يسمع يوليوس قيصر طرق بابه في القصر الملكي في مدينة الإسكندرية فيأذن للطارق بالدخول، يلتفت فإذا بحارس يحمل سيدة ملفوفة في بساط تزيحه عنها لتظهر كليوباترا الملكة المعزولة حينئذ عن عرش مصر، والتي تعتذر عن الدخول خلسة بهذه الطريقة إلى القصر لأنه الطريقة الوحيدة التي كانت تضمن لها لقاء القيصر الآتي لتوه من روما. قفز الحوار بينهما من التحالفات السياسية إلى العسكرية ثم إلى الفلسفة والأدب. وكان نواة الزواج التاريخي الكبير بين الإسكندرية جنوب المتوسط وروما شمال المتوسط قبل الميلاد في مسلسل “الملكة كليوباترا”، إخراج تينا غرافي وفيكتوريا أديولا توماس وإنتاج عام 2023.
قبل أيام قليلة منعت السلطات المصرية البعثة الهولندية من الاستمرار في أعمال التنقيب بمنطقة سقارة (جنوبي الجيزة) بسبب إقامة المتحف الوطني للآثار في ليدن بهولندا معرضا فنيا يضم رسوما للحضارة المصرية القديمة بجانب رسوم لأشخاص من ذوي البشرة السوداء
المسلسل بدأ عرضه قبل أسابيع في مايو/أيار 2023 على منصة نتفليكس، وسبقته موجة غضب عارم من المصريين على المستويين الشعبي والرسمي بسبب تجسيد الممثلة البريطانية من أصول أفريقية أديل جيمس دور الملكة كليوباترا، واعتبروا أن الأمر ترويج للمركزية الأفريقية أو الأفروسنتريك على حساب الحقائق التاريخية في عمل يعلن أنه وثائقي مستند إلى آراء خبراء ومتخصصين وليس عملا خياليا، في مقابل رأي المنتجة وراوية نص المسلسل جايدا بينكيت سميث التي ترى أن بشرة كليوباترا ليس أمرا محسوما تاريخيا، وأنه لا دليل على أنها كانت شقراء كما جسدتها الممثلة إليزابيث تيلور سابقا في فيلم سينمائي.
كنت أظن أن المسألة ستنتهي عند عرض المسلسل وإعراب كل طرف عن تحفظاته ورأيه، لكن وجدت أن كرة الثلج بدأت تكبر وتأخذ أبعادا أخرى؛ فقبل أيام قليلة منعت السلطات المصرية البعثة الهولندية من الاستمرار في أعمال التنقيب بمنطقة سقارة (جنوبي الجيزة) بسبب إقامة المتحف الوطني للآثار في ليدن بهولندا معرضا فنيا قدم فيه رسوما تعود للحضارة المصرية القديمة بجانب رسوم لأشخاص من ذوي بشرة سوداء مع استضافة نجوم ملونين مثل النجمة الأميركية بيونسيه وإلباسها اللباس الفرعوني. وربطت معظم وسائل الإعلام بين رد الفعل الرسمي العنيف تجاه الهولنديين وهذا المسلسل والرسالة التي يحملها.
وبعيدا عن النقاش حول دور حركة المركزية الأفريقية (الأفروسنتريك) في إعادة كتابة التاريخ أو حتى لون بشرة كليوباترا بوصفها آخر ملوك الأسرة المقدونية، التي حكمت مصر بعد وفاة الإسكندر الأكبر قبل الميلاد، فإن هذا الجدل العالمي المستمر من بضعة أشهر وتداعياته يشيران بوضوح إلى أزمة معايير إنتاج تمر بها المنصات الرقمية في عصر يسميه الأكاديميون ما بعد عصر البث التلفزيوني.
إحدى سمات هذه العصر هو جلب جودة الصورة السينمائية إلى الشاشة الصغيرة والسيولة الشديدة في التعامل مع المعلومات والحقائق، في مقابل التزام أدبي سابق بين أي قناة تلفزيونية تقليدية ومشاهديها بالفصل الحازم بين ما هو خيالي وما هو واقعي نتيجة التعامل التاريخي مع التلفزيون كمصدر للأخبار والمعلومات في الأساس؛ الأمر الذي تحررت منه المنصات الرقمية، فلا هي مصدر للمعلومات ولا الأخبار.
تحديات ما بعد الصحافة التلفزيونية
يمكن القول بوضوح إن مثل هذه الأزمة لم تنشأ بهذه الطريقة عند عرض عشرات من الأعمال الوثائقية على قنوات محلية وعالمية في أوروبا والولايات المتحدة تتناول الحضارة المصرية القديمة أو حتى القضايا التاريخية رغم التحيزات الغربية التي تطل برأسها كثيرا في البرامج الإخبارية وفي السينما. والسبب بسيط وهو الحرص على مصداقية العمل التاريخي الوثائقي لأنه من مصداقية القناة التي يظهر عليها، وهو أمر لا تهاون فيه.
أتذكر أن أستاذ التاريخ الراحل الدكتور محمد فريد الشيال أخبرني أن شبكة “إتش بي أو” (HBO) الأميركية قد استعانت به مستشارا في إحدى سلاسلها الوثائقية عن الحروب الصليبية. وقد أتى الفريق الإنتاجي من الولايات المتحدة إلى العاصمة البريطانية وخاضوا نقاشات معه حول الشكل الذي يمكن أن يظهر عليه الممثل الذي يؤدي دور صلاح الدين الأيوبي والأقرب لما ورد في الوثائق التاريخية؛ بداية من احتمال لون عباءته، ووصولا لاحتمال ما قد يكون شكل الخاتم الذي يرتديه وفي أي أصبع لتحري أقصى درجات الدقة.
وهذا لا ينفي بالطبع بعض التأثير الأيديولوجي -خاصة اليساري- عند تناول عدد من القضايا التاريخية أو الاقتصادية في بعض الأعمال الوثائقية، لكنه تأثير لا يتجاوز اختيار زاوية المعالجة ولا يتعداها إلى تحريف أو تغيير جوهر الأحداث أو هيئات الأشخاص بشكل يخل بجوهر السعي لإضافة أقصى قدر من المصداقية على العمل.
يمكن أن نعزو هذا الأمر إلى فضيلة الصحافة التلفزيونية التي أنشأت نظاما صارما داخل التلفزيونات منذ انتشار عصر هذا الجهاز خاصة بعد الحرب العالمية الأولى في معظم دول العالم تقريبا. وبسببها أصبح التعامل مع أي مادة معلوماتية على الشاشة يخضع لتدقيق وتحرير لضمان عدم التحريف من جهة وعدم الاستغلال من أجل الدعاية السوداء أو البروباغندا من جهة أخرى. وهو أمر تتفاوت الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية في التعامل معه، وكانت مساحات التباين محصورة في الجانب الخبري السياسي، وبقي الجانب الوثائقي غالبا بعيدا عن هذه التحيزات وأقرب للتعبير عن مبادئ الصحافة التلفزيونية التي هي فرع عن مبادئ العمل الصحفي بشكل عام، والتي تتطلب التدقيق والتوازن والموضوعية.
ووفقا لهذا المبادئ، كانت هيئات تنظيم البث تتلقى شكاوى من الرأي العام حول حدوث أي انتهاك، مثل هيئة تنظيم البث البريطاني (أوفكم) التي تتلقى الشكاوى وتحقق فيها وتعد تقاريرها في هذا الشأن. ولكن المنصات الرقمية -ومنها نتفلكيس- ليست خاضعة لهذه الهيئة؛ وبالتالي فليس على موادها الوثائقية والمعلوماتية أي نوع من أنواع الرقابة، وهو تحديد مناط الأزمة التي نتحدث عنها. وأتصور أن هذه الأزمات ستتكرر حتى يتم الانتباه لهذه الثغرة المهمة في عملية الإنتاج الجديدة التي تقدمت تقنيا بشكل هائل، ولكنها قفزت على عدد من المعايير الصحفية التي لم توضع هباء وإنما وضعت بسبب مشاكل مماثلة قبل عقود.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.