في أسعار الذهب، إلى جانب تكلفة تأسيس مسكن الزوجية، إلى عزوف شبان كُثُر عن الزواج.
ودفع الارتفاع الكبير والمتزايد في أسعار الذهب إلى إطلاق عدد من المبادرات للتخلي عن شرط تقديم “الشبْكة” الذهبية أو الاكتفاء بتقديم “شبْكة” رمزية، وكتابة بقية القيمة في ما يُعرف بقائمة المنقولات الزوجية.
عودة إلى الماضي
من بين عشرات الوثائق التي عرضها الهاوي المصري على الجزيرة نت، انتقينا بعض الوثائق التي تظهر تعدد العملات المستخدمة في دفع الصداق، وتحمل مفارقات واضحة في قيمة المهر بين العروس البكر والعروس الثيّب (فقدت زوجها بموت أو طلاق)، واختلافه وفقا لمكانة الزوجين الاجتماعية، ونسبة ما يقدم كعاجل للصداق مقارنة بما يبقى في ذمة الزوج.
أقدم هذه الوثائق تعود إلى 21 محرم 1294 هجرية، الموافق في 4 فبراير/شباط 1877، وتحمل عنوان “ورقة إذن نكاح” صادرة عن المحكمة الشرعية في مركز أبي حمص بمديرية البحيرة، وتوثق زواج الضابط أحمد أفندي غنيم “ملازم ثاني عساكر سواري بجيشخانة مديرية البحيرة”، من مخطوبته مريم المرأة الثيّب بنت المكرم أحمد النعناعي.
وبحسب الوثيقة، فإن عاجل الصداق بلغ 800 قرش عملة فضة بسعر ذلك اليوم، وآجله 400 قرش بالعملة المذكورة، أي أن قيمة الصداق تعادل 1680 غراما من الفضة عيار 0.833 (وزن القرش الفضة في تلك الفترة 1.4 غرام).
المهر الذهبي
بخلاف الوثيقة الأولى، تحوّل الصداق إلى العملات الذهبية في الوثائق الأخرى التي تحمل عنوان “قيد وثيقة عقد زواج” وخاتم “نظارة الحقانية” بتواريخ 1317هـ/ 1899م و1321هـ/ 1903م، وتنوعت بين الجنيه الأفرنكي (الجنيه الإنجليزي) وعملة “البنتو” الذهبية الفرنسية.
ويتماشى هذا التحول مع الأوضاع الاقتصادية لمصر في تلك الفترة، بعد صدور قانون الإصلاح النقدي عام 1885، الذي أقر الجنيه الذهبي المصري عملة موحدة للبلد، وكان وزنه 8.5 غرامات عيار 0.875، أي ما يعادل 7.43 غرامات من الذهب الخالص.
ولكن إصدارات الجنيه المصري في تلك السنوات لم تكن كافية، ليُفتح الباب أمام عملات أخرى للدخول إلى معاملات المصريين، مثل الجنيه الإنجليزي (7.99 غرامات من الذهب عيار 0.9167، أي حوالي 7.32 غرامات من الذهب الخالص)، وحددت له الحكومة المصرية سعر صرف قانونيا يبلغ 97.5 قرشا مصريا (الجنيه 100 قرش).
كما سُمح بتداول عملة “البنتو”، وهي تعادل اللیرة الفرنسیة التي تساوي 20 فرنكا ذهبیا، ويبلغ وزنها في تلك الفترة 6.45 غرامات من الذهب عيار 0.900 (أي حوالي 5.8 غرامات من الذهب الخالص)، وفي بدايات القرن الـ20 قدرت الحكومة المصرية قيمة البنتو بـ77.15 قرشا مصريا على أن يكون تداوله اختياريا، بحسب لطيفة سالم في كتابها “مصر في الحرب العالمية الأولى”.
عاجله وآجله
وتفاوتت المهور في تلك الفترة، فنجد في الوثيقة التي تحمل تاريخ 10 ربيع الأول 1321هـ، أن “محمد أفندي صادق عنبر” الخوجة (المدرّس) بمدرسة قنا دفع 20 جنيها أفرنكيا كعاجل صداق لمخطوبته البكر الست نظلة بنت أحمد أفندي سعيد وأبقى 10 جنيهات كمؤخر صداق (أي أن الصداق يعادل 220 غراما من الذهب).
أما سلامة حسني بن حسني، فقد دفع لوالد مخطوبته زينب بنت سالم -التي تزوجها في 14 جمادى الثاني 1317هـ الموافق في 19 أكتوبر/تشرين الأول 1899- مبلغ 10 جنيهات أفرنكية (73.2 غراما من الذهب) كمقدم صداق وأبقى بذمته مثلها إلى حلول أحد الأجلين (الطلاق أو الوفاة).
وتكرّر مبلغ 12 جنيها أفرنكيا (حوالي 88 غراما من الذهب) كصداق في زيجتين دفع 8 جنيهات منها عاجلا وتبقى 4 جنيهات آجلا في الحالتين: الأولى في محافظة القليوبية في 6 جمادى الثاني 1317هـ الموافق في 11 أكتوبر/تشرين الأول 1899 ودفعها محمد الشاعر بن محمد لمخطوبته الثيّب آمنة بنت سيد مراد من نجع العرب بأسيوط.
والزيجة الثانية كانت في باب الشعرية بالقاهرة في 9 ربيع الأول 1321هـ الموافق 5 يونيو/حزيران 1903، ودفعها حسين علي نوار الدخاخني لمخطوبته البكر هانم إبراهيم ضيف.
وعلى الرغم من تماثل صداق الثيّب آمنة والبكر هانم في الزيجتين السابقتين، فإن دراسات تاريخية عدة تشير إلى أن صداق الثيب كان يقل عن صداق البكر في أحيان كثيرة، وخصوصا إذا تشابهت الظروف الاجتماعية بينهما.
ويظهر ذلك في وثائق حالتين، إذ تزوجتا في يومين متتاليين بالمنطقة ذاتها (الحسينية في باب الشعرية)، وكانت إحداهما بكرا، وهي هانم بنت حسن الوتار والتي حصلت على 6 بنتو عاجل صداق ومؤخره 3 بنتو، بينما تزوجت الثيب صديقة بنت حسن موافي من حسن علي عامر الحلواني على صداق عاجله 3 بنتو وآجله 1.5 بنتو.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.