علامة استفهام (51) | ماذا نفعل عندما لا نستطيع أن نفعل شيئًا؟ | آراء


(1)

قبل أن تتورَّط بالقراءة، أحذِّرك؛ فأنا لم أجد إجابة قاطعة لهذا السؤال!

فلا تنتظر أو تتوقع ردًّا شافيًا؛ إنما هو حديث نفس، فشاركني فيه.

(2)

لا يمكن أن نمكث هكذا، نتابع بحسرة أخبار بلادنا: اليمن، مصر، العراق، سوريا، فلسطين، وغيرها، نفكر كثيرًا فيما يجب أن نفعله، فنجد أننا لا نستطيع أن نفعل شيئًا؛ لقد أحكموا الحصار حولنا، وقرَّروا أن يُخرسونا تمامًا؛ أملًا في وأد أحلامنا بالحرية والعدل والمساواة، فأغلقوا كل الأبواب أمامنا، يَعرضون علينا خياراتهم؛ أن يكون المرء منَّا عبدًا، أو شيطانًا ساكتًا عن الحق، أو سجينًا، أو مهاجرًا.

نحن عاجزون تمامًا، غاضبون حد الانفجار، منكسرون، مطئطئون الرؤوس، نرى في بثٍّ حي ما يجري -إن لم نكن نحن أنفسنا جزءًا مما يجري- ثم نعجز عن القيام بشيء، أي شيء.

أتذكَّر المسلمين في جمهورياتهم زمن الاتحاد السوفياتي، فقد جرَّمت السلطات كل شيء، ومنعت كل شيء له علاقة بالدين، حتى حرمت المسبحة، فلجأ المخلصون منهم إلى “الحجرات”؛ فقرروا الاكتفاء بتحفيظ أولادهم القرآن.

أفكر هكذا..

لا ينبغي أن نستهلك هذه الطاقة الجبارة من الغضب لدينا في الشكوى وندب الحال ولعن الجناة، لا بد أن نُخرج هذه الطاقة في شكل عمل، عمل ما، حتى لو كان محدودًا، نرفع به عن كاهلنا هذا الألم، وندَّعي أننا قمنا بما في وسعنا، نبرأ به أمام الله تعالى، ثم أمام أطفالنا، عمل ما، حتى لو كان محدودًا، فذلك أفضل من لعب دور الأخرس الأصم الأعمى.

لا شك أن العمل الجماعي هو الأكثر تأثيرًا والأسرع، لكن يبدو أنه خيار ليس متاحًا الآن، أو قل: إن حجم المخاطر كبيرة، والناس المثقلة بالفقر والقيد لا تستطيع تحمُّل عواقبه.

(3)

هناك حل محتمَل!

إذا لم يكن بوسعنا أن نغيِّرهم، فلنغيِّر أنفسنا أولاً، والحق أنهم لن يتغيروا حتى نتغير، ولكلٍّ طريقته.

الأقنعة التي سقطت في مواسم الربيع العربي لم تسقط فقط عن رموز دينية ووطنية ومعارضة وفنانين وأدباء وغيرهم، إنما سقطت عنَّا جميعًا.

كل الأمراض التي نحاربهم عليها نعاني منها نحن، وإن كانت ليست بالشدة نفسها.

كنا نطالب بإسناد القيادة إلى الشباب بينما التنظيمات الدينية والوطنية كانت تُسندها إلى عجائزها.

كنا نطالب بحرية التعبير، بينما نهاجم ونخوِّن كل مَن يخالفنا.

نتكلم عن العدل، بينما لا نحقِّقه إلا مع مَن يوافقنا مواقفنا.

نُدين الفساد ونحن غارقون فيه بشكل أو بآخر.

لذلك نحن بحاجة إلى ثورة، هذه المرة ثورة ضد أنفسنا.

وإذا كانت كلمة “الثورة” تحمل حساسيات كثيرة للبعض، فلنقل: نحن في حاجة إلى الهجرة؛ نهاجر ونحن في بلادنا، نغادر كل المفاهيم التي حاصرتنا واستعبدتنا أكثر مما استعبدنا حكامنا، مرة باسم الدين، ومرة باسم الوطن، والدين والوطن أبرياء منها.

نحن في حاجة إلى أن نُولد من جديد، أن نُعيد تشكيل أنفسنا، أن نُربي أنفسنا بأنفسنا، أن نُخلص للمبادئ التي نرفعها، ونُطبقها على أنفسنا أولًا.

لا ننتظر حلاًّ من السماء، المسألة واضحة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد:11].

نحن في حاجة إلى أن نحطِّم كل السجون التي بنيناها بأنفسنا لأنفسنا.

نحفر الأرض ولو بإبرة.. ثم نهرب.. نجري.

نحن في حاجة إلى أن نذهب بعيدًا جدًّا.

أن نفعل فِعل المهاجر، الذي يهجر محيطه، ويذهب إلى آخر، يرجو أن يكون أفضل.

نحن بحاجة إلى أن نتوقف عن الكلام ونطيل الصمت.

أن نُعمل العقل كثيرًا لا اللسان.

أن نقضي وقتًا أطول مع أنفسنا.

أن نتخذ القرارات بالفعل، لا أن نظل نحلم بها.

بصراحة… نحن بحاجة إلى أن نكون شجعانًا.

هل سيُسقط هذا الطغاة؟

نعم… ولكن على المدى البعيد.

عندما نكون أقوياء على المستوى الفردي، سنكون أقوياء على المستوى الجمعي، وسنجد ساعتئذ ألف حل خارج الصندوق.

ولن نكون أقوياء ما لم نتغير.

إنه خيار فردي، على كلٍّ منَّا أن يقوم به.

وعيبه أنه يبدو انكماشًا على أنفسنا، وكأن كلًّا منَّا يبحث فيه عن حل لنفسه، بشكل فردي، وقد ترك القضايا المشتركة.

(4)

ثمة حل آخر

أتذكَّر المسلمين في جمهورياتهم زمن الاتحاد السوفياتي، فقد جرَّمت السلطات كل شيء، ومنعت كل شيء له علاقة بالدين، حتى حرمت المسبحة، فلجأ المخلصون منهم إلى “الحجرات”؛ فقرروا الاكتفاء بتحفيظ أولادهم القرآن -حتى إن لم يفهموا العربية- في غُرف تحت بيوتهم، تلك التي نُطلق عليها “البدروم” ويُطلقون عليها “الحجرات”، وبالتأكيد في سرية تامة.

كانت وجهة نظرهم: إن لم يكن بوسعنا أن نحقق النصر، فلننقل المسؤولية إلى أبنائنا، كأن جيل الكبار العاجز عن الفعل بات بمنزلة الجسر، كل دوره أن يَنقل المعتقد إلى الجيل المقبل.

وبالفعل ولأن لا شيء يدوم فوق هذه الأرض، فقد سقطت الشيوعية، وانهار الاتحاد السوفياتي، وخرج هؤلاء الذين كانوا يتعلمون القرآن سرًّا، ليؤثِّروا في بلادهم.

بالتأكيد لا أتكلم عن البُعد الديني في الأمر، لكن أتكلم عن الفكرة، فكرة الجسر، إذا لم يكن باستطاعتنا تحقيق النصر، فلننقل المهمة إلى الجيل القادم، أي أن ننشغل بتربيته وإعداده لمرحلة يحقق فيها ما فشلنا فيه.

وهي مهمة ليست سهلة، خصوصًا أن المطلوب تربية جيل على قِيم ومفاهيم نحن أنفسنا غير معتنقين لها، غير عاملين بها، لكنها -على الأقل- محاولة.

وأنا لا أقصد أولادنا من أصلابنا، ولكن أتحدث عن الجيل كله، أن نصرف جهدنا للجيل الجديد.

نعم.. إننا في أتون الحرب، وعلى ما في ذلك من سلبية إلا أن به من الإيجابية ما يكفي؛ فالتربية لا تكون في أنابيب اختبار، وإنما على أرض الواقع، الواقع المؤلم جدًّا.

نحن جسر، وعلى الجسر أن يُتمّ مهمته على أكمل وجه، وأن يتحمل ثقل مسؤوليته، ويؤديها بأمانة وإخلاص، ودون توقُّف.

(5)

لكن لماذا لا نمارس الحلين في آن واحد؟

العمل على المستوى الفردي، والعمل كجسر للجيل الجديد.

إنها مهمة ليست سهلة أبدًا، وقد تخور قوى بعضنا، لكن هذا شأن كل معركة، المخلصون يواصلون، وغيرهم ينكسرون.

قد تتفقون معي أو تختلفون…

لا بأس، المهم ألا نَصمت عن القول والفعل.

إنَّ ما يجري في حقنا وحق بلادنا وأولادنا أمر فظيع، واليأس معصية لا يجب أن نرتكبها بأي حال.

كل شهيد، كل معتقل يموت في السجون، كل لاجئ في خيمته، النساء، والأطفال والعجائز، لن يتوقَّفوا عن لعن الجناة أبدًا.

ونحن من الجناة إن صمتنا ولازمنا السكون.

 

Previous post النائب جريفز يتفاوض بشأن سقف الديون ويبقي الحزب الجمهوري المتصدع موحداً
Next post سأعيد جميع اللاجئين إلى بلادهم حال فوزي بالانتخابات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *