“آلة الفوضى”.. كيف حطمت وسائل التواصل الاجتماعي عقولنا وعالمنا؟ | ثقافة


ماذا صنعت الخوارزميات بحياة الناس؟ سؤال كبير يحاول كتاب -بلغت صفحاته 389 ونشرته دار كويركس البريطانية في 2022- أن يجيب عنه، محللًا دور وسائل التواصل في “تحطيم العالم”، حيث لدى كثير من الناس إحساس غامض بأن وسائل التواصل الاجتماعي ضارة بأذهان الناس وبأطفالهم وبالديمقراطية، بيد أن تأثير هذه الوسائل يتجاوز ذلك، وهو أعمق مما يراه الناس.

“آلة الفوضى” من تأليف الصحفي الأميركي ماكس فيشر، الذي عمل في كبريات الصحف الأميركية، خاصة “نيويورك تايمز” التي غطى لها أحداثًا مختلفة في خمس قارات تقريبًا. والمؤلف صحفي استقصائي، وكاتب عمود صحفي.

اعتمد المؤلف في كتابه ذي العنوان الفرعي، “قصة كيفية تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على عقولنا وعالمنا”، على وثائق مسربة من بعض مؤسسات وسائل التواصل؛ مثل: فيسبوك، وهي وثائق توضح سياسات المنصة، وهي عبارة عن عروض تقديمية “باور بوينت” وجداول بيانات، وردود متناثرة على مسائل “جيوسياسية” معقدة، بالإضافة على كتيبات إرشادية ذات قواعد متناقضة، كما استشهد ببعض الخبراء والأكاديميين والمبلغين عن المخالفات، إلى جانب تحقيقاته الاستقصائية.

وبعد سنوات من العمل الصحفي الميداني الذي غطى مساحات واسعة من العالم، يسعى ماكس إلى سرد القصة المؤلمة والمثيرة للقلق، والمتمثلة في استغلال منصات وسائل التواصل العالمية الشهيرة؛ مثل: فيسبوك وتويتر ويوتيوب، لحالة الضعف النفسي التي تعتري كثيرين.

المعلومات المضللة وإثارة الغضب والخوف

يقول المؤلف، إن هذه المنصات اخترعت الخوارزميات التي تسوق المستخدمين سوْقًا إلى تبني الآراء المتطرفة، وفي أحيان كثيرة إلى ارتكاب أفعال متطرفة كذلك.

يتتبع المؤلف انتشار خطاب الكراهية عبر وسائل التواصل في مناطق كثيرة من العالم، وهو الخطاب الذي تحول إلى أعمال عنف، ويشير إلى العلل التي انتشرت في أجزاء كثيرة من العالم، وبلغت ذروتها أثناء فترة انتشار وباء كورونا، المعروف علميًا باسم (كوفيد 19)، والانتخابات الأميركية في 2020 ثم أحداث اقتحام مبنى “الكابيتول” الأميركي في السادس من يناير/كانون الثاني 2021 من قِبل مثيري الشغب المؤيدين للرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب.

يشير المؤلف إلى أن عمالقة تلك المنصات رفضوا التدخل لمعالجة تلك العلل، بذريعة أن ذلك يتعارض مع حرية التعبير، وشدد على أنهم أحجموا عن التدخل ليس دفاعًا عن حرية التعبير، وإنما حفاظًا على ما يحققونه من أرباح.

ويؤكد المؤلف أن محصلة كل ذلك تمثل في حدوث تحول ثقافي نحو عالم يتم فيه استقطاب الناس، ليس بناء على المعتقدات القائمة على الحقائق، ولكن اعتمادًا على المعلومات المضللة، وإثارة الغضب والخوف.

شرور مروعة

ولا يكتفي المؤلف في هذا الكتاب بما أشار إليه من شرور وسائل التواصل الاجتماعي، وإنما تناول -أيضًا- قصص وحكايات العديد من الأبطال الآخرين داخل هذه المنصات وخارجها، الذين قرعوا ناقوس الخطر، وكشفوا الغطاء عما كان يدور خلف الأبواب المغلقة لتلك الشركات العملاقة.

ويقول المؤلف الذي -غطى أحداث العنف المروعة في سريلانكا وميانمار-، إنه كان شاهدًا على الدور الذي لعبته منصات التواصل؛ مثل: فيسبوك وواتساب ويوتيوب، في إثارة الكراهية وصولًا إلى الإبادة الجماعية.

وبالإضافة إلى وصفه لأعمال العنف المروعة والمثيرة للغثيان، فإن المؤلف ينقل -كذلك- روايات مفصلة عن المعلومات المضللة التي تغذي الكراهية والاتهامات ضد الأقليات.

في كتابه “آلة الفوضى” يعطي المؤلف حيزًا لما سماه بحالة أو نموذج ميانمار، ويتساءل: ما الذي يحدث عندما يتحول مجتمع بكامله فجأة من حياة خالية من وجود منصات وسائل التواصل الاجتماعي، إلى أخرى تسيطر عليها هذه الوسائط بالكامل؟

ويجيب المؤلف عن هذا السؤال بما حدث في ميانمار عندما دخلتها الإنترنت، ويشير إلى خطاب الرئيس التنفيذي لغوغل لمجموعة من الطلاب هناك في 2013 بقوله” الإنترنت سيحدث تغييرًا كبيرًا في حياتكم… وسيكون من المستحيل العودة إلى ما قبل ظهور الإنترنت.. الإنترنت سيضمن لكم أن يصبح التواصل والتمكين هما القانون والممارسة السائدين في بلادكم”.

ويضيف بأن القيادات السياسية في ميانمار سارت على هدى وجهة نظر شميدت سفير “وادي السليكون” إلى البلاد، حتى إن الصحيفة الرسمية هناك كتبت أن، “من ليس لديه حساب على فيسبوك هو شخص يشبه تمامًا من ليس له عنوان منزلي”.

ويقول المؤلف، إن ميانمار قد تحولت وبسرعة إلى بلد متصل بالإنترنت، حيث ارتفعت معدلات الاتصال بالإنترنت في الفترة من 2012  إلى 2015 من أقل من 1% إلى 40%، وكان ذلك وبشكل عام عبر الهواتف الذكية رخيصة الثمن. وقد لعبت كبرى منصات التواصل الاجتماعي -فيسبوك خاصة- دورًا كبيرًا في ذلك، وعبر اتفاقات معينة مع شركات محلية.

“أقليات عرقية خائنة”

يقول المؤلف، إنه أثناء مهمة صحفية إلى ميانمار أوائل 2014 لاحظ أن النقاشات بشأن الأوضاع السياسية في البلاد، قد تحولت إلى منصات التواصل الاجتماعي، خاصة فيسبوك ويوتيوب.

وأوضح أنها كانت نقاشات متطرفة إلى حد كبير، حيث امتلأت تلك المنصات بالخطابات العنصرية وأحاديث نظريات المؤامرة، وأصبح الخطاب الذي يتحدث عن أقليات عرقية خائنة واسع الانتشار.

ويورد المؤلف في كتابه تفاصيل عن دور الراهب البوذي ويراثو، في تفشي خطاب الكراهية عبر منصات وسائل التواصل، وكان هذا الراهب قد أودع السجن سنوات بسبب خطابه الديني المفعم بالكراهية، بيد أنه وجد ضالته في وسائل التواصل بعد إطلاق سراحه ضمن عفو عام في البلاد.

ويقول المؤلف، إن الراهب ويراثو وبعد أن كان يسافر كثيرًا عبر البلاد لإلقاء خطاباته الدينية المثيرة، انضم بسرعة إلى جمهوريتي فيسبوك ويوتيوب، ولم يعُد بحاجة للتنقل من معبد إلى معبد لينشر الكراهية، وأصبح بإمكانه أن يصل دون انتقال إلى مجموعات هائلة من المتابعين لحساباته في فيسبوك ويوتيوب.

وقد استهدف ويراثو الأقلية المسلمة في البلاد، ونشر عنها الشائعات ووجه لها الاتهامات التي لا أساس لها، التي انتشرت كالنار في الهشيم عبر منصات التواصل الاجتماعي.

ويشير المؤلف بأصابع الاتهام في كل ذلك إلى منصات التواصل الاجتماعي، خاصة فيسبوك، ويورد أن أحد الأساتذة في جامعة “ستانفورد” لاحظ انتشار دائرة منشورات فيسبوك التي تحمل مضمونًا يحض على الكراهية، وتواصل مع مديري المنصة الذين أخبروه أن الشركة لا توظّف سوى شخص واحد لمراقبة وضبط المحتوى المنشور باللغة البورمية، وهي اللغة السائدة في ميانمار.

ويقول المؤلف، إن ويراثو بثّ في 2014 منشورات عبارة عن أخبار زائفة، مفادها أن تاجرين مسلمين في مدينة ماندالاي اغتصبا فتاة بوذية، وهي معلومات ثبت عدم صحتها، بيد أنها وجدت طريقها إلى الانتشار لدى قطاعات واسعة من الغوغاء البوذيين.

ولم يكتفِ ويراثو ببث الفتنة- حسب المؤلف- لكنه دعا السلطات إلى ممارسة المزيد من القمع ضد الأقلية المسلمة ومصادرة ممتلكاتهم، وإن لم تقم السلطات بذلك فإن البوذيين سيتولون المهمة، وقد تلقّف الغوغاء تلك الدعوة، وهاجموا جيرانهم المسلمين وقتلوا عددًا منهم، وخرّبوا ديار آخرين.

وأمام هذه الأوضاع -يضيف المؤلف- تواصلت السلطات مع فيسبوك لحظر بث منشورات الكراهية، حتى لا تتسبب في المزيد من العنف والفوضى، لكن باءت محاولاتها بالإخفاق.

ومع استمرار أعمال العنف والفوضى اضطرت السلطات في ميانمار إلى حظر الوصول إلى منصة فيسبوك، الأمر الذي أسهم في تخفيف حدة الاضطرابات العرقية في البلاد.

وبعد أيام من اتصال السلطات بإدارة فيسبوك، ردّت الأخيرة على الاتصال، لا لتقوم بحظر المحتوى المثير للكراهية، ولكن لتحتج على حظر السلطات لمنصتها.

فضيحة مصممة الألعاب

خصص المؤلف حيزًا مقدرًا للحديث عما أسماه ” فضيحة مصممة الألعاب”، حيث يسرد لنا جانبًا خطيرًا من جوانب الفوضى التي تصنعها هذه الآلة المسماة بمنصات وسائل التواصل الاجتماعي.

و”فضيحة فتاة الألعاب” وهو الاسم الذي شاع عن هذه الواقعة في أوساط رواد وسائل التواصل في أميركا والغرب، بدأت بما نشره مبرمج الحاسوب إيرون غوني في مدونته عن علاقته الغرامية السابقة مع مصممة الألعاب الشهيرة كوين، وبلغ حجم المنشور 10 آلاف كلمة وتضمن تفاصيل عن تلك العلاقة، إلى جانب اتهامات بأن كوين قدمت جسمها لكاتب صحفي مقابل أن ينشر مقالات عن أعمالها. وقد وجدت تلك التفاصيل طريقها إلى منصات وسائل التواصل الاجتماعي، ودار بشأنها نقاش تضمن كثيرًا من الهجوم على مصممة الألعاب.

وفي رأي المؤلف فإن نموذج “فضيحة مصممة الألعاب” تجاوز استهداف شخصية كوين، وأصبح يرمز وبشكل مباشر إلى حالة التطرف التي تعتري رواد منصات التواصل الاجتماعي، التي كثيرًا ما تسببت في تحطيم حياة كثيرين، خاصة في المجتمع الأميركي، وهي الحالة التي وضعت حدًا فاصلًا ما بين الفضاءات الرقمية والفضاءات غير الرقمية، وما بين الثقافة وثقافة الإنترنت.

ويضيف المؤلف، أن نموذج “فضيحة مصممة الألعاب” دشن نمطًا جديدًا من السياسة قائم على السمات الأساسية لوسائل التواصل الاجتماعي؛ مثل: الثقافة الرقمية الخاصة بأولئك الشباب العدميين، وأحلام وادي السليكون بما يُعرف بالقوة التدميرية.

ويعتقد ماكس فيشر أن فضيحة مصممة الألعاب في 2014 وضعت اللبنات الأولى لما سيأتي بعدها من عنف لفظي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة بعد وصول الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى سدة الحكم في 2016، وظهور ما عُرف بعد ذلك باسم “تيار الترامبية”.

ويضيف أن نموذج فضيحة مصممة الألعاب، وما تلاه يمكن عزوه إلى ما يمكن تسميته بحالة انتقام الشباب والأولاد الذين أصبحوا يقضون جّل حياتهم على الإنترنت، من الحياة الأميركية التي لم تهتم بهم وتركتهم فريسة للضياع، ينتقمون من كل من يجدونه على منصات وسائل التواصل التي اتخذوها ملاذًا تدربوا فيه على إلقاء اللوم على الآخرين.

تدخل الخوارزميات في حياة الناس

يستحضر الكاتب ماكس فيشر في كتابه “آلة الفوضى” وقائع فيلم “2001: رحلة فضائية” ففي هذا الفيلم الذي عُرض في 1968 يقتل حاسوب عملاق رواد فضاء كانوا على متن مركبة فضائية متجهة نحو كوكب المشترى، ويسعى في كتابه هذا إلى تقديم الأفكار التي تعيننا على إصلاح التقنية قبل أن تخرج عن نطاق سيطرتنا.

وحسب الناقدة شو، فإن الطريقة التي يربط بها المؤلف بين موضوعات: الطغاة، والحروب، والاضطرابات، وأعمال الشغب المفاجئة، والجماعات الراديكالية الجديدة التي تؤمن بشكل كبير بما يعرف بنظريات المؤامرة، هي طريقة مقنعة إلى حد كبير، وقادرة على إبعاد أي شكوك حول ما يتصل بتدخل الخوارزميات في حياة الناس.

ويركز المؤلف على دور الخوارزميات في استغلال مشاعر الغضب، وإسهام المنصات في تعزيز الاستقطاب الذي يأتي بمزيد من المستخدمين إلى منصاتها، الأمر الذي ينعكس بدوره في ارتفاع عائدات الإعلانات، ويقدم التفاصيل عن تطور التقنيات السلوكية التي تكذب ادعاءات ممثلي وسائل التواصل، بأن مؤسساتهم لا تقصد التلاعب.

ويقول المؤلف، إن أحد أهم الأسرار المعروفة أنه “لا أحد يعرف تمامًا كيف تعمل الخوارزميات التي تتحكم في وسائل التواصل الاجتماعي”.

وترى الناقدة شو أن ماكس لا يسهب كثيرًا في الحديث عن حقيقة أن مزيج الجهل والغطرسة موجود بالفعل في العلوم السلوكية التي استخدمتها منصات وسائل التواصل الاجتماعي وبشكل متهور، بيد أنه أجرى عددًا من المقابلات مع العديد من علماء النفس، ضمن مسعاه الحثيث لفهم الكيفية التي تعمل بها وسائل التواصل الاجتماعي للتأثير في عقول المستخدمين، وقد توصل إلى نتائج ستذهل قراء كتابه.

وفي تعليقها على الكتاب تقول الناقدة الأميركية جوليا كلين، في مقال عن الكتاب نشرته في موقع جامعة “جون هوبكنز”، إن المؤلف يورد بيانات وحكايات قاتمة، ويشير إلى تورط منصات التواصل الاجتماعي في العديد من موجات العنف والاضطرابات السياسية في كل من أوروبا، وآسيا، وأميركا اللاتينية والولايات المتحدة.

وحسب كلين فإن المؤلف يوضح أن مواقع؛ مثل: فيسبوك وتويتر وريديت ويوتيوب، لا تستقطب الخطاب السياسي وتفريخ نظريات المؤامرة فحسب، بل تعمل على إبراز المحتوى المتطرف، وتسمح للمجانين الذين كانوا في معزل من الالتقاء ببعضهم بعضًا.

وتوصل المؤلف إلى أن جذر المشكلة يتمثل في العقلية غير الأخلاقية والموجهة نحو الربح التي ينسبها إلى قادة وادي السيليكون، الذين يعملون تحت عباءة “حرية التعبير المطلقة، والخوارزميات الشيطانية المصممة لزيادة تفاعل المستخدمين”.

وحسب المؤلف فإن نتائج كل ذلك كانت كارثية، وهي تضاهي إلى حد كبير ما تسبب به البث الإذاعي المليء بالكراهية من إبادة جماعية في رواندا في 1994.

وفي هذا السياق أشار المؤلف إلى أن منشورات فيسبوك تسببت في مذابح مسلمي الروهينغا في ميانمار، وأطلقت العنان للعنف ضد المسلمين في سريلانكا، كما حرضت بعض المقاطع المرئية في يوتيوب على العنصرية واستهداف اللاجئين في ألمانيا.

ونختتم بإشارة الناقدة شو، وهي أن الدروس المستفادة من كتاب ماكس هي أن البشرية بحاجة على أن يصبح أفراد المجتمع قادرين على مقاومة الجهود التي تسعى إلى نشر الفوضى، وأن هناك العديد من الوسائل للقيام بذلك في حال توفر الإرادة السياسية، وفي حال عدم تدميرها بواسطة “آلة الفوضى”.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post لهذا السبب.. إنتاج القمح الأوكراني قد يتراجع خلال 2024
Next post “لم يكن صدفة”.. إسرائيل تعمّق ورطة وزيرة خارجية ليبيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading